في الرد على دُعاة الدولة المدنية ومُنتقدي “العلمانية”
عادل شالوكا
توطئة :
من أهم أزمات البلاد طوال الفترة التي تلت خروج المُستعمر في 1956، هي الطريقة التي تعاملت بها النُخب السودانية في جميع العهود والحكومات مع المُشكلة السودانية وقفذهم على الحقائق وتجاوزهم لجذور المشكلة، ومُحاولة تسطيح القضايا ومُعالجة القشور وعدم تناول جوهر القضايا والأزمات، ولذلك ظل السودان في حرب مع نفسه وضد كيانات إجتماعية مُهمَّشة وضِعت أمامها موانع هيكلية وثقافية – من ضمنها الدين – لأكثر من 64 سنة. وبعد ثورة ديسمبر المجيدة في 2018 لا زالت النُخب السودانية تُمارس نفس السلوك (الإستهبال والفهلوة) في محاولة للدفاع عن الإمتيازات التاريخية التي ورثوها (بوضع اليد)، في الوقت الذي كانت فيه بقية الشعوب السودانية تقود صراعها من أجل البقاء، وتُقاوم من أجل الحفاظ على الكرامة الإنسانية، وتسعى لتحقيق الحرية والعدالة والمُساواة.
طالعنا العديد من الكتابات التي تنتقد طرح (العلمانية) وتُدافع عن (الدولة المدنية) مُستندين على تعريفات علمية لطبيعة الدولة المدنية وحشدوا كتاباتهم بالعديد من النماذج والأمثلة بهدف التشويش وتضليل جموع الشعب السوداني أهمها مقال المحامي/ عبد المطلب عطية الله بعنوان : (في فض الإشتباك بين دُعاة الفصل والدمج بين الدين والدولة)، ومقال طويل للصادق المهدي لا يستطيع أكثر الناس تركيزاً أن يفهموا منه شيئاً كعادته في أقواله وكتاباته – بعنوان (ويسألونك عن العلمانية)، ويبدو إنها كانت حملة مُنظَّمة للوقوف ضد طرح العلمانية. وهذا في تقديرنا يقع في خانة المحاولات المُستمرة للإلتفاف حول القضايا المصيرية والوقوف ضدها – بل بالأحرَى الوقوف ضد الحقوق والإلتزامات والإستحقاقات التي يُمكن أن تقود إلى سلام عادل وشامل ومُستدام. فالتعريفات العلمية لمفهوم الدولة المدنية يُمكن لأي شخص أن يتحصَّل عليها من (قوقل)، فهذه ليست القضية ولكن طرح العلمانية يرتبط بواقع الدولة السودانية وأزماتها العميقة، فقد ورث السودانيين تركة ثقيلة من كافة الحقب الماضية وخاصة سنوات حكم الإسلاميين (1989 – 2019) تمثَّلت في علاقة الدين بالدولة وتسييس الدين وإقحامه في السياسة، ونتج عن ذلك الكثير من التشوُّهات في بنية الدولة وأخطر هذه النتائج إنفصال جنوب السودان في العام 2011. وللسودانيين كذلك تجارب لا تُحصَى في (نقض العهود والمواثيق) وثَّقها أبيل ألير في سفر يحتاج إلى تكملة لأن نقض العهود والمواثيق لازال مُستمراً، وبسبب هذه التجارب السيئة والمريرة لا يمكن القبول بعبارات فضفاضة على شاكلة (الدولة غير المُنحازة) أو أي عبارات أخرى غير حاسمة لتكتب في إتفاق السلام ومن ثم تُنقل إلى الدستور الدائم. فهذا الدستور المُزمع صياغته مُستقبلاً بعد إحلال السلام لن يكون (دائماً) ما لم تُحسم فيه كافة القضايا المصيرية التي تُشكِّل جذور الأزمة السودانية بصورة واضحة، فهذا ما تُنادي به الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. وهنالك العديد من الدول ذات الأغلبية المُسلِمة كتبت في دساتيرها عبارات واضحة لطبيعة الدولة – على سبيل المثال :
1/ جمهورية طاجكستان يبلغ عدد سكانها 10 مليون نسمة 98 % منهم مسلمين :
النص الدستوري : (( ﺟﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﻃﺎﺟﻴﻜﺴﺘﺎﻥ ﻫﻲ ﺩﻭﻟﺔ ﺫﺍﺕ ﺳﻴﺎﺩﺓ، ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ، ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ، ﻋﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﻭﻭﺣﺪﻭﻳﺔ )).
