في الوفاء للأستاذ أندل النُّوبي (1 من 3)

الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]

في يوم الجمعة الموافق 17 شباط (فبراير) 2023م كرَّمت جمعيَّة سلارا الخيريَّة بأم بدة وبدر الكبرى في مدينة أم درمان أحداً من معلِّمي الأجيال، وذلك لما أدَّاه من دور مشرِّف في المجال التربوي، ومن ثمَّ بجَّلته الجمعيَّة إيَّاها، فنعم التبجيل لهذا الأستاذ الذي أفنى جل عمره في تربية النشء، حتى تتلمذ على يديه كثرٌ من الطلاب، واتَّخذوا سبلهم في الحياة العامة سرباً. كان ذاك اليوم مميَّزاً مباركاً برمز من رموز العطاء، ثمَّ كان الذي هو على وشك الاحتفاء به سراجاً من سُرُج العلم والمعرفة. في ذاك اليوم الاحتفائي بدا الأستاذ المحتفى به، وقد تقدَّم به العمر، وابيضَّت لحيته وشواربه، ذاك البياض الذي يُكسب صاحبه وقاراً، وكان يبدو عليه الكبر، وأخذ يمشي بخطى متثاقلة، وكان يحمل على يده اليمنى عصاَ يتوكَّأ عليها، ثمَّ كان على جانبيه فتيان يساعدانه في المشي رويداً رويداً. كان الأستاذ الشيخ يرتدي جلباباً طويلاً يدثِّر به قامته الفارعة، وقد ارتدي فوق الجلباب عباءة أقلَّ ما يمكن أن يقال عنها إنَّها تناسقت ألوانها مع الجلباب بذلك اللون العسجدي، ثمَّ كان قد وضع على عينيه نظارة ذات أطر بيضاء، إذ إنَّما كان يتنظَّر بها، كما يفعل من وصلت به السن إلى هذا المدى من الحياة، وبخاصة من أنفق جل عمره في الاطِّلاع، وإدامة النَّظر في الكتب.
وما أن ظهر الأستاذ للعيان، وشقَّ طريقه وئيداً وسط الجموع المترقبة المشرئبة لرؤياه، حتى علا مَنْ بالقاعة – نساءً ورجالاً، شيباً وشباباً – بقصيدة منشودة تبجيلاً بهذا المعلِّم العظيم. وما هي إلا لحظات، حتى اقتعد المعلِّم نفسه في الكرسي الذي أُعِدَّ له سلفاً، ثمَّ ما أن سنحت له الفرصة في إلقاء كلمة بهذه المناسبة الاحتفائيَّة، حتى شرع يتحدَّث دون تلعثم في الكلام، أو اعوجاج في اللِّسان. ومنذئذٍ أبان قوَّته التعبيريَّة في الكلام كما سنبين بعد حين، وذلك برغم مما بلغ به الدهر من الكبر كما سبق الذكر. إذاً، يا تُرى من ذا الذي يكون هذا الأستاذ الذي شاخ، ثمَّ شرعت جمعيَّة سلارا الخيريَّة في الاحتفاء به، وها نحن بصدد الحديث عنه وفاءً وإطراءً، حتى يعلم الجيل الحالي، وأجيال المستقبل مآثره؟
ولد الطفل آنذاك، الذي سرعان ما سماه والداه أندل، العام 1941م بقرية سلارا، التي تبعد حوالي 14 ميلاً غرب مدينة الدَّلنج. وما أن شبَّ على الطوق، وبلغ سن التمدرس حتى تمَّ تسجيله في مدرسة سلارا الأوليَّة (الابتدائيَّة لاحقاً) العام 1950م، وأكملها العام 1954م. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ مدرسة سلارا قد أسَّستها جمعيَّة التبشير الكنسي التي وصل مبشِّروها إلى الدَّلنج العام 1935م، وقاموا بجولات طبيَّة بدءاً بجبل تُنديَّة، ووصلوا إلى سلارا، ومن ثمَّ شرعوا في تأسيس مركزاً للإرساليَّة فيها العام 1936م، التي تألَّفت من عيادة ومعمل وعنبر للمرضى. وفي العام 1954م آلت إدارة الإرساليَّة إيَّاها إلى إرساليَّة السُّودان المتحدة. على أيٍّ، فما أن اجتاز التلميذ أندل الامتحانات بجدارة حتى التحق بمدرسة كاتشا الوسطى في تخوم مدينة كادقلي في الفترة ما بين (1954-1958م)، وهي المدرسة التي أسَّستها جمعيَّة التبشير الكنسي هي الأخرى العام 1944م، وكانت هي الأولى من نوعها، حيث أمست قبلة طلاب النُّوبة، وكان الطلاب من معظم مناطق جبال النُّوبة ييمِّمون وجوههم شطر تلك المدرسة. وفي العام 1959م آلت إدارتها إلى وزارة التربية والتعليم. ومن بعد تمَّ قبول الطالب أندل بمدرسة الفاشر الثانويَّة في الفترة ما بين (1958-1962م)، وبعدئذٍ تخرَّج في معهد التربية ببخت الرضا العام 1964م. فإذا كان تعداد المدارس في جبال النُّوبة بتلك المحدوديَّة في ذلك الحين من الزمان، فبالاستنتاج يمكن أن نقول لعلَّ التنافس كان شديداً، وكان لا يفلح في ذلك إلا النجباء من أولي العزم.
