في الإرث المشترك بين النُّوبة (1 من 3)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
في إطار اطلاعنا على ما سوَّدته الأقلام الأجنبيَّة أولاً، والمحليَّة ثانياً، عن النُّوبة عثرنا على قواسم مشتركة في مسألتي اللغة والثقافة، بحيث يمكن أن تساهم هذه القواسم المشتركة في مسألة التقاء النُّوبة على كلمة سواء، والارتقاء بالمفهوم الجمعي لقوميَّة النُّوبة. فإذا تمعَّنا في بعض المفردات اللغويَّة في أقسام قبائل النُّوبة لوجدناها متشابهة إلى حدٍّ بعيد، وقد توصَّلنا إلى هذه الحقيقة، التي ربما قد غابت عن بعضنا البعض، في الحين الذي كنا فيه نطَّلع على مسودَّة كتاب “مدخل لدراسة قبيلة دميك: الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والدِّينيَّة”، الصادر العام 2015م للأخ الصديق الدكتور قندول إبراهيم قندول، ومن قبل في المقالات المتفرِّقة التي نشرها الإداريُّون البريطانيُّون إبَّان الحكم الثنائي (1898-1956م) في حوليَّة “السُّودان في رسائل ومدوَّنات” (Sudan Notes and Records)، علاوة على مؤانستنا التي لم تنقطع مع الأصحاب والأحباب من القبائل الأخرى في المنطقة من أجل إجراء مقاربات لغويَّة.
إنَّ اللغة لها دلالة قوميَّة، وتعبِّر عن الوجدان الذاتي، والعواطف الجيَّاشة للمتحدِّث بها، كما أنَّها تساهم في تأطير الهُويَّة الشخصيَّة للفرد، والاعتداد بالنَّفس، وبخاصة لغة الأم. ففي هذا الأمر كان الشاعر الإسكوتلندي الأشهر روبرت بيرنز (1759-1796م) قد طُلِب منه عدم الكتابة بلغته القوميَّة، لأنَّ ذلك سوف يقلِّل من جماهير سامعيه، ويحول دون فهم أعماله والتواصل بينه وبين مواطني لندن. كذلك حثَّت الرسائل التي بعثها إليه معجبوه على تجنُّب القضايا السياسيَّة. لكنه تجاهل تلك الوصايا، وإذا التاريخ يخبرنا بأنَّه كان على حق. هكذا صدف بيرنز عن تلك الوصايا صدوف المهرة العربيَّة إذا سمعت صلاصل اللجم، والصدوف هو الانصراف والإعراض عن الشيء والصد عنه.
على أيٍّ، فعند تصنيف المجتمعات الإنسانيَّة قد يتشابه مجتمعان في شيء ما، وفي الآن نفسه قد يختلفان في شيء آخر. إزاء ذلك يستوجب مقارنة المجتمعات استناداً إلى مرجعيَّة بعينها، أو إلى جزء من المنظومة الاجتماعيَّة الكليَّة – على سبيل المثال النسق الاقتصادي، أو المؤسَّسة السياسيَّة، أو النظام القرائبي، أو الشعائر الطقوسيَّة. عليه قام رادكليف-براون بدراسة الأبورجيين (الشعوب الأستراليَّة الأصليَّة وسكان جزر مضيق توريس)، وأقدم على تقسيمهم إلى بضع مئات من القبائل، كل قبيل يحمل لغته الخاصة ومنظومته الاجتماعيَّة وعاداته ومعتقداته. بيد أنَّ الاختبارات التي أُجريت على نماذج كافية منها أثبتت تشاركها في سمات عامة، وهي التي شكَّلت – بشكل عام – النمط الأسترالي. وحين تتم مقارنة ومقاربة هذه العوامل الحياتيَّة المشتركة يمكن الوصول إلى عامل أحادي مشترك يجمع هذه الأقوام في قوميَّة واحدة، وهذا ما تمَّ، ومن ثمَّ أخذوا يشارون إليهم بالأبورجيين.
وعوداً إلى جبال النُّوبة، دعنا ننظر إلى مسألة الثقافة والعادات والتقاليد والممارسات التعبُّديَّة وسط النُّوبة. في الجانب الثقافي، حيث تمثِّل العادات والتقاليد والطقوس الدِّينيَّة عناصراً هامة فيها، نجد أنَّ الدكتور أس أف ناديل قد ترك لنا سفراً قيِّماً في هذا المضمار، وذلك في كتابه الأعظم “النُّوبة: دراسة أنثروبولوجيَّة عن القبائل الجبليَّة في كردفان (The Nuba: An Anthropological Study of the Hill Tribes in Kordofan)، وهو ذلكم الكتاب الذي نشرته دار جامعة أوكسفورد للنشر العام 1947م. فبرغم من أنَّ الكتاب قد اشتمل على دراسة بعض القبائل النُّوبويَّة كنماذج بعينها في البحث الميداني، إلا أنَّه – وبفضل ما جاء فيه – أخذه الإداريُّون البريطانيُّون بقوَّة، واعتبروه إنجيلاً في كيفيَّة التعامل مع أهالي النُّوبة في سبيل ترويضهم بعد أن وجدوهم متمرِّدين، ولا ينصاعون أو يحبذون الخضوع والخنوع لأيَّة سلطة مركزيَّة مهما يكن من أمر. علاوة على هذا السفر القيم، فقد نشر الدكتور ناديل أوراقاً شتي في غاية الأهميَّة عن بعض المجتمعات النُّوبويَّة الذي لم يشمله كتابه إيَّاه، ولعلَّ القارئ يمكن أن يجد هذه الأوراق مبثوثة في أعداد حوليَّة “السُّودان في رسائل ومدوَّنات”.