2/ جمهورية أزربيجان عدد سكانها 12 مليون نسمة 96 % منهم مسلمين :
النص الدستوري (( ﺩﻭﻟﺔ ﺃﺯﺭﺑﻴﺠﺎﻥ ﺟﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ، ﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ، ﻋﻠﻤﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺣﺪﻭﻳﺔ )).
3/ تركيا عدد سكانها حوالي 79 مليون نسمة 97 % منهم مسلمون :
النص الدستور (( ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ ﺩﻭﻟﺔ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ، ﻋﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺗﺤﻜﻤﻬﺎ ﺳﻠﻄﺔ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ، ﻓﻲ ﺇﻃﺎﺭ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﺴﻠﻢ ﺍﻟﻌﻤﻮﻣﻲ، ﻭﺍﻟﺘﻀﺎﻣﻦ ﺍﻟﻮﻃﻨﻲ ﻭﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ، ﻭﺗﺤﺘﺮﻡ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻟﻬﺎ ﻭﻻﺀ ﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﺃﺗﺎﺗﻮﺭﻙ، ﻭﻫﻲ ﻣﺒﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﻤﻨﺼﻮﺹ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻳﺒﺎﺟﺔ )).
4/ السنغال عدد سكانها حوالي 15 مليون نسمة 94 % منهم مسلمون :
النص الدستوري (( ﺟﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺴﻨﻐﺎﻝ ﻋﻠﻤﺎﻧﻴﺔ، ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ. ﻭﻫﻲ ﺗﻀﻤﻦ ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﻟﻜﻞ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ، ﺑﻼ ﺗﻤﻴﻴﺰ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﺱ ﺍﻷﺻﻞ، ﺍﻟﻌﺮﻕ، ﺍﻟﺠﻨﺲ، ﻭﺍﻟﺪﻳﻦ. ﻭﻫﻲ ﺗﺤﺘﺮﻡ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﻌﺘﻘﺪﺍﺕ )).
5/ كوسوفو عدد سكانها حوالي 2 مليون نسمة 95 % منهم مسلمون :
النص الدستوري (( ﺟﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﻛﻮﺳﻮﻓﻮ ﺩﻭﻟﺔ ﻋﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﻭﻫﻲ ﻣُﺤﺎﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﺷﺆﻭﻥ ﺍﻟﻤُﻌﺘﻘﺪﺍﺕ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ)).
6/ مالي عدد سكانها حوالي 18 مليون نسمة 91 % مسلمون :
النص الدستوري (( ﻣﺎﻟﻲ ﺟﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﻣُﺴﺘﻘﻠﺔ، ﺫﺍﺕ ﺳﻴﺎﺩﺓ، ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻘﺴﻴﻢ، ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ، ﻋﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ )).
7/ غينيا عدد سكانها حوالي 13 مليون نسمة 85 % منهم مسلمون :
النص الدستوري (( ﻏﻴﻨﻴﺎ ﺟﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﻭﺣﺪﻭﻳﺔ، ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﺠﺰئة، ﻋﻠﻤﺎﻧﻴﺔ، ﺩﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ )).
8/ بنغلاديش عدد سكانها حوالي 179 مليون نسمة 87 % منهم مُسلمون :
النص الدستوري (( ﻧﺤﻦ، ﺷﻌﺐ ﺑﻨﻐﻼﺩﻳﺶ [ … ] ﻧﺘﻌﻬﺪ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻤُﺜُﻞ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻭﻫﻲ : ﺍﻟﻮﻃﻨﻴﺔ، ﺍﻻﺷﺘﺮﺍﻛﻴﺔ، ﺍﻟﺪﻳﻤﻘﺮﺍﻃﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ، ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻟﻬﻤﺖ ﺷﻌﺒﻨﺎ ﺍﻟﺒﻄﻞ ﻭﺷﻬﺪﺍﺀﻧﺎ ﺍﻟﺸﺠﻌﺎﻥ ﻟﺘﻜﺮﻳﺲ ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻭﺍﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﻢ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻨﻀﺎﻝ ﻣﻦ ﺃﺟﻞ ﺗﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﻮﻃﻦ، ﺳﺘﻜﻮﻥ [ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤُﺜُﻞ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ] ﻫﻲ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺪﺳﺘﻮﺭ )).
