في الإرث المشترك بين النُّوبة (2 من 3)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

 

[email protected]

في دولة غانا بغرب إفريقيا نجد أنَّ لقوميَّة أكان، التي تمثِّل إثنيَّة الأشانتي أكبر فروعها، إرث اجتماعي في تسمية المواليد، وذلك حسب أيَّام الأسبوع، وترتيب الطفل في الأسرة. فعلى سبيل المثال يحمل اسم كوامي نكروما (1909-1972م)، وهو أول رئيس وزراء ورئيس غانا، مدلولاً ثقافيَّاً في المجتمع الغاني. إذ يعني كوامي يوم السبت، ونكروما الرَّقم تسعة، ومن ثمَّ يعني الاسم الطفل الذكر المولود يوم السبت من أيَّام الأسبوع، ثمَّ إنَّه الطفل التاسع في الترتيب لأبويه. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ نكروما يعتبر المنظِّر السياسي والثوري الذي قاد ساحل الذهب (غانا حاليَّاً) إلى الاستقلال من بريطانيا العام 1957م، وكان ذا نفوذ مؤيِّد لفكرة عموم إفريقيا، وهو كان قد حاز على وسام لينين للسَّلام من الاتحاد السوفييتي العام 1962م. أما الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان (1938-2018م)، فإنَّ مدلول اسمه يعني أنَّه ولد يوم الجمعة، وأنَّه هو الطفل الرابع (عنان) عند والديه. هذا ما جاء في لغتهم التي تسمَّى تووي.
السكان في غانا منقسمون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. فإذا كانت الأسرة تعتنق المسيحيَّة أو الإسلام، وأرادت لطفلها اسماً مسيحيَّاً أو إسلاميَّاً فما على الوالدين إلا أن يضيفا الاسم الذي يعتقدان أنَّه يمثل رمزاً دينيَّاً للاسم الثقافي للطفل، مثلاً جون-ياو للطفل المولود يوم الخميس، وتعتنق أسرته العقيدة المسيحيَّة؛ أو محمد-كواكو بالنسبة للطفل المولود يوم الأربعاء ويتحدَّر من أسرة ذات أصول إسلاميَّة. ويشارك المواطنون الغانيُّون أصحاب الملل الدِّينيَّة المختلفة في احتفالاتهم االعقديَّة، فالمسلون يحتفلون بعيد ميلاد المسيح، وعيد الفصح (القيامة)؛ والمسيحيُّون يشاركون المسلمين في أعياد المولد النبوي الشريف والفطر المبارك والأضحى المبارك وغيرها. وإذ يستطرد محدثي قائلاً إنَّ والده لمسلم ووالدته مسيحيَّة من طائفة الكاثوليك، فهو يرتاد المسجد والكنيسة على حدٍّ سواء. هذا الإقرار بالتعدُّديَّة الدِّينيَّة هو الذي يساهم في التعايش السلمي وسط المجتمع، وهو ما يمارسه النُّوبة في مجتمعاتهم في جبال النُّوية، وبالكاد لا نجد مشكلات ناجمة بسبب الاختلاف الدِّيني في جبال النُّوبة.
إذاً، بإجراء أبحاث مستفيضة عن لغات النُّوبة وعاداتها وشعائرها التعبدُّيَّة قد تساهم في وحدة النُّوبة، والاعتداد بأنفسهم، والاعتزاز بما لديهم من إرث ثقافي تليد، الذي هو جزء من واقعنا وتاريخنا ولا يمكن الحياد عنها، وعليه ينبغي على الأجيال الصاعدة التركيز على هذين العنصرين ما أن تمسكَّت بهما لم تضل السبيل أبداً. وبتطبيق هذا المنهج نستطيع أن نمحو الفوارق القبليَّة، ونقضي على الصراعات العبثيَّة التي تنشأ بين أفرادها بين الحين والآخر. وأيم الله حين ترد إلى مسامعنا، أو نجد في قراءتنا أنباءً عن اقتتال أهالي النُّوبة فيما شجر بينهم لأتفه الأسباب يستعصر هذا الاحتراب الدموع، ويصيب المرء بأسى بليغ. وما هذه المشكلات الأمنيَّة التي تستظهر بين الفينة والأخرى إلا دليلاً على أنَّ البناء الاجتماعي في جبال النُّوبة ليس بساكن، وقد تعتريه المشكلات التي تتبدَّى هنا وهناك، وتقام الأجاويد لحلها من أجل التوازن الوظيفي-الاجتماعي، حيث يمكن اعتبار هذه الأجاويد بمثابة “التوازن الكيميائي-الوظيفي لأعضاء الكائن الحي” (The chemical-physiological homeostasis of a living organism). فالأحداث ذات الطابع الدموي التي تنشأ وسط المجموعات القبليَّة، وقد تكون دمويَّة في بعض الأحايين، وتعرقل سيرورة الحياة الاجتماعيَّة، تحتاج إلى عمليَّة اجتماعيَّة تصالحيَّة لإعادة الحياة إلى سيرتها الأولى.
