عفواً .. دكتور/ حيدر إبراهيم – إنها قضايا حقيقية و مصيرية .. و ليست مُجرَّد شعارات ..
عادل شالوكا
ربما إندهش الكثيرون مثلما إندهشنا نحن للمقال الذي كتبه الدكتور/ حيدر إبراهيم علي – بعنوان (العلمانية فعل تنويري فكري و ليست شعاراً سياسياً). ومثار الدهشة هو إن حيدر إبراهيم يُعتبر أحد قادة الفكر و التنوير في البلاد خصوصاً اذا عرفنا انه مؤسِّس و مدير مركز الدراسات السودانية الذي ساهم في جهود نشر الوعي و الإستنارة منذ تسعينات القرن الماضي، و بالتالي كان من يفترض به أن يقوم بدور رأس الرمح فى مواجهة قوى الظلام والرجعية، بل وأحد دُعاة مشروع السلام و الإستقرار و الوحدة على أساس إحترام التنوُّع والتعدُّد و حقوق الآخرين. وهو المشروع الذي كرَّس جُل وقتهِ للمُناداة به عبر مركز الدراسات السودانية من خلال تنظيم المُنتديات الفكرية وطباعة كتب التنوير. ولكنه و بمقاله المذكور أعلاه جعلنا فى حيرة من أمرنا، و فى حالة يُرثَى لها. حيث يتبادر السؤال: كيف يستقيم للمرء أن يكون مُتناقضاً في طرحه، أفكاره، و مواقفه لهذا الحد ؟ علماً بانه و قبل أسابيع قليلة أتحفنا ذات الدكتور بمقال رصين و جميل بعنوان : (توطين العلمانية) في ردهِ على مقال الصادق المهدي (ويسألونك عن العلمانية). قبل أن يفاجئنا بهذا المقال غير المُتَّسِق مع سابقه و الذي يشي و لا يخلو من (غرض). ولعل الجميع يتذكَّرون المقال الذي كتبه في يوليو 2017 بعنوان : (حرب الهامش ضد الهامش وتهافُت شعار السودان الجديد) والذي ذكر فيه ان : (جدلية المركز والهامش وهم كبير) في محاولة منه لنسف مشروع السودان الجديد الذي رآه فاشلاً، وهذا المقال لم يكُن سوى تعاطُف وإصطفاف خلف ياسر عرمان بعد أن تمت إقالته من قيادة الحركة الشعبية – شمال. ولكم خيار أن تصنِّفوا هذا (التعاطُف والإصطفاف) كيفما شئتُم.
و شخصياً لا إعتقد إن حيدر إبراهيم لا يعلم إن مثل هذه التناقضات تُقلِّل من مصداقيتهِ و إحترام الناس له، و تؤثِّر على مكانتهِ المرموقة. فما هي الدوافع و الأسباب الحقيقية التي تجعله يقوم بمثل هذه (المُغامرات) ؟ !!. و حتى يدرك القاريء مدى تناقُض الدكتور نقتبس و نُناقش نصوصاً وردت في مقاله المُشار إليه (توطين العلمانية) : حيث يقول الدكتور :
أولاً : (و إنطلاقاً مما تقدَّم تبرز ضرورة توطين العلمانية، بمعنى أن تكون هنالك علمانية سودانية و هي في جوهرها تُمثِّل ببساطة حل مشكلة الحكم المُزمنة في السودان، و تعمل على قيام دولة مدنية و ليست دينية “ثيوقراطية” ترتكز على حق المواطنة و حقوق الإنسان و العيش المُشترك و المُساواة في قسمة الثروة و إلغاء المظلومية القائمة على إمتيازات ذات طابع عقائدي أو مذهبي) – إنتهى.
