في “آثار جبال النُّوبة المنسيَّة: استطلاع أثري بموقع جبل دميك” للأستاذ عمار عوض محمد عبد الله

بقلم الدكتور قندول إبراهيم قندول

[email protected]

نشرت مجلة الدراسات السُّودانيَّة التي يصدرها معهد الدراسات الأفريقيَّة والآسيويَّة بجامعة الخرطوم في المجلد السادس والعشرون، أكتوبر ٢٠٢٠م، مسحاً أوليَّاً عن الآثار في جبل دميك التابع لقبيلة “دميك/روفيك” النُّوباويَّة.  وبكل المقاييس يعتبر هذا أول عمل علمي يقوم به سُّوداني على أرض الواقع في المنطقة. وعلى الرغم من محدودية أو قل انعدام الإمكانات اللوجستيَّة اللازمة للمسح والبحث، إلا أنَّ الجهد الذي قام به الأستاذ عمار يفوق كل التوقعات استناداً على الحقائق التاريخيَّة المادية والنتائج التي توصَّل إليها والتوصيات التي خرج بها. ولكن هناك ثمَّ سؤال يتبادر إلى الذهن وهو كيف ولماذا وقع الاختيار لموقع “جبل دميك” تحديداً دون بقية جبال النُّوبة؟ يجيب الأستاذ عمار بأنَّ الصدفة قادته لتدوين ملاحظاته حول الظاهرة الثقافيَّة للقبيلة عند زيارته لبعض الأقارب في المنطقة. بيد أنَّ الهدف من التدوين كان “التعريف المبدئي بطبيعة البقايا الأثريَّة وأهميتها الثقافيَّة والتاريخيَّة المحتملة بهذه المنطقة الغامضة من أجل وضعها داخل الخارطة الإقليميَّة للآثار السُّودانيَّة”. وبما أنَّ الصدفة لعبت دوراً في هذا المسح، فلا غرو في ذلك، فقد قادت الصدفة لاكتشافات أثريَّة تاريخيَّة مهمة حول العالم بواسطة أشخاص عاديين مثلما حدث في الصين ومصر وغيرهما. إذن، يمكن القول إنَّ هذا الجهد الأولي سيقود حتماً لعمل اكتشافي أوسع وعميق في المنطقة. ولكن هذا مرهون باهتمام الهيئة القوميَّة للآثار والمتاحف السُّودانيَّة، وكذلك المجلس القومي للتراث الثقافي وترقية اللغات القوميَّة، بالبحوث في مناطق السُّودان المختلفة، سيما جبال النُّوبة على وجه الخصوص لأنَّها لم تحظ بالبحث في هذا المجال ضمن مجالات أخرى كثيرة. ولعلَّنا قد أشرنا وأوصينا في خاتمة كتابنا الصادر العام ٢٠١٥م عن قبيلة “دميك/روفيك” إلى ضرورة إجراء بحوث أثريَّة علميَّة مستفيضة ودقيقة في المنطقة وفي جبال النُّوبة باستخدام التكنولوجيا الحديثة وأهمها اختراعين أساسيين هما: البصمة الوراثيَّة (الحمض النووي) وكربون ١٤ للربط بين مكونات مناطق جبال النُّوبة المختلفة، وبالذات المتجاورة منها، ولتحديد تواريخ الأحداث التي جرت فيها. (١)
شملت ملاحظات الأستاذ عمار أربعة مظاهر للثقافة الماديَّة في جبل دميك هي: المباني السكنيَّة وملحقاتها مثل مخزن الغلال، وأشكال المقابر الظاهريَّة ذات الأقطار الدائريَّة الضيقة والشبيهة بنماذج المقابر التي وُجدت بمنطقة ود البغا، مشيخة الغديات شمال الأبيض. (٢) كذلك ضمَّنت الملاحظات أواني الطبخ والشراب التي تحمل النقوش الهندسيَّة الدقيقة والرائعة التصميم، وفن الرسومات بالنحت على الصخور للشخوص والحيوانات التي كانوا يمتلكونها. كل هذه مدعومة بالصور الفوتوغرافيَّة الواضحة. ومن أهم الاستنتاجات التي توصَّل إليها الأستاذ عمار مقارنته ومقاربته لأدوات الطحن (المراحيك/المرحاكة) الفرديَّة والجماعيَّة المنحوتة على الصخور بتلك التي استخدمت في فترة العصر الحجري الحديث في وسط السُّودان مثل مناطق الخرطوم والجيلي والأبيض داخل مدافن السكان المعاصرين للفترة المرويَّة كما أوردها بعض الباحثين. (٣) أيضاً ذهب في استنتاجه إلى أنَّ تركيز تلك المطاحن وتعدٌّدها كمجموعة على سطح الصخرة المنبسطة الواحدة يشير إلى أنَّ النساء كُن يجتمعن معاً لطحن وسحن أنواع مختلفة من الغلال والمكسرات (الفول السمسم) عند تجهيز الطعام والشراب لأداء طقس من الطقوس أو سبر من أسبار القبيلة. (٤) خلص البحث إلى أنَّ هذه المطاحن شبيهة بالتي وثَّقها الباحث فارادزن وآخرون بمنطقة السبلوقة في مواقع تعود إلى العصر الحجري الوسيط والحديث، (٥) وفي منطقة الشلال الثالث كما جاء في بحث طاهر (٦)، وفي مواقع أخرى عديدة من شمال شرق أفريقيا. (٧)
ومن التوصيات التي خرج بها المسح الأولي هو توسيع البحث الأثري في مواقع جديدة من السُّودان بما في ذلك جبال النُّوبة التي تتمركَّز دميك وسطها. تشجيع أبناء المنطقة بالانخراط والمساهمة في تفعيل والمشاركة في مثل هذا العمل بالتعاون مع ومد الباحثين المتخصصين بالمعلومات الدقيقة عن القبيلة ليتمكَّنوا من الكشف عن مكنون الماضي العريق للقبيلة. إنَّ التشابه بين الآثار في هذه المنطقة وشمال السُّودان تشير إلى رابط العلاقة بين هذه الشعوب. وهذا ما ظلَّ نوبة “جبال النُّوبة” يرددونه بانتمائهم الأصلي لنُّوبة الشمال. أما من أهم فوائد المسح هو وضع دميك تحت دائرة الضوء والتطلع لاهتمام الجهات المختصة لكشف المزيد عن المنطقة التي تملك مقومات إجراء مثل هذا البحث كالإمداد اللوجستي للباحثين حيث يمر بدميك الخط الناقل للبترول والطريق المصاحب فضلاً عن وفرة المياه وكل ما يلزم.

