عندما يصبح الوطن خصمًا: طرد نازحي النوبة واستمرار استغلالهم في جيش يضطهدهم”

بقلم ✍️🏽عمار نجم الدين 

 

 

العنصرية في السودان لم تكن وليدة اللحظة أو محض صدفة عابرة؛ بل هي جزء من نسيج الدولة السودانية الذي تم تأسيسه عبر تحالف تاريخي بين النخب المركزية وقوى الاستعمار. هذا التحالف، الذي بدأ منذ دخول الاستعمار التركي المصري إلى السودان، زرع بذور الهيمنة العرقية والثقافية، ليقوم بتشكيل هوية وطنية منحازة للثقافة المركزية التي تعتبر نفسها الأكثر “تمدنًا” والأقرب إلى القومية العربية الإسلامية، على حساب الهوية الأفريقية الأصيلة التي تُجسدها شعوب مثل النوبة، و الأدوك والفور و النوير و الدينكا ، وغيرهم من أبناء الأطراف.

 

لقد استمر هذا النمط الهيكلي خلال الحقبة الإنجليزية، حيث تم إضفاء الشرعية على هذه المركزية التي تمنح السلطة والثروة بشكل شبه حصري للنخب النيلية، وتُقصي كل ما هو خارج نطاق هذه المركزية العرقية والثقافية. كان النظام الاستعماري واعيًا بهذه الديناميات، وعمل على تعميق الفجوة، ليخلق دولةً قوامها التمييز والإقصاء، تعتمد على تقسيم شعبها وتصنيفهم وفق معايير عنصرية. أصبحت الثقافة العربية الإسلامية هي المعيار، وكل ما يخالفها أو يُعتبر مختلفًا تم التعامل معه كمصدر تهديد يجب إزالته أو استيعابه قسرًا في النسيج “الرسمي” للدولة.

 

عندما ننظر إلى حادثة طرد 34 نازحًا من جبال النوبة من منطقة المكنية في ولاية نهر النيل بسبب ديانتهم المسيحية وأن لونهم اسود ، لا يمكننا أن نفصلها عن هذا السياق. فهؤلاء لم يُطردوا لمجرد اختلاف في العقيدة و العرق ، بل لأنهم يمثلون “الآخر” غير المرغوب فيه، الذي لا يتماشى مع الصورة التي رسمتها النخبة المركزية للدولة. تصريحات محمد ميرغني أعيان المكنية و بحماية اجهزة الدولة الذي قال علنًا إنه “لا يريد أي شخص أسود” في الحي، ليست سوى مثال صارخ للعنصرية المؤسسية التي تشبّع بها المجتمع السوداني، حيث بات من الطبيعي أن يُنظر إلى الآخرين من منظور دوني.

 

إن هذه الحادثة لم تقف عند حد الطرد فقط، بل تخللتها سلسلة من الاتهامات الكاذبة التي طالت النازحين، مثل سرقة البهائم، رغم ثبوت أن مرتكبي هذه الجريمة لم يكونوا منهم. هذا الأسلوب يعكس مدى رسوخ العقلية الإقصائية، التي ترى في كل مختلف تهديدًا يجب إزالته حتى ولو بالكذب والافتراء، في محاولة لإثبات “أحقية” المركز في التحكم وفرض سيطرته على “الهامش”.

 

ومن المثير للسخرية أن هذا النظام العرقي المركزي يعتمد بشكل رئيسي على أبناء النوبة وغيرهم من المهمشين في جيشه وأجهزته الأمنية. أبناء النوبة الذين انخرطوا في الجيش السوداني، وخاضوا معاركه، وقدموا تضحيات كبيرة، يفعلون ذلك في الوقت الذي تُمارس فيه الدولة ضدهم كل أشكال الإقصاء والتمييز. كيف لجندي نوباوي، يعلم أن أهله يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية ويُطردون من بيوتهم ويُمنعون من ممارسة شعائرهم الدينية، أن يشعر بالانتماء لدولة تذله ولا تعترف بكرامته؟

 

هذا التناقض الفج يكشف بوضوح مدى التلاعب بالعقل الجمعي، الذي خلقته النخب المركزية عبر سنوات طويلة من التضليل والتهميش، حيث بات أبناء الهامش يدافعون عن دولة تقمعهم، ظانين أنهم جزء من نسيجها، بينما الحقيقة أنهم مجرد أدوات لحماية نظام يستغلهم ولا يُعيرهم أي اعتبار. إنه لعمق المأساة أن هؤلاء الجنود النوبة، وغيرهم من أبناء الأطراف، يرون في هذه الدولة وطنًا، في الوقت الذي تتنكر فيه هذه الدولة لهم في كل فرصة، وتبني مجدها على حسابهم.

 

إن الحادثة الأخيرة، بكل تفاصيلها، تُعري الواقع السوداني وتكشف مدى عمق العلل التي يعاني منها. فالنازحون الآن يعيشون في ظروف إنسانية قاسية، بعد أن طُردوا من بيوتهم بسبب اختلافهم الديني، ولم يجدوا من يحميهم أو يدافع عنهم، لا من مؤسسات الدولة ولا من السلطة التي يُفترض أنها تمثلهم. إنها دولة تبني شرعيتها على أساس التمييز، وتعزز وجودها من خلال قمع الآخرين، ليصبح السودان، رغم ثرائه الثقافي والعرقي، رهينة بيد أقلية ترفض رؤية الآخرين كجزء من نسيج الوطن.

 

في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى هذه الأحداث بمعزل عن التاريخ العريق من القمع والاضطهاد، الذي تأسس على أنقاض نظام عنصري يستمد شرعيته من تفوق زائف، ويجعل من أبناء الوطن عبيدًا لخدمة مصالحه.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.