في حياته العمليَّة عمل الأستاذ أندل معلِّماً في مدرسة الرَّهد في الفترة ما بين (1964-1966م)، وفي مدرسة كاتشا (1966-1970م)، وبمعهد التربية بالدَّلنج (1970-1973م)، ثمَّ مديراً لمدرسة سلارا الثانويَّة العامة (المتوسطة لاحقاً) في الفترة ما بين (1973-1983م)، ومكتب التعليم بالدَّلنج (1983-1986م). ومن ثمَّ انتدب للعمل معلِّماً إلى دولة اليمن في الفترة ما بين (1986-1991م). وبعد عودته من اليمن أسَّس المدرسة النموذجيَّة بجامعة الدَّلنج (مدرسة شيماء) في الفترة ما بين (1991-1994م)، وأُحيل إلى المعاش العام 2001م، ومن ثمَّ عاد إلى مسقط رأسه في سلارا، وتطوَّع مدرساً في مدرسة سلارا الابتدائيَّة، وإماماً لمسجد أدر بسلارا ذاتها في الفترة ما بين (2005-2011م).
لعلَّ من أبرز طلابه رئيس الوزراء الانتقالي الدكتور عبد الله حمدوك (2019-2022م)، والفريق (معاش) شرطة عوض النيل ضحية، والفريق ركن حسن داؤود كبرون، والعميد (معاش) حسن محمود، ووزير الثقافة والإعلام المكلَّف الدكتور جراهام عبد القادر، ووزير الزراعة في حكومة حمدوك الانتقاليَّة الدكتور عيسى عثمان شريف، ووزير الشؤون الإنسانيَّة الأسبق إسماعيل سعد الدِّين، ورئيس الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال القائد عبد العزيز آدم الحلو في مدرسة الدَّلنج الرِّيفيَّة الوسطى (داخل معهد التربية بالدَّلنج)، والأمين العام للحركة الشعبيَّة القائد عمَّار أمون دلدوم بمدرسة سلارا المتوسِّطة، وممثِّل الحركة الشعبيَّة لتحرير السودان – شمال بالمملكة المتحدة وجمهوريَّة أيرلندا الدكتور عمر مصطفى شركيان، والمهندس المتخصِّص في صناعة السكر كندا توتو كوريا، والأديب الباحث محمود موسى تاور وآخرون كثر لا يسع المجال هنا لذكرهم كلهم أجمعين أبتعين.
أما في مجال العمل العام فقد كان الأستاذ أندل قد انضم إلى حركة الإخوان المسلمين في بواكير نشاط الحركة في جبال النُّوبة، وذلك باعتبارها حركة للدعوة والإرشاد الديني. وحينما تحوَّلت الحركة إلى حزب سياسي، واعتلت السلطة في السُّودان، اعتزل أندل العمل فيها، وفضَّل الابتعاد عن السياسة، وذلك برغم من إغرائه ببعض المناصب الدستوريَّة الرفيعة. كان الأستاذ أندل عضواً في مجلس الشعب الإقليمي، وحينها عاصر الأستاذ يوسف كوَّة مكِّي في ذاك المجلس. ثمَّ أمسى الأستاذ أندل رئيساً لجمعيَّة سلارا التعاونيَّة في إحدى دوراتها. إنَّه لمتزوج وأب لخمس بنات وخمسة أولاد، ويقيم حاليَّاً في حي أقوز غرب مدينة الدَّلنج.
في داره وفي ذاك الحي في تلك المدينة كان كاتب هذه الصفحات قد زاره في كانون الثاني (يناير) 2006م، وذلك بعد غيابي عن هذه المدينة التي شهدت فيها ريعان شبابي، وتتلمذت في معهدها التربوي لإعداد المعلِّمين، ثم كان الذي قد قادني إلى داره هو أحد أساتذتي الأجلاء هو الآخر، وهو الذي اختاره الرَّب أن يخلد إلى مثواه في يوم الجمعة الموافق 13 كانون الثاني (يناير) 2023م. إنَّه الأستاذ جولي أرقوف بودا أرشين – رحمه الله رحمة واسعة. كانت الشمس قد شارفت على المغيب، أو بالأحرى لنقل قد غابت، وبدأ الليل يغشانا رويداً رويداً بأستاره السوداء، وما أن دخلنا داره، حتى وجدناه يحمل مصباحاً، وبعد الترحاب والجلوس، سأله الأستاذ جولي: أتدري من ذا الذي يكون هذا الشاب الذي اصطحبته، وأتيت به لزيارتك؟ فردَّ الأستاذ أندل بلا. ثمَّ لم ينتظر الأستاذ جولي كثيراً، بل سرعان ما أخبره بأنه أحد طلابك بمدرسة سلارا الثانويَّة العامة، وإنَّه لعمر مصطفى شركيان. وما أن سمع الأستاذ أندل اسمي، حتى انشرحت أساريره، وتبسَّم غبطة، ثمَّ زاد في الترحاب، وانشرح صدره سروراً وبهجة. فنعم الأستاذ المربي أندل، فإنَّه يعتز دوماً بطلابه أيما اعتزاز. أرأيتم إن غرس أحدكم زرعاً، ونما وأينع وأثمر، ثمَّ حصد ثماره، أفلم يكن من الفرحين! أو كما استطرد أحد زملائه الأساتذة بمدرسة سلارا المتوسطة موضِّحاً، وهو ذاك الذي يقيم حاليَّاً بالولايات المتحدة الأمريكيَّة، ثمَّ إنَّه الأستاذ سعيد تاور أمون: “إنَّ البذرة الطيِّبة التي تجد السقاية والرعاية، لا بدَّ من أن يكون عطاؤها وافراً، وكان هذا شأن الطلاب الذين بذل الأستاذ الجليل أندل النُّوبي جهداً مقدَّراً في تربيتهم وتعليمهم، فله أجزل الشكر على ما بذل، وأمدَّ الله في أيَّامه، ومتَّعه بالصحة والعافية.”

للحديث بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.