المراجع (*)

(١) مدخل لدراسة قبيلة روفيك (دميك)، الحياة الاجتماعية والثقافيَّة، والدينيَّة، جبال النُّوبة-السُّودان، مطابع إم. بي. جي، لندن، ٢٠١٥م، الصفحات ٤٢٩-٤٣٠.
(٢) عبد الرحمن إبراهيم سعيد علي ومحمد البدري سليمان. ٢٠١٧. التقرير الأولي لحفريات مملكة الغديات الإسلاميَّة في منطقة مدافن ود البغا – شمال كردفان (الموسم الأول ٢٠١٦-٢٠١٧م (غير منشور).
(٣) I. Caneva. 1988. El Geili: The History of a Middle Nile Environment 7000 B. C. Journal of African Archaeology, Vol. 12 (2), pp. 183-204.
(٤) مدخل لدراسة قبيلة روفيك (دميك)، الحياة الاجتماعية والثقافيَّة، والدينيَّة، جبال النُّوبة-السُّودان، مطابع إم. بي. جي، لندن، ٢٠١٥م.
(٥) L. Varadzin et al (2017): From Holes to Huts: Reconstructing an Extinct Type of Architecture at the Sixth Cataract, Antiquity 91 (357)، pp. 589-604.
(٦) Y. Tahir. 2015.  Some Traditions and Rituals at Megaliths with holes and footprints in Third Cataract Region of the Nile and Beyond, (Sudan). American Research Thoughts 1 (12), pp. 2963-2971.
(٧) R. Bednarik. 2008. Cupules. Rock Art Research 25, (1), pp. 61-100.

(*) المراجع التي استخدمها كاتب المسح الأصلي ما عدا المرجع رقم (١) و(٤).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.