فالمُدهش إنه بعد ثورة ديسمبر المجيدة 2018 توقَّع الجميع وخاصة المُهمَّشون إن السودان قد بدأ عهداً جديداً وإن الثورة جاءت بالتغيير وبالتالي لن تقف قضايا مثل العلمانية كثيراً أمام المفاوضين الذين سيُمثِّلون حكومة الفترة الإنتقالية، ويبدو إن هذه الدهشة ستستمر لفترات طويلة، فمُبرِّر مثل (مُراعاة شعور الشعب السوداني لأن كلمة علمانية حسَّاسة) يوضِّح إن مُمثِّلي الشعب في هذه الثورة يضعون الإعتبار لكيانات مُحدَّدة من جموع الشعب السوداني ولا يريدون أن (يجرحوا شعورهم) وبالمقابل لا يضعون أي إعتبار لمُكوِّنات أخرى لا تقبل بغير علمانية الدولة، وفي هذا رسالة واضحة للمُهمَّشين بأنكم (غير معنيين بهذا التغيير ..!!). مما يفتح الأبواب للبحث عن خيارات أخرى، أو الإستمرار في الحرب. وإذا كانت هذه الحكومة هي حكومة ثورة .. فالثورة تعني التغيير الجذري في بنية الدولة وإزالة تشوُّهاتِها وإن كلّف ذلك التضحية كما ضحَّى الشباب في مجزرة القيادة العامة في 3 يونيو 2019 بكل شجاعة وهم يواجهون الموت بصدور عارية ولا يتسلَّحون بشيء غير إيمانهم بالتغيير، وبرغم ذلك ها هي أسرهم ترى التخاذُل في إنجاز وتحقيق أهداف الثورة التي مات من أجلها أبنائِهم (حرية .. سلام .. عدالة) .. فليست هنالك أرواح أغلى من الأخرى، فشعوب الهامش منذ أغسطس 1955 ظلَّوا يقدِّمون التضحية من أجل سودانٍ موحَّد، فقدَّموا أكثر من ثلاثة مليون شهيد مهراً للوحدة والتغيير، هذه الوحدة التي لا يعرف ثمنها هؤلاء الذين يغامرون بالقضايا المصيرية، فالذين يرفضون علمانية الدولة يضعون مصداقيتهم على المحك، ويدعون صراحة لتقسيم البلاد.
سنتناول ما ذهب إليه المحامي عبد المطلب عطية الله لنرى كيف يُحاول تضليل الشعب السوداني، أما الصادق المهدي فلم أجد في مقاله ما يستحق الرد وقد ساهم الدكتور/ حيدر إبراهيم برده على مقاله في الحفاظ على الكثير من الوقت الذي كان يُمكن إضاعته في الرد عليه.
أولاً : واضح إن الكاتب يحاول دعم موقف الحكومة وبعض التيّارات في قوى الحرية والتغيير في هذا التوقيت الحاسم، وهذا على ما يبدو خُطة مُضادة للجهود التي تقوم بها الحركة الشعبية لشرح مفهوم العلمانية. وقد حاول الكاتب الخلط بين مفهوم الدولة العلمانية والدولة المدنية لتشويه العلمانية والترويج للدولة المدنية في نفس الوقت. كما حاول عكس مزايا العلمانية بإعتبارها صفات الدولة المدنية في إطار هذا الترويج.
ثانياً : إستخدم الكاتب الحُجَّة والحيلة بأن ظروف نشأة وتطوُّر الدولة العلمانية غير متوفِّرة في السودان ولذلك لا يجب نقل هذه التجربة (العلمانية) إلى السودان، حيث قام بإستدعاء التجربة الغربية بصورة إنتقائية. فظروف نشألة وتطوُّر الدولة العلمانية في أوربا لا تشبه الحالة السودانية لأن أوربا لم تشهد صراعاً بين القوميات على أساس الدين ولم تشهد إضطهاداً للأقليات بسبب إنتمائهم الديني مثلما حدث في السودان – بل جوهر الصراع كان يتمثَّل في إستغلال الكنيسة للنفوذ الديني وسيطرتها على السلطة السياسية، وهذا موجود في السودان مع عوامل أخرى وهي الإضطهاد على أساس الدين، وإعلان الحرب الدينية ضد الآخرين بسبب إنتمائهم الديني وصل حد تكفيرهم وقتلهم بإسم الدين. وبالتالي تأتي الدعوة للعلمانية في السودان لمنع التفريق والتمييز بين المواطنين وإضطهادهم على أساس الدين ومُصادرة حريتهم وحقَّهم في الحياة. كما حاول الكاتب إبراز سلبيات غير صحيحة للدولة العلمانية مُقابل مزايا الدولة المدنية.