بيد أنَّ الأديان الإبراهيميَّة أو السماوية لا يمكن أن تكون عامل وحدة بأيَّة حال من الأحوال سواءً كان الأمر يخص النُّوبة أم أي شعب من شعوب العالم، أو أمة من الأمم. وإذا كان الأمر كذلك لأفلحت هذه الأديان في توحيد دول يعتنق أغلب مواطنيها اليهوديَّة أو المسيحيَّة أو الإسلام. ولعلَّك واجدٌ النزاعات الطائفيَّة من قبل معتنقي الديانة الواحدة (السنة والشيعة، أو البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس وهلمجرَّاً). تأسيساً على ذلك، فإنَّ الدِّيانات المنظَّمة عبارة عن مؤسَّسات اجتماعيَّة تعمل على إعادة تشكيل الغرائز الغيبيَّة أو التجريديَّة للأفراد وتحويلها إلى عقيدة أو مبدأ. ففي التسعينيَّات من القرن العشرين أنشأت حكومة “الإنقاذ” وزارة التخطيط الاجتماعي ووضع على عاتقها الأستاذ علي عثمان محمد طه، وكان الهدف من هذه الوزارة تطويع الشعب السُّوداني اجتماعيَّاً لمواكبة ما أسمَّاه النظام “الإنقاذي” حينذاك بالمشروع الحضاري (الإسلاموي-العروبي). إذاً، فلا ريب في أنَّ الدِّين يمكن أن يكون غطاءً للخداع السياسي، ومصدراً للتكسُّب المادي، وما أكثر المخادعين باسم الدِّين في أيَّامنا هذه. فقد قال علي الوردي: “إنَّ عبارة الدِّين في خطر هي جملة يردِّدها رجال الدِّين عندما تتعرَّض مصالحهم للخطر!” ومن هنا يتضح أنَّ التوضيحات الغبيَّة التي تحمل الصبغة الدِّينيَّة تقنع بمنطقها المعوج الأغبياء من النَّاس. وفي هذا المسار اللاهوتي طفق السير هاري جونستون العام 1900م – وهو الذي كان ملحداً – وكتب رسالة إلى سوقا بأوغندا قائلاً له: “نحن نريد منك أن تعتنق المسيحيَّة، وتتبع أسلوبنا (في الحياة)، وسوف تصبح عظيماً أيضاً.” أدرك دبليو هيربورغ هذا التقمُّص الرُّوحي الخدوع باكراً، وحينئذٍ شرع يجادل في أنَّ أعضاء الكنيسة في أمريكا ما هم إلا تبعاً للأرثوذكسيَّة، أو المعتقد التقليدي، في أسلوب الحياة في أمريكا، وبذلك أصبحت العقيدة المسيحيَّة الظاهرة المعبِّرة للحياة تأكيداً للأمريكانيَّة، وقد استخدم القائمون بالأمر الدِّين كأداة لجعل هذا التوكيد فعلاً. كذلك يمكن المجادلة بأنَّ أغلب مرتادي الكنيسة في إنجلترا لا يقدمون على ذلك تأكيداً لإيمانهم بالمسيحيَّة، ولكن امتثالاً لقيم الطبقة الوسطى في المجتمع الإنجليزي.
