
عشوائيات شارع النيل الاسمنتية ما يجب هدمه لا منازل المهمشين في الخيرات والعزبة والكنابي- الفقر كجريمة عمرانية – حين يتحول السكن إلى تهمة: الجزء الثالث والأخير.
خالد كودي، بوسطن، 29/5/2025
الدولة والمدينة: بين الفشل البنيوي والتشويش المفاهيمي:
في الأجزاء السابقة خلصنا الي ان النخب السودانية لم تنجح، منذ الاستقلال وحتى اليوم، في صياغة رؤية قومية متكاملة للتخطيط الاستراتيجي الذي يقود إلى بناء وطن مستقر، كما فعلت شعوب وأمم استطاعت أن تتحرر من إرث ما بعد الاستعمار وتؤسس لمجتمعات قابلة للحياة. بل على العكس، ظل الغياب المريع للتخطيط الاستراتيجي الشامل سببًا مباشرًا في تعاقب الحروب والمجاعات، ووقوع الإبادات الجماعية، واللجوء لاستخدام الأسلحة المحرّمة، وتكريس العنصرية في توزيع الأراضي، وهدم أحياء الفقراء والمهمشين، إلى جانب التفاخر الأرعن بالأبراج الفارهة والواجهات الزجاجية والبلاستيكية والكافتيريات المزركشة على ضفاف النيل، وكل ذلك في ظل تدمير ممنهج للبيئة، وتزايد أعداد النازحين، وانتشار الجوع والمرض، وبعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال، ما الذي يمكن أن يُعد فشلًا إذا لم يكن هذا هو الفشل بعينه؟
إنّ دعمنا لأي مشروع تحوّلي، وفي مقدمته تحالف “تأسيس” وما يحمله من طموح لبناء سودان جديد، لا يجب أن يكون مجرّد انفعال سياسي أو رهان على لحظة راهنة، بل رؤية استراتيجية متكاملة تُدرك أن تجاوز الأزمة السودانية يتطلب تفكيك البنية العميقة للفشل التاريخي. ويأتي على رأس هذه البنية تخلف أدوات التخطيط العمراني، والتوزيع السكاني، وإدارة الفضاء الحضري.
ففي أي مشروع تأسيسي حقيقي، لا يكون التخطيط مجرد تقنية إدارية، بل أداة سياسية مركزية لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والمكان، وبين العدالة والدولة. إنه الوسيط الحاسم بين استمرار منطق الإقصاء وإمكانية بناء عدالة مكانية تشكّل أساسًا لإعادة توزيع الموارد، وخلق تنمية مستدامة، وتوسيع مفهوم المواطنة.
في هذا السياق، يمثل تحالف “تأسيس” فرصة تاريخية لإعادة تعريف وظيفة الدولة عبر تخطيطٍ يراعي التعدد، ويعكس الإنصاف، ويحوّل الفضاء العمراني من حقل للامتياز والفرز إلى مجال للكرامة والاندماج والعدالة الاجتماعية.
من الهند إلى السودان: نماذج عالمية للفرز المكاني والعنف الرمزي
الفرز العمراني الذي تشهده المدن السودانية ليس حالة استثنائية، بل جزء من نمط عالمي تُوظَّف فيه أدوات التخطيط لإنتاج الهيمنة بدلاً من العدالة. فمثلًا في الهند، تُقصي السياسات الحضرية القومية المسلمين من أحيائهم تحت مسمى “التنظيم”، بينما تعيد تأكيد هوية المدينة الهندوسية. في جنوب إفريقيا، رغم نهاية الأبارتايد رسميًا، تستمر المدن في تكريس العزل الطبقي والإثني من خلال توزيع الخدمات وتوجيه التنمية. وفي البرازيل، تُهدم أحياء “الفافيلا” وتُشرَّد ساكنتها باسم التحديث، بينما الهدف الحقيقي هو إزاحة الفقراء لصالح الاستثمارات. الحالة السودانية تتقاطع مع هذه النماذج، ولكنها تحمل خصوصية ناتجة عن تراكب الإقصاء الإثني، والديني، والجهوي، ضمن دولة ما بعد استعمارية فشلت في تحويل التخطيط إلى أداة وحدة وعدالة. ما يحدث ليس فقط حرمانًا من الخدمات، بل عنف رمزي يعيد تعريف من هو المواطن، ومن يملك الحق في أن يُرى داخل المدينة. مقارنة هذه التجارب تكشف أن العدالة المكانية ليست مسألة تقنية، بل قضية سياسية تمس جوهر المواطنة، والحق في الوجود، والاعتراف، والانتماء.