ثالثاً : حاول الكاتب أن يعكس للشعب السوداني إن التشابُك بين الدين والدولة هو مُجرَّد جدل فلسفي مُستلف من واقع تاريخي مُختلف نشأ في أوربا خلال فترة سيطرة الكنيسة على مفاصل السلطة السياسية – ويدَّعِي إنه في الحالة السودانية فالأمر لا يتعلَّق بالبناء الدستوري أكثر من كونه تدابُر فلسفي بين النُخب وسجال بين الأطروحات والمشاريع الآيديولوجية والسياسية بين اليمين واليسار الذي تعاظم بسبب تسييس الإسلاميين للدين وفرض دولة بإسم الإسلام والتجربة القاسية التي مر بها السودانيين جرَّاء ذلك. وبهذا يتجاوز الكاتب واقع السودان وينكر وجود أزمة حقيقية ومُوثَّقة في السودان سببها الدين وينكر التقسيم الذي تم في المجتمع السوداني بسبب الدين بالإضافة إلى الحرب الدينية وإعلان الجهاد والفتاوي الدينية فهنالك العديد من الإنتهاكات الجسيمة التي مورِست بإسم الدين في جميع الحِقب التاريخية وخاصة في عهد الإنقاذ – فالدولة الدينية في الإسلام ترتكز على (نظرية التفويض الإلهي)، وأهم مبدأ في هذه النظرية هو (مفهوم الحاكمية) أي أن سلطة الحكم والتشريع هي (لله) ولعل الكاتب يذكر هذه الشعارات جيدأ (هي لله .. هي لله) شعار الإسلاميين طوال فترة حكمهم التي إمتدت لثلاثين عاماً. والمذاهب الإسلامية سواء كانت (سُنَّة – أو شيعة) تتَّفق جميعها على إن الحاكم لا بد أن يكون مُسلماً ويتم إختياره من بين جماعة المُسلمين، فقط يختلفون في طريقة الإختيار، فبينما يرَى السُنَّة إن الحاكم يتم إختياره من بين المسلمين، يرى الشيعة إن الحاكم يجب أن يتم تعيينه بواسطة (الله) – التعيين الإلهي – وبالتالي فإن الدولة الدينية لا تُتيح الفرصة لغير المُسلمين للحكم وتولِّي أمر الناس، وقد قسَّمت الدولة خلال حكم الجبهة الإسلامية القومية السودانيين وجعلت بعضهم مواطنين من الدرجة الثانية، وقاد ذلك إلى إنفصال جنوب السودان. فالإنفصال كان واحدة من أسبابه الأساسية – بجانب أسباب أخرى – الإصرار على الشريعة الإسلامية وفرضها على جميع السودانيين، ولم يكن ذلك بإستفتاء ولا مؤتمر دستوري، ولم يؤخذ أساساً برأي الشعب.
النظام الديمقراطي .. هل يهضم حقوق الآخرين ؟ :
يتناقض الكاتب في الدعوة للديمقراطية وربطها بالأغلبية في مُحاولة منه لإيجاد حُجة بأن ينص الدستور على دين الأغلبية بقوله : (لذلك يُميِّزون دين الأغلبية بوضعية أخص عن الديانات الأخرى التي تُمثِّل أقلية السكان) – ويقصد بعض الدول الأوربية التي إستدل بها في حُججِه مثل (بريطانيا، السويد، الدنمارك، النرويج …) – وأشار إلى بعض النصوص الدستورية مثل : المادة (25) من دستور (ليتوانيا) التي تنص على أن : (للكيان الإنساني الحق في أن تكون له عقيدة وأن يُعبِّر عنها بحرية). والمادة (26) التي تنص على : (حرية التفكير والإقتناع والعقيدة لا يُمكن تحديدها، فالآباء أو أولياء الأمور يتولُّون دون أي تحديد مُهمَّة التربية الدينية والأخلاقية لأولادهم حسب قناعاتهم). ويريد أن يربط ذلك بمسألة الأغلبية، وإنه من حقِّهم النص على ما يريدونه في الدستور.
