في الإرث المشترك بين النُّوبة (3 من 3)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

 

[email protected]

في جبال النُّوبة تسود المساواة السياسيَّة، أي بمعنى آخر ليس هناك تقسيم طبقي غير متكافئ وسط المجتمعات النُّوبويَّة كما هي الحال في بعض المجتمعات الإفريقيَّة. فعلي سبيل المثال خذ قبيل بانيأنكولي في أوغندا، حيث ينفرد قبيل الباهيما الرعوي بالسلطة السياسيَّة (قبيل الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني)، ويعتبر الطبقة الحاكمة، بينما يمثل قبيل البايرو الزراعي الطبقة الوضيعة في المجتمع. هذه التراتيبيَّة غير المتكافئة التي تصنِّف أفراد المجتمع إلى طبقة سياسيَّة سامية من جانب، وأخرى وضيعة من جانب آخر قد تكوَّنت نتيجة الإحلال الاجتماعي في الماضي السحيق، لكنها ذهبت أبعد من ذلك، لأنَّ غياب المساواة السياسيَّة يقود دوماً إلى الفروق الأخرى. إذ تتم المحافظة على هذا البناء الطبقي عن طريق تباين أسلوب الحياة بين هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم سادة، وبين الذين يعتبرونهم رعايا، وكذلك غياب التزاوج فيما بينهم. كان هذا النظام الطبقي ممارساً في تاريخ رواندا الحديث بين إثنيَّة التوتسي كأصحاب السلطة والسيادة، وبين إثنيَّة الهوتو كمزارعين وشغيلة للتوتسي. وقد فاقم الرحَّالة الألمان والاستعمار البلجيكي حدَّة هذا الوضع الاجتماعي غير المتكافئ، وكان هذا النظام الطبقي واحداً من الأسباب التي أدَّت إلى نشوب الصراع السياسي في رواندا بعد الاستقلال، وأدَّى إلى المذبحة الدمويَّة التي راحت ضحيَّتها حوالي 800.000 من التوتسي والهوتو المعتدلين العام 1994م، وذلك أثناء زحف وسيطرة قوَّات المقاومة الروانديَّة بقيادة الرئيس الرواندي الحالي بول كيغامي على السلطة في رواندا.
أما في جبال النُّوبة فلا وجود لمثل هذا النظام الطبقي، حتى الذي كان يتم أسره في الماضي في الحروب القبليَّة التي كانت تدور كسياسة الأمر الواقع في العهد التركي-المصري، وفي الدولة المهديَّة (1885-1898م)، كان الأسير إذا لم تتم فديته بالأبقار، فيتم انخراطه في المجتمع الذي أسره، ويصبح أحد أفراد المجتمع، بل يُمنح قطعة أرض لاستصلاحها وزراعتها، ويتم تزويجه بإحدى فتيات القبيل ممن يحب، ومن ثمَّ يصبح هو وأفراد أسرته جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الجديد الذي انخرط فيه. علي أيٍّ، ففي السنوات الأخيرة وبفضل انتشار التعليم والعولمة وسبل التواصل الاجتماعي والسياسي، وبخاصة بعد ظهور الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في جبال النُّوبة العام 1985م، سادت العلاقات الاجتماعيَّة أفقيَّاً، وأخذ التزاوج بين أفراد القبائل الأخرى يسود. فهناك أزواج من الجبال الغربيَّة تزوَّجوا بفتيات في الجبال الجنوبيَّة، والعكس هو الصحيح، بل تزاوج النُّوبة مع قبائل جنوب السُّودان، حيث هناك ثمة جاليات نوبويَّة كبيرة في عدة مدن بجمهوريَّة جنوب السُّودان، أكبرها في العاصمة جوبا.
مهما يكن من شيء، ففي مسألة التعدُّديَّة الثقافيَّة استمعنا إلى برنامج تلفزيوني بذل فيه مخرجوه كل ما امتلكوا من فنون التزوير التاريخي والإثني في منطقة لقاوة في جبال النُّوبة (ولاية جنوب كردفان). فبعد المقدِّمة المعتادة التي اعتاد عليها السُّودانيُّون سماعها ورؤيتها من المذيعين والمذيعات شرعت المذيعة التي لم نستبن اسمها في وصف الطبيعة الخلابة التي تمتاز بها مدينة لقاوة، حيث الخضرة الباهية، والجمال الساحر، والجبال الشاهقة الممتدة. ومن بعد انطلقت المتحدِّثة في التسجيل التلفزيوني إيَّاه معرفاً اسم لقاوة بغير ما نعرفه. إذاً، أين استمدَّت لقاوة اسمها؟ تجدر الإشارة إلى أنَّ لقاوة تصحيف لكلمة “الياوك” وتعني مكان التجمع أو التسويق في لغة قبيل كمدا. وبعدئذٍ استرسل البرنامج في عرض رقصات العرب من المردوم وسط ابتهاج الراقصين والراقصات بأغنيَّة كردفانيَّة. إذ طفق الفنان الكردفاني عبد القادر سالم يستطرب بصوت صيدح وعزف نغوم، وكانت الأغنية هي “سلِّم قمارينا ودِّي سلام ليها/ قول ليها ما نسيناك”. ما عبنا على ذلك البرنامج إلا لأنَّه لم يعبِّر عن تعدُّديَّة المنطقة كما أذاعت المذيعة في النَّاس. فإنَّ ذلك المقطع التلفزيوني لا يمكن أن يعكس الواقع الاجتماعي والثقافي بالمنطقة في شيء. إذ كان اختيار غناء عبد القادر سالم وحده لا شريك له كخلفيَّة موسيقيَّة لا تعبِّر إلا عن نقصان حكمة، ونقصان الحكمة يُعجز المرء عن إصدار رأي سديد. لقد خلا البرنامج من أي تعدُّد ثقافي أو اجتماعي كما ذكرته مقدِّمة البرنامج في بادئ الأمر، ولم يتم استظهار رقصة واحدة أو أي تراث نوبوي يستدل بها على التعدُّديَّة الديمغرافيَّة التي تكلَّمت عنها المذيعة.
