عن ورقة “نظرية العلمانية وفرضياتها” – د. حافظ الزين رئيس دائرة الثقافة والفكر بالمجلس الاستشاري لقائد الدعم السريع:

خالد كودي، بوسطن، 10/7/2025

 

(قراءة ثانية)

في سياق المسعى الوطني لبناء دولة سودانية جديدة—ديمقراطية، متعددة الإثنيات والأديان، قائمة على المواطنة المتساوية -تحتل قضية علمانية الدولة موقعاً مركزياً ضمن مرتكزات المشروع التأسيسي الجديد. فالعلمانية ليست مجرد خيار أيديولوجي أو ترتيب سياسي عابر، بل هي شرط بنيوي لتحقيق المواطنة المتساوية والعدالة التاريخية، وضمان وحدة الحقوق ومنع إعادة إنتاج أنماط الإقصاء والصراع.

في هذا الإطار، تطرح ورقة د. حافظ الزين، المعنونة “نظرية العلمانية وفرضياتها”، والصادرة عن المجلس الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع، جملة من التصورات والمواقف حول موضوع العلمانية. ورغم ما تتضمنه الورقة من إقرار مبدئي بحق القوى السياسية، بما في ذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، في تبني نظام حكم علماني، إلا أنها تنطوي على مغالطات مفاهيمية ومنهجية جوهرية تمسّ فهم طبيعة العلمانية وموقعها في البناء الدستوري الحديث.

تهدف هذه الوثيقة إلى تقديم رد علمي منهجي، يستند إلى:

– القانون الدولي لحقوق الإنسان (ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وإعلانات الأمم المتحدة ذات الصلة)

– السوابق الدستورية المقارنة في النظم الديمقراطية الحديثة،

– مبادئ تحالف تأسيس بوصفها التعبير السياسي الأرقى عن تطلعات قوى السودان الجديد،

– فكر الفلاسفة الدستوريين المعاصرين- وفي مقدمتهم يورغن هابرماس، جون راولز، ومايكل والزر- الذين بلوروا مفهوماً دقيقاً للعلمانية كشرط لتحقيق العدالة والمواطنة المتساوية في المجتمعات التعددية.

إن الهدف الرئيسي لهذا الرد هو تأكيد أن العلمانية، في معناها الدستوري الحديث، ليست خياراً مرناً أو نسبياً، قابلاً للتجزئة أو التفاوض المرحلي، بل هي مبدأ تأسيسي فوق دستوري، يشكل الإطار الضامن لوحدة الحقوق والمواطنة، ولتفكيك البنى التي أعادت إنتاج الحروب والانقسامات في السودان لعقود.

أولاً: معنى العلمانية في الفقه الدستوري:

١/ تصحيح التعريف

تبدأ ورقة د. الزين بطرح إشكال زائف: هل العلمانية “دين” أو “فلسفة” أو “نظام حكم”؟

الإجابة من منظور القانون المقارن والفقه الدستوري المعاصر (راجع قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان،

Lautsi v. Italy, 2011؛

قرار المحكمة الدستورية الهندية في

S.R. Bommai v. Union of India, 1994)

العلمانية مبدأ دستوري يُنظّم علاقة الدولة بالدين، ولا يُصنّف كدين أو فلسفة شاملة.

في فكر يورغن هابرماس، العلمانية هي جزء من “الإطار التواصلي الديمقراطي” الذي يضمن حياد الدولة ومشاركة جميع المواطنين على قدم المساواة في المجال العام.

(Between Naturalism and Religion, 2008).

في فكر جون راولز، هي شرط سياسي لتحقيق “العدالة كإنصاف” في مجتمع تعددي

(Political Liberalism, 1993)

.

وفي تصور مايكل والزر، هي أداة ضرورية لمنع الطغيان الديني وحماية الحريات الفردية

(Spheres of Justice, 1983)

٢/ الأبعاد الدستورية للعلمانية

بناءً عليه، تتضمن العلمانية الدستورية:

– حياد الدولة إزاء الأديان،

– ضمان حرية الدين والمعتقد (الإيجابية والسلبية)

– منع توظيف الدين في التشريع أو في عمل مؤسسات الدولة

هذا ما أكدته أيضاً:

المادة 1 من دستور الهند: “الهند جمهورية ديمقراطية علمانية”.