في دراسته للأصل الثنائي الأحادي (Double unilateral descent) في نوبة الجبال، بحث ناديل نمط هذه الظاهرة الاجتماعيَّة التي تتماهى العشيرة في الانتماء إلى جانب الأب والأم على حدٍّ سواء، وبذلك ينتمي كل فرد إلى مجموعة الأصل الخارجي من ناحية الأبويَّة والأمومة في الحقوق والواجبات المؤتلفة المميَّزة (Syncretic and diacritical-symbiotic rights and obligations). لقد تمَّ رصد هذه الظاهرة في عدَّة مناطق بغرب إفريقيا، مثلاً عند قبائل أشانتي وقا وفانتي وياكو، وكذلك وسط قبيل كوناما في غرب إريتريا، وهي مجموعة زنجيَّة وسط قبيل البني عامر الحامي؛ وكوناما – في كثرٍ من الأحوال – مشابهة للنُّوبة في السُّودان. ففي الدراسة إيَّاها اكتشف ناديل وجود هذه الظاهرة وسط بعض القبائل في جبال النُّوبة، أي كاو-نيار وفنقور في أقصى الجنوب الشرقي في جبال النُّوبة، وكذلك في تلشي في الجبال الغربيَّة. لعلَّ تواجد هذه الظاهرة الاجتماعيَّة وسط المجموعتين يثبت – برغم من تباعدهما مكانيَّاً – فرضيَّة أنَّ النُّوبة كانت في الماضي السحيق إثنيَّة واحدة كبيرة، ثمَّ أنَّ هذه الرَّابطة الاجتماعيَّة (الثقافيَّة) ربما جاءت من جراء الهجرات المحليَّة في إقليم جبال النُّوبة.
مهما يكن من شيء، فبعد قراءتنا لهذه الأسفار وغيرها مما كُتِب عن أنثروبولوجيا النُّوبة، توصَّلنا إلى حقيقة مفادها أنَّ جميع قبائل النُّوبة كانت أمة واحدة كبيرة. إذاً، ما الذي حدث وتسبَّب في هذا التباين اللغوي إلى حدٍّ ما، حتى تجمَّع بعضها في مجموعات شبيهة؟ لعلَّ الأسباب في كل ذلك تعود إلى الهجرات الإقليميَّة والنزوح المحلي، وكانت العلل السببيَّة لهذا النزوح تتمثَّل في المجاعات والحروب القبليَّة التي افتعلتها غارات الاستعمار في سبيل الحصول على الرَّقيق، وبخاصة إبَّان العهد التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م)؛ ذاك الاستعمار الذي جعل منطقة جبال النُّوبة وجنوب السُّودان والنيل الأزرق مرتعاً لاصطياد الرَّقيق، وبذلك تكون تلك القوميَّات قد اشتركت في الألم العظيم، والألم العظيم يخلق الرجل العظيم، كما يقول المثل الفرنسي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان تقوقع بعض القبائل في محميات جبليَّة كملاجئ آمنة من أجل البقاء قد جعلها تطوِّر لغاتها بطريقة فريدة، نطقاً وتحريفاً وابتكاراً لمفردات لغويَّة جديدة حسب البيئة المحليّة المحدودة، وبذلك يلعب عاملا الجغرافيا والتاريخ دوراً رائساً في التطوُّر الثقافي للشعوب. ففي حقيقة الأمر يتفق معظم الباحثين أنَّ للبيئة الجغرافيَّة أثراً في حياة المجتمع ومظاهر نشاطه، وذلك لأنَّ البيئة الجغرافيَّة تتحقق آثارها بفضل ما يحدث بينها وبين العوامل الجغرافيَّة الأخرى من جهة، وما يحدث بينها وبين استعدادات الشعوب من تفاعل الهمم وتضافر الجهود من جهة أخرى. فلئن لم يتم ذينك التفاعل والتضافر لم تستطع هذه البيئة سبيلاً إلى إحداث أثرٍ ما في حياة الجماعات.