وهذا يتطابق مع موقف الصادق المهدي الذي أعاب على الوثيقة الدستورية الموقَّعة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير بإنها لم تنص على إن ( الإسلام هو دين أغلبية السودانيين) – و إن (اللغة العربية هي لغة البلاد الوطنية) ..!!!.
فالواقع يقول إن أوربا أو الدول التي ذكرها الكاتب في المقال لم تشهد صراعاً على أساس الدين ولا إضطهاداً دينياً ولذلك وجود مثل هذه النصوص لا تُسبِّب مشكلة في أوربا عكس الحالة السودانية التي وضِعت فيها مثل هذه النصوص : (إن الدين الإسلامي هو دين الأغلبية، وإن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع … إلخ)، فنتيجة لوجود مثل هذه النصوص تم إستغلال الدين في السياسة وإندلعت الحروب المُدمِّرة، وإنفصل جنوب السودان بسبب التمييز الديني والإضطهاد ومُصادرة الحريات الدينية. وإستمرت هذه السياسات بعد إنفصال الجنوب ضد السودانيين غير المُسلمين. وبالتالي فإن مُقاربة الكاتب غير موضوعية، وليست منطقية.
فالديمقراطية تعني (شريعة الإختلاف) التي تؤسِّس لواقع التنافس المفتوح Open competition على السلطة ومتلازماتها، وليس الصراع Conflict المُغلق عليها. وهي نظام يتطلَّب في الواقع عدة شروط إجرائية أهمها : الإستقرار الدستوري الذي يتأسَّس على فلسفة ومنظور الإختلاف كمصدر للحقوق، وعلمانية المعايير في التطبيق بإعتبارها قابلة للقياس والتحقُّق والتعديل، وبالتالي مشروعية التعميم، عكس اللاَّ علماني الذي يبقَى حقاً فردياً أو (جماعياً خاصاً) ومحصوراً في تطبيقه على مُعتقديه، ولا يجوز تعميمه على الآخرين وفرضه عليهم. وبالتالي فإن دعوتهم هذه تتناقض مع جوهر الديمقراطية وتُصادر حقوق الآخرين الذين يعتبرونهم (أقلية)، ويضعون أمامهم موانع (الدين – اللغة) تحول دون وصولهم إلى السلطة وإمتيازاتها. فأي دولة تحترم سكانها وتعاملهم بمساواة وبدون تمييز، تضع مباديء دستورية تكفُل الحرية والعدالة والمساواة بين جميع المواطنين للحفاظ على وحدة وتماسُك المجتمع – وأحياناً تكون هذه المباديء “فوق الدستور” لضمان عدم نقضها أو إلغائها أو تعديلها مُستقبلاً.
المباديء فوق الدستورية :
هي مجموعة من القواعد والأحكام يتم رفعها إلى مرتبة أعلى من مرتبة الأحكام الدستورية نفسها، فتكون مُطلقة ثابتة وسامية، مُحصَّنة ضد الإلغاء والتعديل عند تعديل الدستور أو تغييره أو حتى تعطيله، وتصبح فوق الدستور وحدَّاً عليه، ولا تجوز مُخالفتها بمواد دستورية أخرى، وتكون المحكمة الدستورية مُلزمة بمُراعاتها وتطبيقها، حتى لو لم تكن مُضمَّنة في الدستور – أحياناً تُصاغ في وثيقة مُستقِلَّة – وهي مباديء يتم التوافق عليها مُسبقاً، وقبل البدء في كتابة الدستور، ومن قبل جميع القوى والمُكوِّنات المُجتمعية الموجودة في البلاد دون إستثناء بغض النظر عن حجمها وموقعها ونسبة تمثيلها، والغرض منها إلزام السلطات القادمة والمُتعاقبة مهما كانت أغلبيتها البرلمانية وقُدرتها على الإنفراد بالسلطة، بالمباديء المُشتركة بين مُكوِّنات المُجتمع، وعدم تمكينها من تعديل الدستور بحسب رغباتها وتشريع قوانين تُهدِّد الحريات العامة وحقوق بعض المُكوِّنات. مضمون هذه المباديء – عموماً – هو الحريات العامة والكرامة الإنسانية، وعدم التمييز بين المواطنين، وحقوق الإنسان الأساسية والتي يكتسبها الإنسان بمُجرَّد كونه إنساناً. وقد أصبحت حقوقاً عالمية حسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة عام 1948، ثم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966. وكثيراً ما أصبحت تُضاف إلى الدساتير الوطنية وتُعطَى صفة السمو والثبات – يُضاف إليها كذلك مباديء أخرى تفرضها أحوال البلد وهمومه. فمشكلة تمثيل الولايات حضرت كمبدأ فوق دستوري في دستور الولايات المتحدة الأمريكية بعد الإستقلال. وتثبيت النظام الجمهوري فرض نفسه في الدستور الفرنسي كمبدأ أعلى. ومآسي ألمانيا بعد حربين عالميتين مُدمِّرتين فرضت نفسها على دستور 1948 عبر مباديء سامية تقطع الطريق على عودة التطرُّف والديكتاتورية من خلال اللعبة الديمقراطية (نظرية تحصين الديمقراطية). وكذلك تجربة جنوب أفريقيا وحاجتها لتصفية نظام التمييز العنصري (الأبرتهايد) وتعزيز المصالحة. ومن أشهرها أيضاً المباديء فوق الدستورية الواردة بالدستور التركي والتي كرَّست علمانية الدولة التركية.