و السؤال الذي يجب أن يجد الإجابة من الدكتور، كيف تستطيع أن تُحقِّق (المواطنة المتساوية، حقوق الإنسان، العيش المشترك، المساواة، إلغاء المظلومية، ….. إلخ) بدون دستور ينص صراحة على إن هذه الدولة تفصل بين (المجال العام) الذي يختص بشئون عامة المواطنين من خدمات و أمن و تنمية و رفاه … إلخ، و (المجال الخاص) الذي يرتبط بالخيارات الشخصية للفرد في المجتمع و من ضمنها قضايا العقيدة و التعبُّد .. الخ ؟. علماً بأن هنالك أكثر من (15) دولة أغلب سُكَّانها مُسلمين و نصَّت في دساتيرها على (علمانية) الدولة صراحة، و ذلك لم يُنقِّص شيئاً من (إسلام) أولئك المواطنين فيها، بل ساهمت العلمانية في قوة و تماسُك تلك المُجتمعات، و حقَّقت لهم الأمن و الإستقرار و الرفاه و التقدُّم. فلماذا الهروب إلى الأمام و غض الطرف عن تلك النماذج ؟ !!.
ثانياً : لقد ذكر الدكتور إن : (العلمانية لا يُحقِّقها الدستور، فأغلب الدول العلمانية لا تنُص دساتيرها صراحةً على ذكر العلمانية، و لكنها تُمارس فعلياً فصل الدين عن الدولة) – إنتهى.
فهذه حجة لا تتَّسق مع واقعنا فى السودان، لأن تلك الدول لم تمر بتجربة شبيهة بتجربة (حكم جماعة الهوس الديني عندنا، العنصرية المزدوجة على أساس الدين و العرق، الجهاد، الإبادة الجماعية، التطهير العرقي، التشريد، التنزيح، إحلال و إبدال السكان، …..إلخ). فى السودان الدولة الدينية قتلت أكثر من ثلاثة مليون مواطن بإسم الدين و بإسم الجهاد .. و في السودان الشريعة الإسلامية قسَّمت القطر و أجبرت شعب جنوب السودان على الإستقلال، و أثارت حرب أهلية فى جنوب جديد منذ يونيو 2011. فالدول التي يقصدها دكتور حيدر كانت تجربتها مُختلفة تماماً عن التجربة السودانية خاصة في سنوات حكم الإسلاميين و القوانين الدينية التي صنعوها ولا زالت سارية حتى الآن برغم الجهود التي يقوم بها وزير العدل، فما الذي يلزم الحكومات القادمة بإلغائها و عدم الرجوع إليها مرة أخرى، أو قيام أى نظام حكم مُستقبلاً على أساس الدين إن لم تكن هنالك نصوص واضحة في الدستور الدائم تمنع و تُحرِّم ذلك ؟.
ثالثاً : ذكر الدكتور أيضاً : ( لم أكن مُرتاحاً لطرح مطلب العلمانية فى مفاوضات السلام بجوبا، و إن واجب هذه الحركات هو تسهيل عملية السلام و الإسراع بها حتى نبدأ فى بناء وطن موحَّد قومي ديموقراطي). و قال أيضاً : (نريد العلمانية بلا تحفُّظ و لكن الأولوية للسلام).
و هذا موقف “عبثي” !! .. كيف يتحقَّق السلام من دون الإيفاء بشروطهِ، و دفع إستحقاقاتهِ، و تلبية مطالب من يحملون السلاح؟ أم هذه دعوة لإستمرار الحرب ؟.. و كيف تتم الوحدة فى ظل قوانين تُفرِّق بين المواطنين على أساس الدين و العِرق و الثقافة ؟ .. و كيف يتحقَّق السلام دون تبنِّي مبدأ (العلمانية) الذي يضمن حياد الدولة فى التنافُس السياسي ؟ فلماذا هذا التناقُض و تعمُّد تجاهُل هذه البديهيات؟ !! هل يُصدِّق عاقل أن يصدُر مثل هكذا تصريح و مكتوب من د. حيدر الذي سوَّد آلاف الصحائف بإعتبارِه أحد قادة الفكر و الرأي فى البلاد؟ أم يا ترى هو العمى الآيديولوجى الذى تلبَّسه من دون شعور، بحسابات المصلحة.
