فك الارتباك بين المسلمين والإسلاميين: ضرورة لمواجهة جذور الأزمة السودانية:

خالد كودي، بوسطن ٢٧ أغسطس ٢٠٢٤

 

تواجه السودان أزمة عميقة تتعلق بالتقاطعات بين الدين والسياسة والنكران، حيث شهدت البلاد فشلًا متكررًا لمحاولات إقامة “دولة إسلامية” على يد المسلمين، ويسمونهم احيانا الإسلاميين، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين. في مواجهة هذا الفشل، تحاول بعض النخب السودانية من المسلمين تبرير ما حدث بالقول إن الإسلام لم يُطبق بالطريقة الصحيحة، وإن هناك “إسلامًا حقيقيًا” يمكن أن يحقق النجاح إذا ما طُبِّق بطريقة مختلفة. هذه الحجة، رغم انتشارها، تتجاهل تعقيدات الواقع السوداني المتعدد الأديان والإثنيات عن عمد، وتغفل عن حقيقة أن المشكلة لا تكمن في التطبيق بقدر ما تكمن في محاولة فرض نموذج ديني على مجتمع متنوع أيا كان هذا الدين.

الإسلام والإسلاميون: جدلية الانتماء والإيمان:

من وجهة نظر إسلامية، كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فهو مسلم، وهذا مبدأ لا يمكن تجاهله. القرآن الكريم يُوضح: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ” (سورة الحجرات: 10). وفي الحديث الشريف، قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): “من قال لا إله إلا الله دخل الجنة” (رواه البخاري ومسلم). هذه النصوص تُظهر بوضوح أن الإسلام لا يمنح أي جهة أو فرد حق تحديد من هو المسلم أو تصنيف المسلمين بناءً على فهم معين للإسلام.

الإسلام شهد تاريخيًا تعددية مذهبية وفكرية تعكس ثراءً فكريًا وروحيًا، وليس هناك سلطة تحتكر الحقيقة أو تدعي امتلاك النموذج الصحيح الوحيد للإسلام. هذه التعددية تُعتبر جزءًا من التراث الإسلامي، ومن غير المنطقي أن يتم تقسيم المسلمين إلى “مؤمنين حقيقيين” و”آخرين غير حقيقيين” بناءً على تفسيرات ضيقة أو تجارب سياسية فاشلة.

جماعة الإخوان المسلمين، رغم ما ارتكبته من جرائم وانتهاكات خلال حكمها في السودان، هم مسلمون يشهدون الشهادتين ويؤدون العبادات الأساسية للإسلام مثل الصلاة والزكاة، والصيام والحج. رفض سياساتهم أو ممارساتهم لا يعني نفي إسلامهم. مالكوم إكس، المناضل الأفرو أمريكي، قال: “أنا لا أنتمي إلى إسلام يقتل ولا إلى دين يُرهب. إيماني هو إيمان بالعدالة والحرية والمساواة”. هذه المقولة تُبرز كيف يمكن أن يكون هناك نقد للسياسات والممارسات دون نفي هوية دينية أو إيمان.

أزمة السودان: إعادة التجريب والفشل المستمر:

المعضلة التي تواجه السودان ليست في محاولات تطبيق الشريعة الإسلامية فحسب، بل في الإصرار على فرض نموذج ديني على دولة متعددة الأديان والإثنيات. السودان، بوصفه مجتمعًا متنوعًا، لا يمكن أن يُدار بنجاح عبر فرض رؤية دينية واحدة على الجميع حتي وان كانت هذه الرؤية “صحيحة” من وجهة نظر أي جماعة كانت. وهذا ما يتجاهله أولئك الذين يبررون فشل الإسلاميين بادعاء أن “الإسلام الحقيقي لم يُطبق بعد”

الهروب من مواجهة جذور الأزمة السودانية عبر الترويج لحجج مثل ” الكيزان طبقوا الإسلام الغلط والإسلام الصحيح لم يُطبق” هو في الواقع تهرب من المسؤولية. في كتابه معذبو الأرض، يشير فرانز فانون إلى أن “الاعتراف بالمشكلة هو نصف الحل”، ويؤكد أن المجتمعات التي تفشل في مواجهة تاريخها وتحدياتها بشكل مباشر تبقى محاصرة في دوامة من الفشل المتكرر. هذا ينطبق تمامًا على السودان، حيث أدى التهرب من معالجة جذور التمييز والتنوع إلى استمرار الأزمات حتي اوصلته الي الدمار الشامل بالحرب الحالية.