لا مراء في أنَّ الموسيقي عبد القادر سالم فنان طروب لا غبار عليه، وهو الذي رفد المكتبة الغنائيَّة السُّودانيَّة بأغنياته الشجيَّة التي تعبِّر عن بيئة شمال كردفان في رمالها وقيعانها. والمطرب الموسيقار عبد القادر سالم كان قد وُلد في مدينة الدلنج العام 1946م، والذي عُرف واشتهر على مستوى السُّودان وخارج السُّودان منذ العام 1971م، وله من الإنتاج الغني ما يزيد عن أربعين أغنية. ومن تلك الأغنيات “مكتول هواك يا كردفان”، و”بسامة”، و”أيَّام العيد”، و”طبيق الريحة”، و”ليمون بارا”. غير أنَّ اختياره ليغني في برنامج عن لقاوة، واختيار رقصة واحدة عن إثنيَّة بعينها لم يعكس التعدُّديَّة الإثنيَّة في المنطقة بأيَّة حال من الأحوال، ثمَّ لم يكن معدو البرنامج موفَّقين في هذا الأمر إلا إذا كان ذاك العمل يمثل نمطاً من أنماط البرامج السياسيَّة التي تعجُّ بها دور الإعلام المنحاز في الخرطوم لأغراض الاستعراب والهُويَّة العربيَّة الزائفة انطلاقاً من هذا المنظار الخادع.
أما المجموعات الإثنيَّة المستعربة التي استوطنت إقليم جبال النُّوبة فينبغي عليها السعي الحثيث إلى استكشاف وسائل التعايش السلمي مع القوميات النُّوبويَّة في المنطقة بحكم التساكن والتشارك في الأرض والماء والكلأ، والاجتهاد في الابتعاد عن الانصياع الأعمى، والانقياد دون بصيرة إلى سياسات السلطة المركزيَّة في سبيل خوض معاركها بالوكالة. ثمَّ إنَّ على هذه الأقوام المستعربة المتساكنة في الإقليم أن تدرك أنَّ المطالب الدستوريَّة المتمثِّلة في الحقوق السياسيَّة والاقتصاديَّة والخدماتيَّة التي تطالب بها الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان-شمال، أو أي حزب سياسي آخر، يضع إنسان المنطقة في دائرة أولويَّاته. وفي هذا الشأن نجد أنَّ سكان المنطقة شركاء في التغلب على مناكب الحياة والتكسُّب والمعاش والصنائع. وحين يأتي أُكل هذه المطالب فستظل مشاعة لإنسان المنطقة دون استثناء لأحد مهما كان لونه أو عرقه أو تجاعيد شعره، أو أيَّة سمة من السمات المختلقة التي يتفاخر بها النَّاس دون وجه حق. ومن هذه المطالب الحيويَّة – على سبيل المثال لا حصريَّاً – تعبيد الطرق وتشييد الكباري لتطوير وسائل النقل، واحتفار الآبار لتوفير المياه متاعاً للإنسان والأنعام، وزراعة الأعلاف لتحسين المراعي، وتوفير الخدمات الصحيَّة لمكافحة الأمراض المستوطنة، وترقية الخدمات البيطريَّة لرعاية الثروة الحيوانيَّة، وتشييد الصوامع لتخزين الغلال لدرء مخاطر الموت جوعاً في يومٍ ذي مسغبة.
هذه الرسالة موجَّهة لكافة الإثنيَّات المستعربة في المنطقة التي تستعدي النُّوبة دون جريرة، وعليها كذلك أن تكف عن الاقتتال فيما بينها كالاشتباكات القبليَّة التي وقعت خلال شهري تموز وآب (يوليو وأغسطس) 2021م في منطقة الحميض بمحليَّة قدير بين قبيلي كنانة والحوازمة (دار علي)، وخلفت حوالي 30 قتيلاً و20 جريحاً من الجانبين. كذلك الاقتتال الأهلي الذي حدث في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2021م في محليَّة أبو جبيهة بين قبيلي كنانة والحوازمة (الإسرة) نتيجة سرقة مواشٍ، مما خلف ضحايا من الجانبين لا يقل عن 10 قتلى وعشرات الجرحى، ونزوح 400 أسرة إلى مدينة أبو جبيهة، وفقدان بعض الممتلكات وحرق للمنازل. إذ نحن نتوجه بهذه الرِّسالة إلى ذوي الضمائر الحيَّة في المجتمع الكردفاني، وأصحاب الأنفس البشريَّة. لكن أيَّة أنفس نحن في صدد الحديث عنها طراً! لعلَّ النَّفس اللوَّامة هي مبتغانا في هذا الرِّسالة، وكان الأحرى بهم أن يحتكموا إلى العقل، وألا يهتدوا بالشيوخ المضللين، والانصياع الأعمى لهم، وكأنَّ من اختارتهم قوميَّاتهم لهم قوَّة قدسيَّة مجرَّدة عن الهوى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.