و من جانب آخر : ما هو مفهوم دكتور حيدر لكلمة (السلام) و ماذا تعني عنده ؟ هل تعني جمع السلاح من أيدي الحركات المُسلَّحة و إيداعه فى مخازن الدولة الدينية ؟ .. دولة الفُقهاء و فتاوي الجهاد ؟ أم أن السلام يعني مُخاطبة جذور المُشكلة التي قادت و دفعت هؤلاء المواطنين لرفع السلاح دفاعاً عن النفس و الكرامة ضد دولتهم التى ظلَّت تُحاربهم منذ نشوئها فى 1954 و حتى اليوم ؟ هل يريد حيدر إبراهيم من حركات الكفاح المُسلَّح أن تستسلم و تتجاهل قضايا الشعوب المُهمَّشة إرضاءً لتهويمات و رغبات بعض مهووسين عنصريين و مُستفيدين من هذه الأوضاع المُختلَّة ؟.
رابعاً : ذكر الدكتور: (فقد كانت بداية العلمانية فى أوربا و الغرب ثورات فكرية تتسلَّح بالعقل و العلم و الحرية استطاعت خلخلة و اقتلاع التزمُّت الديني و نشر الأفكار الديموقراطية) ..
فيا للعجب ..!! ها هو د/ حيدر يطالبنا عبر هذه المُقاربة – غير الموضوعية – بإعادة إكتشاف العجلة من جديد، و التكرار الحرفي لتجارب الأوربيين بدلاً عن الإستفادة من ثمرة جهودهم و الوصول للدولة العلمانية مقرونة بالديموقراطية مُباشرة، و بأقصر الطرق و توفير الجُهد و تجنُّيب الشعوب السودانية شر المزيد من الآلام و الدموع و إراقة الدماء ؟
خامساً : ذكر أيضاً : (يعجبني قول رفاعة رافع الطهطاوي عن النهضة : هي الحرية، الفكر، و المصنع – هذه هي “العلمانية”).
و بهذا أثبت د. حيدر ماضويتهِ و رجعيتهِ رغم إدِّعاءات الحداثة، و ما يتظاهر به من منهج علمي و أفكار تقدُّمية .. فكيف يستشهد بالطهطاوي الذي لم يشهد عصر توقيع العهد الدولي لحقوق الإنسان و الحريات الأساسية لعام 1948 ؟ و ما هو مفهوم الحرية فى نظر الدكتور بمعزل عن مبادئ حقوق الإنسان ؟ و أي عقلٍ يتحدَّث عنه الدكتور لا يحترم الحقوق و الحرِّيات الأساسية للإنسان ؟ ولماذا كل هذه التناقضات فى فكر و مواقف الدكتور ؟ أم أراد بذلك أن يُقدِّم لنا نموذجاً أو مثالاً لتقلُّبات و تناقُضات عقلية النُخب الحاكمة فى السودان منذ 1956؟ حيث “أدمنت الفشل” وأهدرت الفرصة تلو الأخرى، و لم تتمكَّن من إنجاز تطوُّر دستوري يُجنِّب البلاد مزالق الحروب الأهلية، تفكُّك النسيج الإجتماعي، التدهوُّر الإقتصادي، إنفصال الجنوب، و بوادر الإنهيار الشامل ؟.
تكرار الفشل وإهدار الفرص هذا بات يُهدِّد البلاد الآن بالمزيد من التفكُّك والتشرزُم والإنقسام إن لم يتم تدارُك الأمور وتقديم الحلول الناجعة بدلاً عن حشد الكُتَّاب من زُمرة الحرس الآيديولوجي للتدليس والتضليل.