تجربة جنوب أفريقيا: المصالحة والتعددية:

تجربة جنوب أفريقيا تحت قيادة نيلسون مانديلا تقدم درسًا مهمًا في كيفية مواجهة إرث التمييز والتنوع العرقي والديني. بدلاً من محاولة فرض نموذج واحد على الجميع، تبنت جنوب أفريقيا نموذجًا للمصالحة الوطنية يقوم على الاعتراف بالتنوع والاختلاف. كما قال مانديلا: “ليس هناك طريق سهل إلى الحرية”، وهذا يعني أن مواجهة التحديات تتطلب مواجهة الجذور الحقيقية للمشكلة، وليس الهروب منها أو التغطية عليها بحجج دينية.

ضرورة العلمانية في إدارة دولة متعددة:

السودان بحاجة إلى نظام علماني ديمقراطي يقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، بحيث يُتاح لجميع الأفراد العيش في إطار من المساواة والعدالة. جون لوك، الفيلسوف الإنجليزي الذي وضع أسس العلمانية الحديثة، قال: “الدين أمر شخصي، لا يمكن أن يُفرض بالقوة”. هذه الفكرة تُلخص ضرورة فصل الدين عن الدولة لضمان حقوق جميع الأفراد بغض النظر عن دينهم او مذاهبهم.

العلمانية لا تعني معاداة الدين؛ بل تعني توفير مساحة لكل الأديان لممارسة شعائرها بحرية دون أن تفرض نموذجًا دينيًا على الدولة بأكملها. في السودان، الذي يضم مسلمين ومسيحيين وأتباع ديانات أخرى، العلمانية هي الضمانة الوحيدة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتعايش السلمي. كما قال مهاتما غاندي: “يجب أن تكون الدولة مستقلة عن كل انتماء ديني”، وهي الفكرة التي يمكن أن تنقذ السودان من تكرار تجارب الفشل السابقة والوعد بالتجريب الذي سقود حتما الي دورات اخري من الفشل.

العدالة الشاملة وفصل الدين عن الدولة: مواجهة الحقيقة في السودان:

لا يمكن معالجة الأزمات السودانية عبر تكرار تجارب المسلمين الفاشلة أو محاولة إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية على مجتمع متنوع مثل السودان. السودان، بتعدده الثقافي والديني، يحتاج إلى نظام علماني ديمقراطي يضمن حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الاجتماعية. كما قال مارتن لوثر كينغ جونيور: “الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان”، فإن تحقيق العدالة في السودان يتطلب نظامًا يضمن المساواة الحقيقية ويحترم تنوع المجتمع السوداني.

لكن للوصول إلى هذا الهدف، يجب مواجهة حقيقة لا يمكن نكرانها، وهي أن الإسلام، كغيره من الأديان، يميز بين الناس على أساس الدين والنوع الاجتماعي. وهذا التمييز موجود في النصوص الدينية والفقه الإسلامي، مما يطرح تحديات أمام فكرة العدالة الشاملة والمساواة وبالتالي المواطنة.

الإسلام والتمييز بين المسلم وغير المسلم:

النصوص الدينية الإسلامية تفرق بوضوح بين المسلمين وغير المسلمين. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” (سورة المائدة: 51). هذه الآية تُستخدم في العديد من السياقات لتبرير التعاملات المختلفة مع غير المسلمين، بما في ذلك قضايا الولاء والسلطة.

كما أن الفقه الإسلامي التقليدي يميز بين المسلمين وغير المسلمين في العديد من الجوانب، مثل الزواج، حيث يمنع زواج المسلمة من غير المسلم، ويقيد حقوق غير المسلمين في الشهادة أمام المحاكم الإسلامية. تاريخيًا، كانت فكرة “أهل الذمة” تُطبق على غير المسلمين في الدولة الإسلامية، حيث كانوا يتمتعون بحماية معينة لكنهم كانوا يدفعون الجزية ويخضعون لشروط تختلف عن المسلمين.