المادة 1 من دستور تركيا: “جمهورية علمانية”.

التعديل الأول للدستور الأميركي: يحظر إصدار قوانين تؤسس لدين معين أو تمنع حرية ممارسته

بالتالي، الإشكال المفاهيمي في ورقة الزين يُسقط عن العلمانية مضمونها كشرط فوق دستوري!

ثانياً: مغالطة “استحالة فصل الدين عن الدولة”

الورقة تطرح الحجة التالية:

“لا يمكن فصل الدين عن الدولة لأن الدين حق طبيعي… والدولة هي الضامن للحقوق.”

هذا الاستدلال يتجاهل ما يلي:

– فصل الدين عن الدولة لا يعني مصادرة الدين من المجتمع أو الأفراد، بل يعني فقط حياد المؤسسة القانونية.

– حماية حرية المعتقد تفترض بالضرورة فصل سلطة الدولة التشريعية والإدارية عن المرجعيات الدينية.

وفق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادة 18:

“لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين… ولا يجوز إخضاع هذه الحرية لأي قيد إلا المقرر بمقتضى القانون…”

المادة 1 من الدستور الهندي والممارسة الأميركية تُظهران أن وجود أغلبية متدينة لا يبرر تسييس الدين.

كما يؤكد راولز:

“الحياد بين العقائد المتنافسة شرط لشرعية النظام السياسي في مجتمع تعددي”

(Political Liberalism)

ثالثاً: الأخلاق ليست حكراً على الدين:

الورقة تدّعي:

“الأخلاق هي جوهر أي دين، وبالتالي لا يمكن فصل الدين عن الدولة لأن الدولة تحتاج الأخلاق”

هذا اختزال مغلوط:

– الأخلاق المدنية تُشتق من مصادر متعددة: فلسفية، قانونية، إنسانية…

– الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان (1948) تشكل معياراً أخلاقياً كافياً لحكم الدولة الحديثة.

– الأخلاق الدستورية تُبنى على قاعدة وحدة المواطنة، لا على أساس الانتماء الديني.

وفق هابرماس

“الدولة الديمقراطية تتأسس على عقلانية تواصلية تتجاوز الحدود العقائدية والدينية”

(Between Facts and Norms, 1996)

رابعاً: خطورة مفهوم “العلمانية الثقافية” كما يطرحه الكاتب

يقدّم الكاتب ما يسميه “العلمانية الثقافية”، التي وفقاً لتعريفه:

،”لا تفصل الدين عن الدولة ولا عن المجتمع ولا عن السياسة”-

“تتماشى مع التركيبة الديموغرافية للسودان حيث يشكّل المسلمون 97٪ من السكان”-

هذا التصوّر يتسم بغموض مفاهيمي ومغالطات دستورية خطيرة:

أولاً، العلمانية الدستورية لا تهدف إلى تجريد المجتمع من الدين أو محاصرة الإيمان الشخصي، بل إلى ضمان حياد الدولة في المجال الديني، بما يكفل لجميع المواطنين- بصرف النظر عن معتقداتهم- حقوقاً متساوية ومجالاً عاماً مشتركاً خالياً من الامتيازات الدينية.

ثانياً، محاولة تكييف تعريف العلمانية بناءً على النسب الديموغرافية هي مقاربة ساقطة قانونياً:

حقوق الإنسان، بما في ذلك حرية الدين والمعتقد، هي حقوق فوق دستورية وغير قابلة للإخضاع لإرادة الأغلبية أو السياق الثقافي.

المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) تنص صراحة على أن لكل فرد الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، بما يشمل حرية تغيير دينه أو معتقده وحرية إظهاره دون تدخل الدولة.

إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد (1981) يحظر صراحة أي تمييز أو استبعاد ديني سواء في التشريعات أو في الممارسة الحكومية.

