علمانية الدولة. ليست ضد الدين والمتدينين.
✍️ نضال الطيب حامد.
كنت قد كتبت مقال سابقاً بصحيفة الجريدة في العام 2015 بعنوان، حوجتنا لمفهوم العلمانية والدين الإسلامي قبل المعاداة والزجر.. وقد طلب مني عدد من الطلاب بالجامعات السودانية نشر عدد من المقالات عن فلسفة العلمانية بالدولة، في مقاربات فكرية توضح للقارئ الكريم، أبعاد مفهوم العلمانية من الدين والمتدينين. لأن خطاب الجماعات الثيوقراطية الإسلاموية يستهدف العلمانية، ويسوقها للجماهير بأعتبارها عقيدة دينية تدعوا إلى الانحلال الأخلاقي والفسوق والمجون. ذلك من أجل المتاجرة بالدين، والعودة للحكم مرةً أخرى بالسودان.
أبدأ حديثي بالسؤال الذي يؤرقنا و يشغلنا جميعأ، وهو: لماذا لم ينهض العالم الإسلامي من كبوته على غرار ما حصل للغرب الأوربي؟ ولماذا نجحت أوروبا في معالجة مشكلات الحكم والقوميات والتعدديات المذهبية والثقافية والأثنية واللغوية والعرقية، والآن تمضي في مشروع وحدتها، وفشلنا نحن حتى على مستوى مشروع إستمرارنا في الوجود؟ هل تعود أسباب فشلنا إلى تداعيات الإستعمار ونهب الثروات كما يدعي البعض؟ أم هي أزمة عقل جمعي نتيجة التمسك بأطروحات ورؤى لم يعد في مقدورها تقديم الحلول لمشكلات العصر الحديث، خاصة في المسائل الملحة كممارسة الديمقراطية وإستدامتها، وبسط الحريات، وتأمين الحقوق على أساس المواطنة، والفصل بين السلطات، و التداول السلمي للسلطة والثروة، والإلتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية فيما يخص حقوق الإنسان والمرأة والطفل؟ وهل كل تلك الإشكالات والإنقسامات والصراعات الطائفية الإسلامية المميته، التي يواجهها المجتمع المسلم اليوم، وتصادمها مع الحضارة الحديثة هي نتاج لتلك العقول المنغلقة أم هي إحدى مسبباته.
دعوني«أفكك» تلك التساؤلات العميقة التي تفرض نفسها علينا … من المعروف لدينا، أن العالم الإسلامي ومنذ بواكيره الأولى شهد مظاهر شتى للنزاعات والإنقسامات والإختلافات، و التنوع في الرؤى قادت سياسياً لخلق تيارات وتنظيمات وأحزاب متعددة : ودينياً قادت لتعدد المذاهب والفرق الدينية. وكانت بداية الإختلاف ما جرى قديماً تحت سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول (ص) حيث إنقسم المسلمون إلى ثلاث مجموعات هم الأنصار والمهاجرين وآل بيت الرسول (ص) ولكل منهم قصته المعروفة… إلخ.
ولكن ما يهمنا هنا أن الخلاف ألقى بظلاله على مستقبل الدولة الإسلامية الوليدة حيث إنقسم المسلمون إلى عدة فرق ومذاهب على رأسهم مذهب أهل الجماعة أي (السنة) والمذهب ( الشيعي) وتفرعت إلى عدة فرق أخرى وتفرعت إلى الخوارج والإمامية والإسماعيلية والسلفية والمتصوفة والفاطميين والدور إلخ. وقد إتسعت دائرة الإختلاف من السياسي إلى الإجتماعي، والخطر المحدق ليس فقط مصدره التعدد المذهبي، أو ظهور الفرق المتطرفة التكفيرية، بل أيضاً قاد إلى التنوع العرقي والإثني صار هو الآخر نقمة بدلاً من أن يكون نعمة، كما هو الحال في عدد من البلدان اليوم، لذا إذا أدركنا عمق المشكلة يمكننا أن ندرك أن طوق النجاة الوحيد يتمثل في فلسفة العلمانية بالدولة المسورة بالعقلانية والمحمية بالدمقراطية.
العلمانية تعني سياسياً فصل الدين عن الدولة، أي فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية وبمعنى آخر فإن العلمانية تقول بأن الأنشطة البشرية والقرارات وخصوصاً السياسية منها يجب أن تكون غير خاضعة لتأثير المؤسسات الدينية. وبذلك نجد أن العلمانية تقف على مسافة متساوية من جميع المعتقدات الدينية والمذاهب والفرق والأعراق، والديمقراطية تحافظ على حقوق الأقليات، والعقلانية تقود إلى تحقيق العدالة الإجتماعية وإحترام الدستور، والعلمانية لا تعني محاربة الدين والمتدينين، كما أنها لا تسمح بإستغلال الدين من أجل خداع الناس لصالح السياسة، وهي بذلك تحافظ على قدسية الدين من الإنتهازية السياسية، و أيضاً تحافظ على المشروع الوطني السياسي من الإنتهازيين الذين يدعون التدين لصالح السياسة .
الدين لله والوطن للجميع، شعار علماني محتواه ليس فقط فصل المؤسسات الدينية عن سياسة الدولة، بل مساواة الناس في الوطن بوصفهم مواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية، الأمر الذي يمثل الحد الأدنى للإنتماء الوطني والشرط الأساسي للأندماج في مجرى الحضارة الإنسانية.. كما يجب مراعاة الخصوصية لكل دولة بحيث يراعي الخطاب العلماني الواقع المحلي وخصوصيته والمرحلة الزمنية التي يعيشها، وأن يؤخذ في الإعتبار أن العلمانية لا تكتمل وتؤتي أكلها إلا في حالة تجاوز الأحزاب السياسية حدود الطوائف الدينية والتكتلات القبلية والجهوية والعرقية بحيث تحوى من القواعد إلى قيادة مختلف الطوائف يجمعهم البرنامج السياسي، كما يجب على الأحزاب أن تحصر صراعها السياسي على الرؤى والأفكار والخطط والبرامج التي تطرحها لمعالجة القضايا والمشاكل والتحديات التي تواجه الدولة والشعب.
أما في حالة التمسك بخيار التمسك و المضي قدماً بفرض الدين والشريعة الإسلامية، وأحادية حكم الدولة بالقهر، في دولة ذات تنوع ديني وعرقي وإثني وقبلي مثل السودان فإن شبح حق تقرير المصير والإنفصال سوف يهدد بقاء وحدتها.
إن الحاجة للعلمانية تفرضها الظروف الموضوعية للدول الإسلامية حيث نجد أن معظمها تحمل صفة التعددية المذهبية والقومية والعشائرية والحزبية، ولا طريق أو ضمان لبناء علاقات وطنية سليمة إلا باعتماد علمانية الدولة وديمقراطية الحكم، بحيث لا تسمح لأي أكثرية دينية أومذهبية أو اثنية مهما كانت، أن تفرض رؤاها الخاصة وإرادتها على المجتمع، لتصادر حقوق الأقليات وتفرض خصائصها عن طريق الاقصاء و تهميش الآخرين، فتكون النتيجة هي إنزلاق المجتمع إلى العنف والحرب .