قراءة للراهن السياسي ولماذا تحاول الدعم السريع التصعيد العسكري في دارفور ومن يفكر لها!
بشمهندس/ محمد فاروق سلمان.
التصعيد العسكري في دارفور من قبل الدعم السريع في مدينتي نيالا والفاشر ليس المقصود به تعزيز موقف تفاوضي في محادثات جدة الان. ولكن المقصود خلق واقع جديد في الحرب، بعد خسارة الدعم “الاخلاقية” لحرب الخرطوم، وذلك من خلال انخراط قواته في عمليات نهب وسلب واسعة للمتلكات الخاصة والعامة والبنوك.
موقف جديد يقوم على صناعة جنوب جديد، يضمن بموجبه الدعم السريع وجهة سياسية، قبل وجود وجه سياسي له* ، يدخل بموجبه الدعم السريع لمفاوضات جدة، أو اي مفاوضات سلام اخرى، وفق سيناريو نيفاشا الذي اتاح للحركة الشعبية وقتها الانفراد بالحكم في الجنوب بدرجة اكبر (شبه مطلقة) والمشاركة في الحكم على المستوى القومي بدرجة كبيرة.
الدعم السريع يخطط الان لتحقيق انتصار عسكري سريع، يمكن بموجبه عبر التفاوض ان يأخذ حكم جزء من دارفور منفرداً (ليست بالضرورة اغلبها حتى)، وبما يضمن وجود مستقل لجزء كبير من قواته كجيش مستقل هناك (على نحو ما كانه الجيش الشعبي في الجنوب)، ويشارك في حكم ما تبقى بالسودان ويضمن دمج جزء من قواته في الجيش السوداني كنواة للجيش القومي الموحد، وفق نفس حيلة نيفاشا وقتها؛ في التبرير لوجود جيشين بعد اتفاق سلام في حرب اهلية، كسابقة اثبتت عدم جدواها حتى في تعزيز خيار الانفصال واستقلال الجنوب**.
لا اعتقد ان خطوات الدعم السريع الحالية يمكن مقاربتها حتى بالتصعيد العسكري ايام نيفاشا في مدينة توريت، والتي شهدت معاركها الاخيرة خسائر في الارواح من الجانبين على اعتاب الوصول لاتفاق سلام، وبلا ضرورة الا في اختبار توازن الضعفاء الذي حكم اتفاقية السلام الشامل في ٢٠٠٥، باكثر من الرغبة في السلام فعليا؛ مع يأس غالبية الحركة الشعبية لتحرير السودان في تحرير كامل السودان!، ووعي المؤتمر الوطني بعدم ايمانه بالوحدة الوطنية على اساس خسارة حكمه!!
لا يمكن لحرب الدعم السريع، المصنوعة في تفصيلها على ازمة دولة ٥٦، ان تستمد مشروعية سياسية، باي حال، وهذا واضح في عجز حلفائها السياسيين قبل اعداءها في اقرار تحالف سياسي معلن حتى الان على قرار التجمع الوطني الديمقراطي، ومشاركة حتى حلفاء الحركة الشعبية في الحرب على نظام الخرطوم وقتها من خلال فصايل التجمع الاخرى في قوات التجمع وتحت قيادة قرنق نفسه للقوات المشتركة!
اي محاولة لاعطاء مجرد بعد سياسي حتى، لتمرد قوات الدعم السريع كجزء من المكون العسكري، داخل الدولة السودانية واحد اركان عنف دولة ٥٦، لن يكون استدارة في تصحيح ادوات عنف هذه الدولة وفي مقدمتها هذه القوات، وستعزز من ضرورة حلها كمليشيا، باكثر مما يمكن لتطويل اماد الحرب، وتوسيع دوائرها، ان يجعل طرح اعادة دمجها وتسريحها جزء من عملية الاصلاح الامني والعسكري الشامل.
لو هنالك ناصح لقادة الدعم السريع فان دارفور لن تكون بافضل من الخرطوم على مستوى خسارتها اخلاقيا من قبلهم، فتاريخ وجود هذه القوات هناك لا يمكن ان يرتبط برغبة في التحرر وتحقيق العدالة الا منها وعلى نفسها، وازيد في النصح كون الموقف التفاوضي الان لهم افضل بكثير من اي وقت قادم مهما بدأ أسوأ مما كان لديهم قبل الحرب فقد سبق السيف العزل، فلا ترهقوا انفسكم وغيركم عزولا.
وان هنالك ناصحا للجيش وقياداته فان اي حل عبر التفاوض لن يكون لتعزيز انتصار عسكري عليه البحث عنه في اللحظات الاخيرة، والفرص التي تهبط من السماء، ولكنه فرصة حقيقية لاصلاح اخطاء هذه القيادة، وتجنيب البلاد مالات هذه الاخطاء والتمادي في ارث العنف والانتهاكات كسبيل وحيد لبسط سلطة الدولة دون تراضي بين السودانيين، وان كان صفة ما قام به الدعم السريع هو التمرد على قوات الدولة المسلحة، فان صفة طموح قادة الجيش في الحكم هو التمرد على الدولة نفسها وتهديد وجودها ووحدة قواتها المسلحة وتعريضها للتمرد المسلح سواء من قبل قوات نظامية او مجموعات سياسية تطمح للحكم او لاقامة تعاقد اجتماعي على التراضي لن يتم الا بتهديد احتكار الدولة للعنف وتعريضها لمخاطر امنية يدفع الجيش وجنوده ثمنها الافدح.
يمكننا جميعا الان انهاء عهود التمادي في (نقص) العهود والمواثيق و(نقض) هذه العهود والمواثيق، من خلال التفاوض وفق مباديء السلام وتجاوز شروط الحرب وتوازناتها اللحظية: فشرط السلام هو العدل وتعزيز المساواة، وهو ما يمكن استدامة السعي لتحقيقه، وتوازنات الحرب هي القوة وتعزيز الامتيازات وهو ما لم يستمر طوال تاريخنا لاكثر من عقد من الزمان.
_____
* خلاف طبعا هذا الترديد الفطير لدولة ٥٦ والحرب علي الفلول، والتي يشكل وجود الدعم السريع اكبر تعزيز لقدرة الاثنين، او هذا الدفاع الخاوي عن المدنية والديمقراطية والتي شكل اداءه اكبر تهديد لها؛ من خلال اجهاضه لسلمية الثورة السودانية عبر حربه هذه.
** وجود جيش مستقل كشرط سابق لشروط الدولة الوطنية نفسها، هو من اهم تشوهات دولة ما بعض الاستعمار الوطنية، واحد اسباب تناسل متلازمة الاستعمار الوطني التي عجزت عن تحقيق الديمقراطية والتنمية والالتزام بالعدالة في نموذج فشل تجارب الحكم الوطني في افريقيا، والابقاء على نمط السلطة القائم على الهيمنة والاختلال.