عندما طرحت الحركة الشعبيَّة إصلاح القطاع الأمني
ياسر دارنجانق
أزمة القوي السياسية التي تشكل المشهد السياسي المختل في السودان تكمن في بنيتها الفكرية الإقصائية التي تتحكم فيها ايديولوجيات تبدو انها مستمدة خارج واقع الشعب السوداني, والتي تتخذ منها برامجها السياسية والاجتماعية مما خلق منها قوي ضعيفة لا تملك الإرادة والإستقلالية في تقديم وطرح مبادرات تستطيع مخاطبة المشكلات المتجذرة التي انهكت كاهل الشعب السوداني سواء في بنيته الاقتصادية وتركيبته الاجتماعية او السياسية, ومع افتقاراها للديمقراطية في داخلها , اضحت في حالة استبضاع سياسي تبحث عن حليف قوي حتي ولو علي حساب حقوق الشعب السوداني لتعوض به عقمها السياسي, وهذا بدوره انتج منها مجموعات صغيرة ليست لها الشجاعة الكافية التي تؤهلها لمواجهة رغبات الشعب السوداني فتلجأ للبحث عن مصالحها وحليف تحتمي ويحمي ايديولوجياتها, فوجدت ما بسمي بالمؤسسة العسكرية حاضنة وحماية لها وتفرض برامجها الفاشلة من خلالها لما تمتلكه هذه المؤسسة من جميع أدوات الاستبداد والقهر ووسائل القمع المستخدمة دوماً ضد الشعب السوداني المتنوع عرقياً جغرافياً وبيئياً وثقافياً ودينياً.
في ظل هذه التعقيدات قدمت الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال رؤية فكرية وسياسية تحمل في طياتها وجوهرها مشروع بناء دولة حديثة متعددة في تكويناتها الاجتماعية، الثقافية و السياسية ومختلفة في مناخها وبيئتها الجغرافية، دولة قابلة للحياة والتقدم في طاولة التفاوض في جوبا بينها وحكومة الفترة الانتقالية التي تمثل الشراكة الفعلية بين المدنيين والعسكريين, والتي تمخضت عن ثورة ديسمبر ٢٠١م ضمن وثيقة معيبة تمثل المرجعية الدستورية لشراكتهما، وكان ضمن ما طرحته الحركة الشعبية بنداً يتعلق بإصلاح القطاع الأمني ومن ثم يليه الترتيبات الأمنية, الا ان وفد الحكومة رفضها وتمسك بالترتيبات الأمنية, ولكن الغريب في الامر حتي القوي السياسية-قحت قابلت الموضوع باستهجان شديد والبعض الاخر بالتسويف ودفن الرؤوس في الرمال, ولم يكون هناك مسوغ او مبرر منطقي يجعل من رفضها المباشر وغير المباشر امر يجب الاخذ به, ولم تأتي ببديل غيره ولا حتي كلفت نفسها بالسؤال عن ماذا طرحا الحركة الشعبية في مسودة الاتفاق الإطاري قضية اصلاح القطاع الامني, وما الهدف منها, ولكن ما للحركة من الدربة والدراية والمعرفة العميقة بحجم الاضرار التي تسببت ونتجت عن ممارسة تلك المؤسسة ودورها السالب خلال تجربتها في سدة الحكم, وانها مؤسسة حزبية تشكلها مجموعة ايديولوجيات مهمتها الأساسية الوصول للسلطة سواء عن طريق الانقلابات او إقامة تحالفات مع احزاب تتفق او تتشابه معها في ايديولوجيتها وتعمل جاهدة علي حماية تلك السلطة, لذا كان من البديهي ان تتمسك الحركة بطرحها حيال تلك المؤسسة، علاوة علي تاريخها الطويل علي سدة الحكم وتفنينها في قتل الشعب السوداني بصورة عنصرية وانتقامية تستند فيها علي تصورات دستورية وقانونية تقوم بصياغتها وفق أيديولوجية وثقافة الذين علي كراسي الحكم.
لكن دولة متعددة مثل السودان، لا يمكن ان يكون نظام الحكم فيها قائماَ على الاستبداد والقمع او إلغاء هذا التعدد لصالح ثقافة واحدة او هوية دينية او مذهبية واحدة. فكان من الأجدى لهذه القوي ان تدعم طرح الحركة الشعبية وتعزز من مساندتها لهذا الطرح, الا انها كما دأبت علي رفض أي جديد يأتي من خارج دائرة الأيديولوجيا التي جعلتها عاجزة عن انتاج أي فكر او رؤي تقود الي التغيير وممارسة الديمقراطية, الذي من خلالها يستطيع فيها الشعب المشاركة في إدارة الدولة عبر ممثلين له او مشاركة مباشرة ضمن الطرق الإجرائية المستخدمة حديثاً في اختيار من يحكمه بعد ان يتم حسم كيف يحكم السودان في اطار دستور دائم يحسم قضايا نظام الحكم, الهوية, علاقة الدين بالدولة وغيرها من القضايا التي تشكل جذوراً للمشكلة السودانية بما فيها الحرية التي تحمي الانسان من القيود التي تكبل طاقاته وتجعل منه انساناً كالدابة تحمل اسفار الاستبداد والدكتاتورية.
بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر الذي قادته اللجنة الأمنية للبشير وزج أعضاء الحكومة الممثلين للحرية والتغيير او ما يعرف بالشق المدني في السجون أصبح المطلب الأبرز لها اصلاح القطاع الأمني، كأنها لا تعلم ان الديمقراطية لا يمكن ان ترسو في محيط سياسي يشكل العسكر جزء من بيئته ولا ان مبادئ وقيم الديمقراطية لا تقبل الاستبداد، ولا ان فصل المؤسسة العسكرية عن السياسة والحكم هو السبيل الاسمي للوصول الي الحرية الحقيقية.
فهل السودان مقبل على إنقلاب آخر؟
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.