قراءة واقعية لتحالف السودان التأسيسي(١ – ٣)

✍🏿 بقلم: الجاك محمود أحمد الجاك

 

أحدث التوقيع على ميثاق التحالف التأسيسي والدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة ٢٠٢٥ في العاصمة الكينية نيروبي نهاية الأسبوع الماضي زلزال سياسي غير مسبوق في البلاد. وما زالت تتوالى ردود الأفعال بصورة عنيفة يوما بعد يوم، خاصة من قوى المركز ونخب النادي السياسي القديم حتى ممن كنا نحسبهم في غفلة من الزمان أصدقاء وحلفاء محتملين وشركاء في مشروع التغيير لنفاجأ بأنهم الحرس الأيديولوجي للسودان القديم. تلك النخب التي ما زالت ترى أن من حقها وحدها إحتكار أدوات الفعل السياسي والتحكم بشكل مطلق في إدارة المشهد السياسي وتحديد قوانين اللعب السياسي وفرضها على الآخرين ليبصموا عليها. توزع صكوك الوطنية لأبواقها ممن شايعها مطأطأة راسها صاغرة ذليلة أمامها راضية بلعب دور عبيد المنازل في مشهد غاية في السخرية والوضاعة، فيما تمارس ذات النخب الإبتزاز السياسي الرخيص من خلال شيطنة وتخوين كل من يخالف ثوابتها وتوجهاتها ويدوس على تابوهاتها السياسية. وقد عز على هذه النخب الفاشلة التواضع والتحلي بالشجاعة للإعتراف بأن مشروع السودان الجديد بات يمثل في الواقع برنامج الخلاص الوطني الوحيد لكل السودان في ظل غياب مشروع وطني حقيقي منذ ما يسمى بإستقلال السودان والسبب في ذلك كما قال رجل المهام الصعبة ورئيس الحركة الشعبية القائد عبدالعزيز آدم الحلو يرجع لفشل الآباء المؤسسين والنخب التي تعاقبت على حكم السودان في إنجاز مهام البناء الوطني وبناء دولة موحدة قابلة للحياة، وفشل السودان القديم في إدارة التنوع والإجابة على سؤال كيف يحكم السودان، هذا السؤال الذي طالما ظل عالقا مع غيره من الأسئلة الدستورية والتأسيسية منذ ما يسمى بإستقلال السودان، ذلك الفجر الكاذب.

الحقيقة لم ترث شعوب الهامش منذ العام ١٩٥٦ من السودان القديم سوى تاريخ طويل من الظلم والإضطهاد والعنصرية والتهميش، والحروب التي خلفت أنهر من من الدماء والدموع. فيما ظلت نخب الشمال والوسط النيلي منذ العام ١٩٨٩ تتآمر على أى ثورة وطنية يقودها أبناء الهامش. تآمروا على الثورة المهدية في عهد الخليفة عبدالله التعايشي، ولأسباب عنصرية خانوا ووشوا بالبطل علي عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ ورفاقهما في جمعية اللواء الأبيض ١٩٢٤ تلك المؤامرة التي إنتهت إلى إحتلال السودان بواسطة المستعمر الإنجليزي. قررت قوى الهامش هذه المرة وضع نهاية لسياسات وتوجهات وممارسات السودان القديم التي لم تنتج غير الحروب وما زالت تهدد وحدة ما تبقى من السودان. وبالرغم من الإنتقادات الموجهة لتحالف السودان التأسيسي، إلا أنه عكس عبقرية سياسية منقطعة النظير أعطت قوى الهامش وقوى السودان الجديد لأول مرة منصة إنطلاق وأمل كبير في الخروج من الدائرة الشريرة، دائرة الإرهاب الديني والإبتزاز الأيديولوجي ومشروعية العنف. لقد نجحت نيروبي في إعادة رسم المشهد السياسي المعقد في السودان بعد قراءة متأنية وتحليل عميق في ظل إنسداد الأفق السياسي. وأكد ميلاد تحالف السودان التأسيسي وجود إنقسام وطني عميق ودحض فرضية وأكذوبة إصطفاف كل السودانيين خلف القوات المسلحة فبما يسمى بمعركة الكرامة، وبدل قواعد اللعب السياسي وعمل على خلق توازن قوة جديد على الأرض.