تصبح الحاجة ماسة إلى هذه المباديء، ويرتفع الطلب عليها بشكل خاص في البلاد التي تحتاج إلى بناء نظامها السياسي والقانوني الجديد بعد المرور بفترة نزاعات عنيفة وحروب أهلية تؤدِّي إلى تحطيم الروابط المجتمعية والوطنية وأسُس التعايُش بين أبناء الوطن الواحد، وتُقسِّم الناس على أسُس ما قبل الدولة (طائفية – قبلية – إثنية – دينية) الأمر الذي يعني سيادة أجواء الشك والريبة والتوجُّس بين المكوِّنات المُختلفة في الدولة.
هذا بالضبط ما يحتاجه السودانيين لبناء دولة قوية ومُستقِرَّة وقابلة للحياة. فلابد أن تكون العلمانية وفصل الدين عن الدولة، بالإضافة إلى حق الشعوب السودانية في مُمارسة حق تقرير المصير متى ما رأت ضرورة لذلك، من المباديء الرئيسية التي ينبغي أن تكون فوق الدستور – من أجل تحقيق السلام والإستقرار والوحدة والتقدُّم.
يعتبر الكاتب إن خيار فرض الدولة العلمانية يقوم على صراع ديني مُتخيَّل جذوره سطحية في الواقع الإجتماعي وإنه محمول على أجنحة الغطرسة والتعالي الفكري لنُخب ترى إن الدولة الدينية هي الخيار القسري المفروض على الشعب السوداني ضارباً المثل بتصريحات (دكتور/ محمد يوسف ودكتور/ محمد جلال هاشم). وهذا نُكران لوجود أزمة حقيقية بسبب الدين في السودان، فهذا ليس مُجرد صراع مُتخيَّل، والشواهد في السودان تؤكِّد ذلك. وهل التحدُّث عن الحقائق والمُطالبة بالحقوق يُعتبر غطرسة وتعالي؟ !!.. الغطرسة والتَّعالي هو وصف حديث (محمد يوسف – ومحمد جلال هاشم) بالغطرسة والتعالي نتيجة لعدم الرغبة في الإعتراف بهذه الحقائق والحقوق.
أما إنتقاده لحصر المُطالبة بالدولة العلمانية في التفاوض بإعتبار إن ذلك من صميم مهام الدستور وإشارته المُبطَّنة للمؤتمر الدستوري، فالمؤتمر الدستوري لا يُمكن إعتماده بأي حال من الأحوال كآلية لصناعة الدستور لأنه سيُعبر عن آراء النُخب وليس عامة الناس؛ وسيُعبِّر عن الأحزاب السياسية التي بلغت أكثر من (130) حزباً تم تأسيسها بواسطة المؤتمر الوطني، وهي أحزاب مُستنسخة من الأخوان المُسلمين والجبهة الإسلامية القومية، وإقرار الشريعة الإسلامية لم يتم عبر مؤتمر دستوري بل بقرار رئاسي فوقي في سبتمبر 1983، وبنفس هذا القرار يُمكن إلغاء الشريعة الإسلامية وصياغة دستور جديد وإستفتاء الشعب عليه، فما الصعب في ذلك ؟ ما لم يكن هنالك (شيء في نفس يعقوب) .. !!!.
