في رحيل القامة راسخ العلم وحكيم القوم.. الأب المربي جولي أرقوف بودا (3 من 3)

بقلم/ مراد موديا

لقيت العم الأستاذ جولي أرقوف كفاحاً لأوَّل مرة في مدينة الدلنج في مطلع شهر سبتمبر العام 2007م، وكنا مع عدد كبير من الرفيقات والرفاق في معية الرفيق دانيال كودي أنجلو، نسأل الله أن يمن عليه بالصحة والعافية، وهو في طريقه إلى كادقلي لتولي منصب نائب حاكم إقليم جبال النوبة (ولاية جنوب كردفان). ثمَّ التقيته لثلاث مرات متتالية، وكانت خاتمة لقاءاتي معه في ربيع العام 2011م، وكنا هذه المرة مع الجماهير الهادرة في مدينة الدلنج إبَّان تدشين الحملة الانتخابية للحركة الشعبية لتحرير السودان، وفي معية مرشحها لمنصب حاكم الإقليم الرفيق القائد عبد العزيز آدم الحلو. كان العم الأستاذ جولي أرقوف يومها في انتظار قدوم وفد الحركة الشعبية، الذي تأخَّر وصوله إلى الدلنج بسبب محاولة الهجوم اليائسة الذي تعرَّض له موكب الحملة في منطقة الفيض، وكان الوفد يضم كبار القادة التاريخيين للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، إذ فيهم الرفيق القائد جيمس واني إيقا، والرفيق القائد عبد العزيز آدم الحلو، والرفيقة القائدة ماما ربيكا قرنق دي مبيور، والرفيق القائد رمضان حسن نمر، علاوة على عدد كبير من القادة والرفيقات والرفاق الذين كانوا في هذه الجولة، التي غطت مناطق واسعة في المناطق الشرقية لجبال النوبة قبل أن تصل إلى مدينة الدلنج عند الساعة الثانية والنصف صباحاً.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ التأخير الكبير لوصول الوفد لدار الحركة الشعبية جاء بسبب الهجوم الغادر الذي تعرَّض له الوفد كما ذكرنا آنفاً، هذا الهجوم الذي تمَّ بتدبير وتمويل من وزير الشباب والرياضة الإسلامي حاج ماجد سوار، والذي قدم من الخرطوم إلى منطقة أبكرشولا خصيصاً للإشراف ولتنفيذ هذا العمل الإجرامي الفاشل. في ذلك اليوم وبينما نحن والمدينة بأسرها أمضينا كل اليوم في انتظار وصول هذا الوفد الرفيع، كان الأستاذ جولي أرقوف مع الجماهير في انتظار ضيوف المدينة، وكان بيته قد تحوَّل فعلاً إلى دار للحركة الشعبية، حيث رأيت جموعاً كبيرة منذ الصباح وكل اليوم وهم يملئون هذا البيت المبارك بأهله، وكنت في ذاك اليوم من بين من تنقلوا كثيراً ما بين دار الحركة وبيت العم الأستاذ جولي أرقوف. عند وصول وفد الحملة الانتخابية إلى دار الحركة الشعبية في الدلنج، كان الأستاذ جولي أرقوف في مقدمة المستقبلين لضيوف المدينة الكبار، ولم يبد عليه التعب أو الإرهاق برغم من الانتظار الطويل لرجل في سنه وقامته، إلا أنَّه آثر أن يكون مع الشعب، وفي طريق الشعب، كما يقول الشاعر المناضل الفذ الراحل محجوب شريف، عليه رحمة الله ونوره:
طريق الشعب أوسع من زحام الضيق وقلب الشعب أوسع من رحاب الضوء
وبعد مصافحته لأعضاء الوفد فرداً فرداً، رأيته يتبادل الحديث مع القائد عبد العزيز آدم الحلو، وكان الرفيق القائد الحلو يستمع باهتمام كبير للحديث، وكان واضحاً من المشهد أنَّ هناك ثمة علاقة قويَّة ومميَّزة تربط بينهما. وتابعت أيضاً بعضاً من الصور الحية، وهو يتكلَّم مع الصديق والرفيق الهرم الثوري المتفرِّد رمضان حسن نمر في ذات الحملة الانتخابية في مدينة الدلنج، واستماعه العميق مع الاهتمام الكبير الذي كان ظاهراً على ملامحه أثناء استماعه لحديث الأستاذ جولي أرقوف. هاتفته من باريس مرتين، المرَّة الأولى في شهر أكتوبر العام 2020م أثناء اشتداد داء الكرونا خاصة في أوروبا، قلت له بعد التحية معاك ابنك مراد موديا، وبعد أن بادلني التحية بأحسن منها وباللغتين – لغة أما واللغة العربية أيضاً – استمرَّ في حديثه