السياسي الحصيف هو من يقرأ حركة التاريخ جيدا ويتعلم من تجارب الشعوب ليعتبر منها. فكثير من الدول والشعوب والأمم، وفي سياق تحولاتها التاريخية وثوراتها الوطنية ضد الأنظمة الإستبدادية والعنصرية والثيوقراطية نجحت بفضل العقلانية والواقعية في تجاوز مرارات الحروب والعنصرية وتحررت من جحيم الطغيان والإضطهاد والإستبداد، وتعلمت من تجاربها المريرة فإستخلصت منها عبر ودروس مكنتها من النهوض والإنطلاق إلى مصاف الدول المتقدمة. وعلى صعيد القارة الأفريقية نجد تجربة جنوب إفريقيا التي عاشت عقود طويلة من نظام الفصل العنصري Aprthied لكن عندما تيقن البيض أنه لا مستقبل لنظام الفصل العنصري الذي بلغ مرحلة إنسداد الأفق بعد أن صار مرفوضا إقليميا وعالميا، خاصة بعد رفع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية الغطاء عن نظام الأبرتايد نتيجة لتنامي الضغط الجماهيري، الأمر الذي دفع آخر رئيس من البيض السيد وليام فريدريك ديكلارك إلى إقناع البيض بضرورة التفاوض للوصول إلى تسوية تضمن للبيض مستقبل آمن في جنوب إفريقيا جديدة. رأى ديكلارك وقتها في الزعيم نيلسون مانديلا أنسب شخص يمكن التفاوض معه للوصول إلى تسوية بين السود والبيض، فقام بإخراج مانديلا من معتقله في جزيرة روبن. مانديلا لم تمنعه المظالم وجرائم نظام الفصل العنصري أو مرارات بقاؤه معتقلا في زنزانته المنفردة ل ٢٧ عاما من التصدي لمسئؤليته التاريخية والأخلاقية كزعيم لإنجاز تسوية تاريخية تنهي مأساة شعبه الذي إكتوى بجرائم الفصل العنصري. بل خاض حوار شاق ومضني لإقناع رفاق نضاله في الكتل الثورية الثلاث التي كانت تناضل تحت مظلة المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي وهى الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي (SACP) – مؤتمر حركة عموم أفريقيا (PAC) – وكتلة إتحاد العمال (COSATU) بضرورة التخلي عن خيار الإنتقام والتفاوض مع البيض. فمانديلا كان واقعيا وسياسيا حصيفا لأنه أدرك أنه لا مناص من التفاوض مع البيض وضمان مستقبلهم في جنوب أفريقيا جديدة تسع الجميع، لأن البيض وبالرغم من إدراكهم لحتمية زوال نظام الفصل العنصري إلا أنهم ما زالت بيدهم مصادر قوة حقيقية تمثلت في ترسانة السلاح والسيطرة على مفاصل الإقتصاد بالإضافة إلى إمتلاكهم إمتداد وعمق خارجي قوي. ظل مانديلا يردد مقولته الشهيرة: (جنوب أفريقيا بين مخاوف البيض ومآسي الزنوج، قائلا إن في الخروج من هذا المأزق تكمن جنوب أفريقيا الجديدة) فكان له ما أراد إذ تمكن من إنجاز التسوية رغم بعض مآخذنا على تلك التسوية نجح مانديلا في طي عهود مظلمة من مآسي الفصل العنصري مرة واحدة وإلى الأبد. رواندا هى الأخرى كمثال آخر يحتزى به إستطاعت تجاوز مرارات الجينوسايد بواقعية وشجاعة عندما قرر الروانديون المضي في طريق المصالحة بصدق فأصبح الروانديون اليوم أكثر شعب ينبذ القبلية والعنصرية في قارتنا السمراء وهو ما أهل رواندا للنهوض والتقدم على كثير من دول القارة في التعليم والإقتصاد وفي التنمية. ودونكم أيضا جمهورية ألمانيا الإتحادية التي مرت بعصر الرايخ وتجربة النازية والهولوكوست والحربين العالميتين لتصبح أقوى إقتصاديات العالم بفضل تجاوز العنصرية وتجاوز مفهوم تفوق الجنس الآري. شعوب أوربا أيضا تعلمت وإعتبرت من حرب الثلاثين عاما فتوافقت على مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي نشأت بموجب معاهدة ويستفاليا في العام ١٦٤٨. كما تعلمت الشعوب الأوربية من الثورة الفرنسية التي ألهمت الأوربيين وغيرت مجرى التاريخ الحديث وأحدثت تأثيرات عميقة في أوربا والعالم. قادت الثورة الفرنسية إلى إنهيار الملكية المطلقة وإنهاء إستبداد الكنيسة وفصلت بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، ووضعت وثيقة حقوق الإنسان والمواطن التي أصدرتها الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية وأعتبرت جميع مواد هذه الوثيقة مبادئ فوق دستورية، وشكلت وثيقة حقوق الإنسان والمواطن فيما بعد أساسا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تبنتها الأمم المتحدة في العام العاشر من ديسمبر ١٩٤٨. وضمنت كثير من دول العالم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في دساتيريها كمبادئ فوق دستورية بوصفها تتويجا لنضالات البشرية عبر مئات السنين، ووفاءا وتكريما لملايين الضحايا الذين قدموا أرواحهم ثمنا لهذه المبادئ. لقد فتحت الثورة الفرنسية الطريق أمام نهضة وتقدم الشعوب الأوربية وهنا يكمن سر تفوق الأوربيين، بينما نحن في السودان ما زلنا نعيش خلف أسوار التاريخ بسبب العقلية الرجعية وعنصرية الأقلية الحاكمة. نحن في السودان لسنا إستثناء، وعلينا التعلم من تجارب الشعوب التي سبقتنا، ولا يمكن أن نظل أسرى لمرارات الماضي، كما لا يمكن أن نصر على إلغاء الآخر طالما هو واقع موجود على الأرض. فالعداوة مع الدعم السريع مثلا بالنسبة لنا هو جزء من الماضي طالما إقتنع بالواقع وحدث فيه تحول وهو على إستعداد لدفع إستحقاقات النضال لتفكيك السودان القديم وبناء سودان جديد. فليس من المنطق أن تظل العداوة مع الدعم السريع جزء من الحاضر والمستقبل. هكذا يجب أن تكون المقاربة والمعادلة بدلا عن مغالطة الحقائق وإنكار الواقع على الأرض.

نلتقيكم في الجزء الثاني من المقال،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.