تطرَّق الكاتب إلى سلبيات الدولة العلمانية بإعتبار إن النظام العلماني ليس نظاماً ديمقراطياً بالضرورة، وإن هنالك أنظمة علمانية إنبنت على أسوأ أشكال الديكتاتورية والشمولية مثل (الصين، الإتحاد السوفيتي، دول شرق أوربا، دول أمريكا الجنوبية، وبعض الدول الأفريقية والآسيوية) – على حد وصفه – والكاتب تعرَّض لنماذج الإنتهاكات والديكتاتوريات في بعض الدول العلمانية في أوربا وغيرها، ولكنه لم يُشير إلى الإنتهاكات الهائلة والديكتاتوريات في الأنظمة الإسلامية. كما تعمَّد الكاتب الخلط بين النظام الديمقراطي والنظام العلماني بالرغم من وجود فرق بين النظامين من حيث المفاهيم والمضامين في مُحاولة منه لتشويه العلمانية أمام الرأي العام.
هذا الإدِّعاء الهدف منه إنتقاد النظام العلماني بإعتباره لا يلبِّي طموحات المُتطلِّعين إلى التحوُّل الديمقراطي. والديمقراطية كمفهوم مسألة قائمة بحد ذاتها، والعلمانية كذلك، والحركة الشعبية تُنادي بقيام نظام (علماني – ديمقراطي)، بمعنى ان تُطبَّق العلمانية جنباً إلى جنب مع الديمقراطية. والمُقاربة التي أوردها الكاتب بين النظام العلماني والنظام الديمقراطي هي مُقاربة غير موضوعية – والصحيح أن تتم المُقاربة بين النظام العلماني والنظام الثيوقراطي بإعتبار إن الدولة الدينية هي النقيض للدولة العلمانية وليس الدولة الديمقراطية. والنظام العلماني يُمكن أن يكون ديمقراطي أو ديكتاتوري – ولكن الدولة الدينية لا يُمكن أن تكون غير دولة ديكتاتورية لا تقبل بالرأي الآخر، ولا تعترف بحقوق الآخرين.
إدَّعى الكاتب أيضاً إن أساس الأزمة الوطنية في السودان لا يقوم على صراع بين المجموعات السُكانية على أسُس دينية وإن تاريخ الصراع في السودان لم يشهد أي نوع من أشكال الصراع بين القوى الإجتماعية بفعل حمولة التديُّن، وإنما الأزمة الوطنية ناتجة عن إخضاع الدولة لمصالح فئة مُحدَّدة وفرض هيمنتها على الآخرين. وهذا الإدِّعاء تُكذِّبه الحقائق التاريخية المدعومة بالمُمارسات والإنتهاكات المُوثَّقة القائمة على أساس الدين والتي إرتكزت على فتاوي دينية، ولا يسعنا المجال للتحدُّث عنها في هذا المقال (يمكن الرجوع إلى كتاب : أزمة الإسلام السياسي وضرورة بناء الدولة العلمانية – عادل شالوكا، 2019).
أما في قوله إنه : (لا يرى مُبرِّر لإصرار دُعاة العلمانية على فرضها كخيار قسري لتعريف هوية الدولة السودانيه في الدستور في ظل توفُّر ظروف التعبئة المُضادة من دُعاة التسلُّط الديني خاصة وان الذهن العام الشعبي مُشكَّل على أن العلمانية هى النموذج المُضاد للدين والتديُّن).
فالتشويش الذي حدث ويحدُث للشعب السوداني سببه مثل هذا الخطاب، ومثل هذه الكتابات. فبدلاً عن نقل الشعب إلى رحاب الفكر السياسي المُتقدم الذي أنتجته التجارب البشرية من الواقع المُعاصر، يتم حشد أفكارهم وتشجيعهم على رفض ما يضمن لهم السلام والوحدة والإستقرار والرفاه والتقدُّم. وقوى الحرية التغيير التي قادت الشعب للخروج والإنتفاضة وإنجاز هذه الثورة العظيمة، قادرة على توعية هذا الشعب وتنويره بمزايا النظام العلماني وأهميته في تحقيق السلام والإستقرار في السودان، والحفاظ على الوحدة الوطنية إذا كانت لديهم الرغبة والإرادة في تحقيق السلام الشامل والعادل، وإستعادة الأمن والإستقرار في السودان. إن لم تكن لهم نوايا أخرى، أو يخشون فقدان إمتيازات تاريخية بقيام نظام علماني يؤسِّس للحرية والعدالة والمُساواة بين السودانيين.