مهما يكن من أمر، فإنَّ أهمَّ ما يميِّز المجتمعات النُّوبويَّة هو روح العمل المجتمعي (Communitarianism)، في حال السلم والحرب، وهو اصطلاح يعني المنظومة السياسيَّة التي تعمل على تأطير حياة المجتمع؛ وهو كذلك ما يُعرف بالبنيويَّة (Structuralism)، وهي الفكرة القائلة بأنَّ المفتاح إلى فهم النظام الاجتماعي هو العلاقة البنيويَّة لأجزائها: أي الطريقة التي ترتبط بها هذه الأجزاء، أو ما يُعرف في المصطلح الاقتصادي ب”تقسيم العمل” (Division of labour). لعلَّ ما يمكن أن يجمع النُّوبة، أو يجتمع حوله النُّوبة، هو أسلوب الحياة الاجتماعي والأنشطة الثقافيَّة المختلفة. فكل قبائل النُّوبة بالكاد تشترك – بلا استثناء – في كيفيَّة ممارسة الأنشطة الحرفيَّة من استعمار الأرض وإصلاحها وزراعتها وحصاد محاصيلها، وممارسة الطقوس المصاحبة لهذه المراحل الزراعيَّة، والشعائر الروحيَّة، وتقديم القربان، حتى اسم الإله الذي يتخذونه زلفى للتقرب إلى الرُّب يكون مشابهاً لدي معظم قبائل النُّوبة، وللدكتور فاروق مصطفى إسماعيل دراسة قيِّمة في هذا الإطار في أبحاثه الإثنوجرافيَّة. إذ يُعتبر كتابه “إثنوجرافيا كارلنجا: دراسة في التغيُّر الثقافي في جبال تُلشي، جنوب كردفان – السُّودان”، الذي نشرته دار المعرفة الجامعيَّة بجامعة الإسكندريَّة العام 1982م، من أشهر البحوث في هذا المجال. أما في مجال الأنشطة الترفيهيَّة وأضراب المنافسة الرياضيَّة فهناك الكثير مما فيه النُّوبة مشتركون؛ والترفيه هو أي نشاط يقوم بتوفير تسلية، أو يسمح للأشخاص بتسلية أنفسهم في أوقات الفراغ. ومن ضروب هذه الأنشطة الرياضيَّة المصارعة المألوفة التي باتت رياضة ذات شأن عالمي، وكان النُّوبة في الماضي يمارسون لعبة الهوكي، وكانت رياضة يقوم بها الشباب في فصل الصيف، وقد مارسناها في صبانا في القرية التي ترعرعنا فيها في السبعينيَّات؛ ثمَّ هناك بعض أصناف الرياضة الذي تمَّ إلغاؤه لأنَّه خطير، ويمكن أن تودِّي إلى الموت. أما فن الغناء والطرب والموسيقى فتتعدَّد الرقصات بتنوع الأنغام والإيقاعات، وتبعث في النفس شعوراً فاتناً، وراحة قلبيَّة.
على أيٍّ، فقد استخدم الأسقف النيجيري أونوهه العبارة إيَّاها في مصطلح الاشتراكيَّة – ليس بالمعني الماركسي للكلمة – وذلك في وصف المجتمعات الإفريقيَّة في بحث بعنوان “عناصر الاشتراكيَّة الإفريقيَّة” (The Elements of African Socialism). كذلك طبَّقه الرئيس التنزاني الأسبق جوليوس نايريري في برنامج زراعي-اقتصادي سُمِّي ب”أوجاما”. فالعمل الجماعي (أو النفير) هو ميزة أو سمة من سمات المجتمعات النُّوبويَّة في جبال النُّوبة. بيد أنَّ بعض قادة الغرب ومشرِّعي هذه الدول قد أخذوا التعبير واستخدموها في مجالات أخرى. فها هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير يستعيرها ويستخدمها في شعار حزب العمال الجديد، ويصفه ب”الطريق الثالث”. أما فيليب بلوند فقد أعاد استخدامه، ونعته ب”المرجعيَّة أو النظريَّة السياسيَّة الجديدة”، التي تخاطب أدواءنا السياسيَّة. كذلك ألهم التعبير حزب المحافظين في بريطانيا بزعامة ديفيد كاميرون، الذي نفخ فيه من روحه. أما الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون فقد وصف الأمريكيين في مقابلة تلفزيونيَّة في 18 نيسان (أبريل) 2010م بأنَّهم شعب أصبح أكثر تعدُّداً ومجتمعيَّاً (Communitarian) من أي وقت مضى. وفي هذا الأمر يعني المصطلح المنظومة السياسيَّة التي تمنح أصحاب المصلحة غير الفاعلين في المجتمع سلطات على الأفراد، أي الأيديولوجيَّة التي تؤكِّد مسؤوليَّة الفرد في المجتمع والأهميَّة الاجتماعيَّة في وحدة الأسرة. ويتم تعريف مصطلح أصحاب المصلحة بأنَّهم جماعة أو أشخاص أو منظمة أو نظام. وفي حال الحزب السياسي يتبنى أغلب النَّاس خط الحزب الذي قد يكون باهتاً، ويتوافقون عليه بأنَّه يمثِّل السياسة الحزبيَّة لحل مشكل ما أو المشكلات التي تعجُّ بها الدولة. الحريُّون (Libertarians) يحدِّثونك بأنَّهم يريدون الجزء الخاص بإعطاء السلطة إلى مجالس المجتمع غير الفاعلة، أو الذين رشحوا أنفسهم لقيادة المجتمع، ولهم من السلطة ما هو كفيل بترشيد حيوات النَّاس الشخصيَّة في المجتمع. أما الكاثوليك فيرغبون في أن يحل مفهوم أصحاب المصلحة قيم الروحانيَّة، وكذلك البروتستانت واليهود والمسلون الذين يسعون في أن ينفخوا فيه ما في قيمهم الأخلاقيَّة حسبما تقتضيه معتقداتهم الروحيَّة. أما اليسار فيستهجنونه بأنَّه نظريَّة مؤامرة يمينيَّة، وأهل اليمين المتطرِّف فيتظانون بأنَّه مؤامرة شيوعيَّة.

وللمقال خاتمة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.