في هذا السياق، يجب أن نعترف بأن تطبيق الشريعة الإسلامية، كما هو متعارف عليه في الفقه، يؤدي إلى تمييز قانوني بين المواطنين على أساس الدين. وهذا يتناقض مع فكرة المواطنة المتساوية التي تضمنها الأنظمة العلمانية الديمقراطية. فالإصرار علي تطبيق الشريعة الإسلامية من أيا كان، ووفقا لاي مذهب ستنتقص من المواطنة المتساوية وهذا سيؤدي الي الحروب وعدم الاستقرار.

الإسلام والتمييز بين الرجال والنساء

التمييز بين الرجال والنساء في الإسلام هو جانب آخر لا يمكن تجاهله. القرآن الكريم ينص في عدة مواضع على أن للرجال والنساء حقوقًا مختلفة. في سورة النساء، يقول الله تعالى: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ” (سورة النساء: 34). هذه الآية تُفسر تقليديًا بأن الرجال لهم القوامة على النساء، وهو مفهوم أدى إلى فرض قيود على حقوق النساء في الكثير من المجتمعات الإسلامية.

بالإضافة إلى ذلك، في قضايا الميراث، يقول الله تعالى: “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ” (سورة النساء: 11). هذه الآية تُحدد بوضوح أن الذكر يحصل على نصيب أكبر من الميراث مقارنة بالأنثى، مما يعكس تمييزًا قانونيًا بين الجنسين.

تاريخيًا، تم تطبيق هذه الأحكام بصرامة في المجتمعات الإسلامية، مما أدى إلى تهميش دور النساء في الحياة العامة والسياسية. وحتى اليوم، يتم تبرير بعض السياسات التمييزية ضد النساء بالرجوع إلى هذه النصوص.

تجارب تاريخية تدعم التمييز.

من الناحية التاريخية، شهدت المجتمعات الإسلامية تطبيقات عديدة لهذه الأحكام التي تميز بين المسلمين وغير المسلمين وبين الرجال والنساء. على سبيل المثال، في الدولة العثمانية، كانت فكرة “الملة” تُطبق بشكل واضح، حيث كان كل مجتمع ديني (مسلم، مسيحي، يهودي) يخضع لقوانينه الخاصة، ولكن المسلمين كانوا يتمتعون بامتيازات قانونية وسياسية تفوق غيرهم.

في العصور الإسلامية المختلفة، كانت هناك مستويات من التمييز المؤسسي بين المسلمين وغير المسلمين، وبين الرجال والنساء، وذلك في مجالات مثل التعليم والقضاء والسياسة. هذه الممارسات لم تكن مقتصرة على الدولة العثمانية، بل امتدت إلى العديد من الدول الإسلامية عبر التاريخ واخرها تجربتنا المعاصرة في السودان التي تجلت مع سيطرة الاخوان المسلمين علي الدولة وامتدت الي يومنا هذا.

العلمانية كحل للتمييز:

لهذه الأسباب، يتضح أن السودان، بتنوعه الثقافي والديني، يحتاج إلى نظام علماني ديمقراطي يضمن حقوق جميع المواطنين دون تمييز. العلمانية هي السبيل لضمان المواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان، وهي الفكرة التي عبر عنها العديد من المفكرين مثل جون لوك ومهاتما غاندي. الدولة العلمانية تفصل بين الدين والسياسة، مما يتيح لكل الأفراد حرية ممارسة دينهم دون فرض قيود دينية على الدولة.

في هذا السياق، يجب على المسلمين السودانيين أن يعترفوا بأن الإسلام، كدين، يميز بين الناس على أساس الدين والجنس. الحل ليس في إنكار هذه الحقيقة، بل في تبني نظام سياسي يحترم التنوع والتعددية ويضمن المساواة بين الجميع. كما قال نيلسون مانديلا: “الحرية ليست مجرد كسر القيود، ولكنها العيش بطريقة تحترم وتعزز حرية الآخرين”.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.