في شأن خطاب الكراهية العنصرية
✍️ عمر مصطفى شركيان
منذ سقوط نظام الإنقاذ نظريا، وبقائها عمليا في صورة لجنته الأمنية، ظل كثر من السودانيين الحادبين على السلام، والحالمين بالعدالة في الوطن يتساءلون عن مصدر وجذور خطاب الكراهية العنصرية الذي انتشر في وسائط التواصل الاجتماعي بصورة مقززة، ولا تمت إلى الأخلاق الإنسانية السوية في شيء من الصلة قليل. قد يرى البعض أن هذا الخطاب قد ظهر فجاءة مع تسارع الأحداث السياسية والحروب الأهلية التي أخذت تطال البلاد في طولها وعرضها، لكن في واقع الأمر ظلت هذه الكراهية العنصرية كامنة في نفوس كثر من السودانيين، وظلت دفينة، حتى ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، وأضحت بوقا لكل من هب ودب يتزيد ويستكثر فيه في الأوساط الاجتماعية والسياسية، ثم يفوض نفسه سياسيا يسوس أمر البلاد والعباد، حتى الرئيس المخلوع عمر البشير لم تعفيه مسؤوليته في الدولة بالنطق بهذه اللفاظ العنصرية، فهو الذى استعان بقصيدة المتنبي الشهيرة في وصف كافور الاخشيدي، حين وقع النزاع العسكري بين الخرطوم وجوبا في الهجليج:
لا تشتري العبد الا والعصا معه/ ان العبيد لأنجاس مناكيد
كان ذلك في العلن على الأقل، وما تردد عنه في أمر العنصرية كثير جدا لا يسعنا المجال هنا في استقصائه واحصائه.
المهدي بتبنيه الإسلام عقيدة وممارسة، مارس نمطا من العنصرية؛ أفلم تسمعوا بالقول الشعبي “الحمرة الأباها المهدي!”، وذلك في إشارة إلى الحلب في السودان. حتى النكات التي يطلقها البعض، بما فيها من نعوت عنصرية، ويحسبها هذا البعض نمطا من التفكه، لكنها في أسوأ الأحوال غير مقبولة أبدا، وتتعارض مع مبدأ الصواب السياسي (political correctness).
ومع ذلك قد ينبري لنا أحد ويقول نحن معشر السودانيين شعب طيب الأعراق ومسالمين نحب السلام، ونتطلع إلى حياة الوئام، وما زال في مخيلتنا مذابح أهل الجنوب المدنيين في حفل الزفاف في جوبا وبعد أسبوع واحد فقط تكررت المذبحة في واو في حفل زفاف آخر أيضا وفي نفس العام، أي العام ١٩٦٥م، واستباحة دماء قبيل الدينكا في بابنوسة والمجلد في الستينيات، واغتيال الزعيم الجنوبي ويليام دينق في اأحراش الجنوب بعد أن ارتضى بالعملية السلمية، وعاد إلى البلاد واشترك في مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم في آذار (مارس) من العام ١٩٦٥م، وإذا به يغتاله عسكر الحكومة وبتواطؤ مع الحزب السياسي الحاكم في نفس العام، وإذا التحريات تصل يدها إلى الأيادي
الاثمة، ولكن دون أن تصل العدالة إلى مجراها. وما بالكم بمذبحة الضعين وعودة الرق في السودان في آذار (مارس) ١٩٨٧م، ومذبحة الجبلين في أعياد المسيح في كانون الأول (ديسمبر) ١٩٨٩م، ومذبحة هيبان في أعياد المسيح أيضا العام ١٩٩٢م، والمذابح المستكثرة الأخرى في النيل الأزرق، وفي إقليم دارفور منذ العام ١٩٨٧م حتى هذه اللحظة. كل هذه المجازر الدموية للمواطنين الأبرياء العزل كان وقودها خطاب الكراهية العنصرية، ثم أضافوا إلى هذا الخطاب العنصري اللعين الدعوة إلى الجهاد في أمر حرب سياسية، وبتديين الحرب الأهلية استصعبوا حل المشكل السياسي، وقضية الهوية الوطنية. وحين لم يفلحوا في الحشد لمواجهة الحركات المسلحة في دارفور على أساس ديني، لجأوا إلى قضية الاثنية بصورة صارخة، ثم ارتكنوا إلى وصف أهل دارفور زعما وبهتانا بالعمالة للمخابرات الأجنبية، وإنهم لينفذون أجندة دول الاستكبار الاستعمارية.