الجدير بالذكر أنَّ أغلب أسماء قبائل النُّوبة قد تمَّت تسميتها من قبل الأعراب الذين وفدوا واستوطنوا في المنطقة في القرن الثامن عشر، ولئن لم يتوطَّنوا (They have not been nativised)، والدليل على ذلك نكران انتمائهم لإفريقيا، وتماهي هُويَّتهم بالعروبة في تهامة ونجد وعسير في شبه الجزيرة العربيَّة. إمعاناً لإساءتهم لبعض الأقوام النُّوبويَّة جاءت أسماؤهم لهذه القوميات سيئة موغلة في البطر، فبئس الاسم الفسوق. كما أنَّ في بعض الأسماء تمَّت إضافة أعلام عربيَّة إليها كي تفصح عن التعريب الذي استشرى في البلاد، وها نحن نثمن النهضة النُّوبويَّة والصحوة الثقافيَّة التي ألهمت أبناء المنطقة وشرعوا في تأصيل أسماء قبائلهم ومناطقهم بعيداً عن غلواء العروبة والإسلام. كذلك استحوذ بعض القبائل أسماءها من قبل جامعي الضرائب في العهد التركي-المصري، أو الحكم الثنائي (البريطاني-المصري). إذ ارتبطت أسماء قبائل النُّوبة قبل الأسماء المستحدثة بمعالم المنطقة كاسم جبل أو مجرى مائي، أو بصفة تعني النَّاس أو الشعب أو القوم.
نذكر من المناطق التي تمَّ تغيير أسمائها منطقة كورونقو، والاسم الأصلي لها هو سنقالي وهو الجد المؤسِّس للقبيل. أما عبد الله الذي يجيء مقروناً دوماً بالاسم فهو اللقب الذي أطلقه العرب على كجنقر، وكجنقر من أوائل الناس في المنطقة الذي كان يجيد اللغة العربيَّة، وكان يعمل مترجماً لمك القبيلة كفي-بانجي في المحادثات الرسميَّة مع السطات الحكوميَّة في تصريف الأوامر السياسيَّة، أو العرب في فض النزاعات، ومن ثمَّ ظلت المنطقة تُعرف ب”كورونقو عبد الله”. كذلك تمَّ تعريب اسم “لقي” إلى أبو سنون، وهي المنطقة التابعة لمحليَّة ميري. أما قرية “نيماقولو” التابعة لمنطقة كورونقو، وتقع بين تمة وبلنجا في طريق كادقلي-كورونقو، فقد تمَّ تعريبها هي الأخرى إلى “بركة”؛ والاسم الأهلي لقرية أبو هشيم في منطقة المورو هو “بندلِّي”. وتمَّ أيضاً تغيير الاسم الأهلي لقرية “طورا” في منطقة البرام إلى الإحيمر. أما في منطقة النيمانج فقد تم تغيير أسماء بعض المناطق نذكر منها “فوجيني”، الذي أمسى فوسو ثمَّ تمَّ تصحيفها إلى الفوز، وكرمتي كانت تسمَّى في الماضي “كندونقول”، وتنديَّة كان اسمها الأصلي “تونا”. وفي منطقة دميك تمَّ تغيير اسم “موجوك” إلى دبكاية، و”كوكوقادي” إلى درنقاس، حيث يستوطن قبيل المسيريَّة المستعربة. وفي كتلا تمَّ تغيير اسم منطقة “كتكوك” الزراعيَّة إلى الأغيبش، و”طوال أو توال” إلى أم خير.
إزاء ذلك ذكر التقرير الذي أعده أفريكان رايتس بأنَّ كلمة “نوبة” ليست مؤصَّلة في أي من لغات نوبة الجبال، وبصورة جوهريَّة استخدمت كلمة نوبة من قبل المصريين والسُّودانيين الشماليين للإشارة إلى السُّود الذين يقطنون جنوبهم، والذين يمكن استرقاقهم. حتى الأسماء التي تطلق على قبائل النُّوبة هي نفسها كثيراً ما تكون من صنع العرب الأجانب، وتعكس مواقف عنصريًّة. وقرية مساكين اسمها الأصلي “لافي”، وهي تتبع لمجموعة تلودي اللغويَّة. ومن أسماء القبائل أيضاً تعني كلمة “أما” النَّاس في لغة “نيما”، أي النيمانج؛ وكذلك تعني كلمة “أورونقي” حرفيَّاً النَّاس في لغة تيمين. بيد أنَّ أكثر ما استرعى انتباهنا ثقافة تسمية المواليد عند مجموعة “كا قولو” اللغويَّة في جبال النُّوبة، وتأتي أسماء البنين عندهم على النحو التالي: كوكو وكافي وكجو وكندة وكبي وكوجي وككي، وذلك حسب الترتيب في الميلاد ابتداءً من الأول. أما عند البنات فتأتي أسماؤهن على النحو التالي: كاكا وكوجي وكني وكوشيه وكندالة وغيرها. وهناك من الأسماء الشائعة في جبال النُّوبة مثلاً: كربوس وكرتكيلا ودلدوم وغيرها.
وللمقال بقيَّة،،،