ثالثاً، “العلمانية الثقافية” كما صاغها الكاتب ليست سوى محاولة لشرعنة استمرار هيمنة الإسلام السياسي تحت غطاء جديد. فهي تتعارض جذرياً مع مبادئ تحالف تأسيس، التي تنص على قيام دولة علمانية ديمقراطية تضمن المساواة الكاملة بين المواطنين، وتمنع أي تعريف ديني للدولة أو مؤسساتها.

ختاماً، اعتماد هذا المفهوم المشوَّه للعلمانية لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج البنية الإقصائية التي كانت في صلب أسباب الحروب والنزاعات في السودان. التجارب الدولية، من الهند إلى فرنسا إلى الولايات المتحدة، تثبت أن فصل الدين عن الدولة هو الأساس الضروري لتحقيق السلم الاجتماعي والتعددية الحقيقية

not merely cultural secularism, but constitutional secularism grounded in universal rights.

خامساً: رفض الفيدرالية الدينية باعتبارها نقيضاً لوحدة الحقوق والمواطنة الدستورية

تقترح ورقة د. حافظ الزين نموذجاً تفويضياً مفاده أن للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال وحلفائها الحق في تطبيق نظام علماني في أقاليمهم (مثل جبال النوبة والفونج الجديد)، في حين يُترك لبقية الأقاليم حرية رفض هذا النموذج. هذه الصيغة، التي يمكن تسميتها بـ”الفيدرالية الدينية الانتقائية”، تفتقر إلى الأساس القانوني وتتناقض مع المبادئ الدستورية الحديثة في الاتي:

١/ خرق مبدأ وحدة الحقوق فوق الدستورية:

من منظور دستوري، الحقوق الأساسية- كالحق في الحياه، الحرية الدينية، المساواة، وحياد الدولة- تُعد حقوقاً فوق دستورية، لا يجوز تجزئتها أو إخضاعها لإرادة إقليمية أو ثقافية.

– مبدأ المواطنة المتساوية، كما ورد في العديد من الدساتير الديمقراطية (مثلاً، المادة 1 من الدستور الفرنسي والمادة 14 من الدستور الهندي)، يقتضي تطبيقاً شاملاً ومتكافئاً للحقوق في كامل تراب الدولة.

ـ السماح لأقاليم برفض علمانية الدولة، أي السماح لها بتبني مؤسسات دينية رسمية أو تشريعات دينية تمييزية، يخلق نظاماً قانونياً ذا طبقتين، يقوّض وحدة الدولة، ويؤسس للتمييز الدستوري بين المواطنين بناءً على الإقليم أو العقيدة

٢/ غياب أي سابقة دستورية تدعم فيدرالية دينية:

لا يوجد في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة نموذج فيدرالي يسمح بتباين جوهري في طبيعة النظام الدستوري (علماني/ديني) بين الأقاليم. حتى في الدول الفيدرالية (كالهند، ألمانيا، الولايات المتحدة)، تُعد المبادئ الأساسية ومن ضمنها الفصل بين الدين والدولة- ملزمة لجميع الولايات والأقاليم.

وقد أكدت المحكمة العليا الهندية في

Kesavananda Bharati v. State of Kerala (1973)

أن المبادئ الدستورية الأساسية لا يجوز تعديلها أو تجاوزها، حتى من قِبل السلطات التشريعية

٣/ تأكيد الفكر الفلسفي الدستوري على شمول الحقوق:

يؤكد يورغن هابرماس أن الدولة الديمقراطية، إذا أرادت الحفاظ على شرعيتها، لا يمكنها السماح بوجود مناطق خارجة عن حيادها المؤسسي، لأن ذلك يهدم القاعدة التشاركية التي يقوم عليها الفضاء العمومي.

(Between Facts and Norms, 1996).

أما جون راولز، فيشدّد على أن “العدالة كإنصاف” تفترض توزيعاً عادلاً وغير إقليمي للحقوق الأساسية، بما يضمن تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون في جميع أنحاء الدولة

(Political Liberalism, 1993)

: ٤/ خطورة التجزئة الدينية في التجربة السودانية

التجربة السودانية نفسها تقدّم دليلاً صارخاً على مخاطر السماح بقيام كيانات دينية أو ثقافية مغلقة داخل الدولة الوطنية

كانت الهيمنة الدينية والقومية في المركز، مقرونة بإقصاء ثقافي وسياسي للأقاليم، سبباً مباشراً في اندلاع حروب طويلة الأمد، أبرزها حرب الجنوب، وحروب دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق.