هل تعلمون أن موظفا صغيرا في وزارة المالية، أو أية وزراة خدمية في الخرطوم، كان يستطيع أن يوقف ميزانية الجنوب، أو أية إعانة مخصصة إلى الجنوب، وتحويلها إلى منطقة أخرى في الشمال، وذلك دون رقيب أو حسيب. في عهد نميري كان القطار المحمل بسكر الجنوب يصل كوستى وحينئذ يختفي في أسواق المدينة، أو في أحسن الأحوال أسواق مدينة الأبيض.
تظنت الأنظمة الحاكمة في الخرطوم عبر السنوات أن قتل مواطني الهامش بهذه الصورة البشعة سوف تحقق السلام والوحدة الوطنية، لكن هذه المذابح خلقت عوامل نفسية، وخلفت نضوبا جسدية أمست تنتقل إلى الأجيال جيلا بعد جيل، وأن أغلب الذين انخرطوا في حركات التمرد كانوا ضحايا التجاوزات الإنسانية السابقة، أو قد شهدوا ما ألم بأهليهم الأقربين.
ما لم يتحرر السودانيون من خطاب الكراهية العنصرية اسرارا أو جهارا، ويغيرون ما في أنفسهم، فإن أية جهود لاحلال السلام سوف لا تقود إلى شيء. القضايا السياسية والاقتصادية، قد يتم التوصل إلى حلها، لكن مسألة الهوية والعلاقات الثقافية والاجتماعية ينبغي حلها بشفافية، وتجفيف منابع الكراهية العنصرية، والتعالي على البعض، واجتذاذ عبارات العبودية والرق وغيرها، وأن تكون هناك قوانين رادعة لمراقبة مثل هذه الاساءات. أما إذا لم نفعل ذلك، فإننا نحرث في البحر.
منذ سقوط نظام الإنقاذ نظريا، وبقائها عمليا في صورة لجنته الأمنية، ظل كثر من السودانيين الحادبين على السلام، والحالمين بالعدالة في الوطن يتساءلون عن مصدر وجذور خطاب الكراهية العنصرية الذي انتشر في وسائط التواصل الاجتماعي بصورة مقززة، ولا تمت إلى الأخلاق الإنسانية السوية في شيء من الصلة قليل. قد يرى البعض أن هذا الخطاب قد ظهر فجاءة مع تسارع الأحداث السياسية والحروب الأهلية التي أخذت تطال البلاد في طولها وعرضها، لكن في واقع الأمر ظلت هذه الكراهية العنصرية كامنة في نفوس كثر من السودانيين، وظلت دفينة، حتى ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، وأضحت بوقا لكل من هب ودب يتزيد ويستكثر فيه في الأوساط الاجتماعية والسياسية، ثم يفوض نفسه سياسيا يسوس أمر البلاد والعباد، حتى الرئيس المخلوع عمر البشير لم تعفيه مسؤوليته في الدولة بالنطق بهذه اللفاظ العنصرية، فهو الذى استعان بقصيدة المتنبي الشهيرة في وصف كافور الاخشيدي، حين وقع النزاع العسكري بين الخرطوم وجوبا في الهجليج:
لا تشتري العبد الا والعصا معه/ ان العبيد لأنجاس مناكيد
كان ذلك في العلن على الأقل، وما تردد عنه في أمر العنصرية كثير جدا لا يسعنا المجال هنا في استقصائه واحصائه.
المهدي بتبنيه الإسلام عقيدة وممارسة، مارس نمطا من العنصرية؛ أفلم تسمعوا بالقول الشعبي “الحمرة الأباها المهدي!”، وذلك في إشارة إلى الحلب في السودان. حتى النكات التي يطلقها البعض، بما فيها من نعوت عنصرية، ويحسبها هذا البعض نمطا من التفكه، لكنها في أسوأ الأحوال غير مقبولة أبدا، وتتعارض مع مبدأ الصواب السياسي (political correctness).