بلغة أما، وأول ما سألني عنه كان عن الأحوال الصحية، وكيف نتعايش مع طاعون العصر الكرونا، فأخبرته بتفاصيل الأحوال التي مثلت محنة الإنسانية، وهي في بدايات المائة الأولى من ألفيتها الثالثة، فبدأ يدعو لي وللإنسانية جمعاء بأن يرفع الله عنها السقم، وسألني عن أحوال النَّاس في الأراضي المحررة، كما سألني عن أحوال مجتمعات النوبة على وجه الخصوص، والسودانيين على وجه العموم في أوروبا، فأجبته بما تيسَّر عندي من أخبارهم، ثمَّ عاد وسألني عن الرفيق القائد رمضان حسن نمر، فأجبته بما كنت أعلم من أخباره، وأنَّه في العاصمة الأوغنديَّة، كمبالا، وهو أيضاً تقطَّعت به السبل بعد الإغلاق الشامل في أوغندا بسبب جائحة الكرونا، فقال لي إنَّه على اتصال به أيضاً، ثمَّ ذكر لي من حسن خصاله ما أعلم، وتلك التي لا أعلم، ثمّ زاد فقال بأنَّ إقليم جبال لم يمر عليها وزيرٌ مثله، فضرب مثالاً نادراً في النزاهة والتواضع، كان وزيراً متوفراً متاحاً لعامة النَّاس في مكتبه وفي منزله، وفوق ذلك كله كان وزيراً مستمسكاً بأوثق عرى العفة والنزاهة، ولعمري تلك ما كنت أعلم عنه. أصبغ عليه ثناءً عن ظهر الغيب، لو وزَّع على أمثاله من النَّاس لكفتهم.
ثم هاتفت الأستاذ العم جولي أرقوف للمرَّة الأخيرة في مطلع العام 2022م المنصرم، وهذه المرَّة لم تسعفني الشبكة فكرَّرت عليه اسمي مرَّات، فأجابني بنعم يا ابني مراد ما سامعك كويس لأنو الخط ما كويس، فوعدته باتصالٍ آخر إلا أنَّني لم أفعل. وفي غرة شهر نوفمبر العام 2022م كنت في زيارة أسريَّة إلى بريطانيا، وتحديداً إلى مدينة ليدز، حيث منزل الرفيق الصديق، والمفكِّر الكبير، والأديب المرموق الدكتور عمر مصطفى شركيان، وبينما نحن في منزله العامر وأسرته المضيافة، بادرني الدكتور شركيان بسؤال عن أستاذه جولي أرقوف، وأنَّه يتوق إلى التحدُّث إليه مع علمه بأنَّ صحة أستاذه ليست على ما يرام، وعلمت من الدكتور شركيان أنَّه يحتاج إلى التحدُّث إلى أستاذه جولي أرقوف لتوثيق مسألة تتعلق بإحدى مؤلفاته، التي لا تزال تتخلق في رحم الأفكار والمداد. واستمتعت أيما استمتاع بحديث الرفيق المفكِّر شركيان، وهو يحكي لي عن أستاذه جولي، وعن الخصال الأخلاقية الرفيعة التي غرسها فيهم، ثم دلف يحكي لي بزهوٍ عن أيامه في معهد التربية لإعداد المعلمين في مدينة الدلنج. ولفائدة القراء، أو الذين لم يسمعوا بمعهد التربية بالدلنج، أقول لهم باختصار هو ذلكم الصرح التعليمي العملاق الذي أتى أكله ثلاث مرَّات: ففي الأولى أهدانا ذلكم الصرح الراحل المقيم الحكيم الأستاذ جولي أرقوف بودا أرشين، وفي الثانية أهدانا الأستاذ المربي القائد الثوري الكبير يوسف كوة مكي، وفي الثالثة أهدانا كاتباً مفكِّراً، وأديباً مناضلاً صلداً، ألا وهو الرفيق الدكتور عمر مصطفى شركيان. وحق لطلبة وطالبات معهد التربية بالدلنج أن يفتخروا بصرحهم العملاق هذا.
هذا ما علمت وما بلغني من سيرة هذا الحكيم وصاحب فلسفة ودبلوماسية شعبية متفردة، ولست جديراً أن أوفي الأستاذ حقه، فالجديرون بذلك هم تلامذته وأصدقاؤه، ومن عرفوه وعاصروه عن قرب. ونناشد المعنيين بأمر التعليم والثقافة في الإقليم أن يسموا بعض الصروح التعليمية في الإقليم باسم الأستاذ الراحل جولي أرقوف، ولو كنت أملك من الأمر شيئاً لما ترددت في فعل ذلك. وما هذه الأسطر إلا جهداً زهيداً، وبعضاً يسيراً من رحيق سيرته، تخيَّرتها الذاكرة من عبق بستان حكمته، ومن ربيع عطائه الأخضر، الذي لن ينضب إلا يوم الكريهة، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ (النمل: 27/88).

باريس، 26 يناير 2023م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.