القبول بفيدرالية دينية يعني، عملياً، القبول بإعادة إنتاج أسباب الانفصال والانقسام والتهميش، ما يناقض تماماً هدف العدالة التاريخية التي يسعى إليها ميثاق تأسيس.

الخلاصة:

إن اقتراح فيدرالية تسمح لبعض الأقاليم بتطبيق نظام ديني، ولبعضها الآخر بتطبيق نظام علماني، هو مقترح باطل دستورياً، وخطر سياسياً، ومرفوض أخلاقياً.

– إن وحدة الدولة لا تُقاس فقط بوحدة السيادة، بل بوحدة الضمانات الحقوقية والمرجعيات الدستورية.

– المساواة، بصفتها مبدأ فوق دستوري، يجب أن تُطبق دون تمييز في كافة أقاليم الدولة، وإلا فسنكون أمام دولة متعددة الأنظمة القانونية، تُكرّس التفكك لا الوحدة.

وكما كتب هابرماس:

الدولة الديمقراطية لا تستطيع أن تسمح لنفسها أن تُقسّم حيادها بين أقاليمها، وإلا فهي تنسحب من مبدأ المواطنة كحق مشترك للجميع.

سادساً: الالتزامات المترتبة على توقيع الدعم السريع على ميثاق تأسيس:

توقيع الدعم السريع على ميثاق تأسيس يُعد التزاماً سياسياً وقانونياً واضحاً:

– بقبول دولة علمانية ديمقراطية،

– بقبول فصل الدين عن الدولة،

– بقبول المواطنة المتساوية،

– بقبول محاسبة مرتكبي الجرائم

هذا الالتزام لا يمنح الطرف الموقّع حصانة أخلاقية أو سياسية، لكنه يلزمه بعدم التراجع عن المبادئ فوق الدستورية التي نص عليها الميثاق.

وفق مبادئ القانون الدولي التعاقدي (اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات، 1969

“لا يجوز لطرف موقّع على معاهدة أن يحتج بمبادئه الداخلية أو رؤيته الخاصة لتفسير مضمون المعاهدة”

بالتالي، محاولة إعادة تعريف العلمانية بمرجعية “ثقافية” هي خرق صريح لميثاق تأسيس.

الخلاصة: لا تنازل عن علمانية الدولة:

– العلمانية ليست خياراً مرناً أو نسبياً:

– لا يجوز تقنين فيدرالية دينية في دولة المواطنة

– الحياد الديني شرط لازم لدولة ديمقراطية حديثة

– أي محاولة لتفريغ العلمانية من مضمونها تعيد إنتاج أسباب الحروب والانقسامات

“دستور علماني ملزم، مساواة تامة، فصل حقيقي بين الدين والدولة، عدالة تاريخية” — هذا هو الأساس الوحيد الممكن لبناء سودان جديد.”

كما يقول هابرماس:

“مشروع بناء دولة ما بعد قومية يتطلب علمنة السياسة، لا علمنة الإيمان الشخصي.

وفي قول راولز:

“إن العدالة كإنصاف لا تتحقق إلا في ظل حياد سياسي إزاء الأديان.”

خاتمة:

يبقى المشروع العلماني الديمقراطي ليس فقط مطلباً تاريخياً لشعوب الهامش السوداني، بل شرطاً وجودياً لوحدة الدولة السودانية ومنع تكرار الحروب.

ورقة د. الزين، رغم ما فيها من محاولات ترقيعية، تكشف عن محاولات النخب الموروثة لإعادة إنتاج دولة دينية مقنّعة.

نحن اليوم أمام لحظة تأسيس جديدة، لا تقبل التلاعب بالمبادئ فوق الدستورية.

النضال مستمر والنصر أكيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.