ومع ذلك قد ينبري لنا أحد ويقول نحن معشر السودانيين شعب طيب الأعراق ومسالمين نحب السلام، ونتطلع إلى حياة الوئام، وما زال في مخيلتنا مذابح أهل الجنوب المدنيين في حفل الزفاف في جوبا وبعد أسبوع واحد فقط تكررت المذبحة في واو في حفل زفاف آخر أيضا وفي نفس العام، أي العام ١٩٦٥م، واستباحة دماء قبيل الدينكا في بابنوسة والمجلد في الستينيات، واغتيال الزعيم الجنوبي ويليام دينق في اأحراش الجنوب بعد أن ارتضى بالعملية السلمية، وعاد إلى البلاد واشترك في مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم في آذار (مارس) من العام ١٩٦٥م، وإذا به يغتاله عسكر الحكومة وبتواطؤ مع الحزب السياسي الحاكم في نفس العام، وإذا التحريات تصل يدها إلى الأيادي
الاثمة، ولكن دون أن تصل العدالة إلى مجراها. وما بالكم بمذبحة الضعين وعودة الرق في السودان في آذار (مارس) ١٩٨٧م، ومذبحة الجبلين في أعياد المسيح في كانون الأول (ديسمبر) ١٩٨٩م، ومذبحة هيبان في أعياد المسيح أيضا العام ١٩٩٢م، والمذابح المستكثرة الأخرى في النيل الأزرق، وفي إقليم دارفور منذ العام ١٩٨٧م حتى هذه اللحظة. كل هذه المجازر الدموية للمواطنين الأبرياء العزل كان وقودها خطاب الكراهية العنصرية، ثم أضافوا إلى هذا الخطاب العنصري اللعين الدعوة إلى الجهاد في أمر حرب سياسية، وبتديين الحرب الأهلية استصعبوا حل المشكل السياسي، وقضية الهوية الوطنية. وحين لم يفلحوا في الحشد لمواجهة الحركات المسلحة في دارفور على أساس ديني، لجأوا إلى قضية الاثنية بصورة صارخة، ثم ارتكنوا إلى وصف أهل دارفور زعما وبهتانا بالعمالة للمخابرات الأجنبية، وإنهم لينفذون أجندة دول الاستكبار الاستعمارية.
هل تعلمون أن موظفا صغيرا في وزارة المالية، أو أية وزراة خدمية في الخرطوم، كان يستطيع أن يوقف ميزانية الجنوب، أو أية إعانة مخصصة إلى الجنوب، وتحويلها إلى منطقة أخرى في الشمال، وذلك دون رقيب أو حسيب. في عهد نميري كان القطار المحمل بسكر الجنوب يصل كوستى وحينئذ يختفي في أسواق المدينة، أو في أحسن الأحوال أسواق مدينة الأبيض.
تظنت الأنظمة الحاكمة في الخرطوم عبر السنوات أن قتل مواطني الهامش بهذه الصورة البشعة سوف تحقق السلام والوحدة الوطنية، لكن هذه المذابح خلقت عوامل نفسية، وخلفت نضوبا جسدية أمست تنتقل إلى الأجيال جيلا بعد جيل، وأن أغلب الذين انخرطوا في حركات التمرد كانوا ضحايا التجاوزات الإنسانية السابقة، أو قد شهدوا ما ألم بأهليهم الأقربين.
ما لم يتحرر السودانيون من خطاب الكراهية العنصرية اسرارا أو جهارا، ويغيرون ما في أنفسهم، فإن أية جهود لاحلال السلام سوف لا تقود إلى شيء. القضايا السياسية والاقتصادية، قد يتم التوصل إلى حلها، لكن مسألة الهوية والعلاقات الثقافية والاجتماعية ينبغي حلها بشفافية، وتجفيف منابع الكراهية العنصرية، والتعالي على البعض، واجتذاذ عبارات العبودية والرق وغيرها، وأن تكون هناك قوانين رادعة لمراقبة مثل هذه الاساءات. أما إذا لم نفعل ذلك، فإننا نحرث في البحر.
عمر شركيان
الخميس، ١٥ شباط (فبراير ) ٢٠٢٤م
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.