يجدر القول انه في السودان، لا يُمارس التهميش العمراني كسياسة عارضة، بل كأداة بنيوية ضمن منظومة السلطة والإقصاء، تُنتج الفقر والنزوح والعنف المسلح. فمنذ الاستقلال، تبنّت النخب المركزية عقلية استعمارية في إدارة المدن، وحوّلت الخرطوم إلى مركز احتكار للامتيازات، بينما أُقصي سكان دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وشرق السودان من التمثيل المكاني والرمزي. هذا الإقصاء لا يعود لضعف البنية السكنية، بل لرفض هوية هؤلاء السكان ضمن خيال النخب الحضري. تُهدم مساكنهم وتُصنَّف أحياؤهم كمخالفات، بينما يُعاد تعريفهم كمهددين للنسق السلطوي. وبهذا، يتحول التخطيط إلى أداة لصنع ما يسميه نيل سميث “الفقر المُنتَج”، حيث تُستخدم الجغرافيا لإقصاء جماعات كاملة، لا لإدماجها. كل عملية طرد أو تهديم تُعيد رسم خرائط السلطة وتعمق الشرخ الاجتماعي، ما يجعل من العدالة المكانية شرطًا لأي تحول ديمقراطي حقيقي في السودان.
لا يمكن تصور سودان جديد دون تفكيك نمط التخطيط الإقصائي الذي كرّس الهيمنة الطبقية والإثنية منذ الحقبة الاستعمارية، واستبداله بتخطيط تحرري يعترف بالمكان كحق جماعي. يشكّل مشروع “السودان الجديد” لحظة فارقة لإعادة تعريف العمران كفعل سياسي يعكس التعدد ويجسّد العدالة.
في السودان، لم يكن التخطيط محايدًا يومًا. طُرد الفقراء باسم التنظيم، حُجبت الخدمات باسم الحداثة، ووزعت الأراضي وفق الولاء السياسي لا الحاجة. هكذا أنتجت النخب ما يمكن وصفه بـ”العمران السلطوي”، حيث تُستخدم الجغرافيا لتثبيت الامتياز وإقصاء الآخر. التحدي الراهن هو كسر هذه المنظومة وبناء تخطيط بديل يعيد للمدينة وظيفتها الإنسانية، ويجعل منها فضاءً للكرامة والانتماء. فالتخطيط ليس مجرد أداة تقنية، بل هو جوهر التحول الديمقراطي ومحور أي مشروع تأسيسي نحو المساواة والمواطنة.
المدينة ليست ميراثًا طبقيًا ولا غنيمة عرقية:
ما نشهده من هدم انتقائي وتمييز مكاني ليس خللًا إداريًا، بل تجسيد لرؤية عمرانية عنصرية تعيد إنتاج التهميش باسم “التنظيم” و”النظام”. تُهدم منازل الفقراء في العزبة والخيرات والكنابي، لا لعشوائيتها، بل لأن ساكنيها يُعدّون خارج “الصف الوطني، في المقابل، تُترك الأبنية المخالفة في الأحياء الراقية لأنها ملك للنخب. يُحوَّل الفضاء العام إلى عقارات خاصة، والمدارس إلى منصات حزبية، والمرافق إلى أدوات سلطة. هذا ليس تخطيطًا، بل قهرٌ رمزي سرق المدينة من ذاكرتها الجماعية، وأفرغها من المعنى باسم السيادة.
النتيجة: مدن بلا أشجار، شوارع بلا روح، ومبانٍ بلا هوية. والمدينة، إن لم تُستعد كفضاء مشترك، ستظل أداة للفرز والقمع، لا للانتماء والعدالة.
ما البديل؟ نحو تخطيط لسودان جديد عادل وبيئي ومنصف:
إن الخروج من هذا المسار المديني المشوَّه لا يتم عبر إصلاحات تجميلية أو ترقيعات فنية، بل عبر قطيعة جذرية مع المفاهيم والسياسات التي حوّلت المدن إلى أسواق نخبوية مغلقة، وحجبت النهر عن ناسه، وأقصت الفقراء من الحق في الحلم. إننا بحاجة إلى إعادة تعريف الوطن والمدن بوصفها حقوقًا جماعية لا امتيازات استثمارية، وتبني تخطيط عمراني يرتكز على رؤية استراتيجية شاملة و ثورية تدمج بين التحول السياسي والتحرير المكاني.
في الخطة الاستراتيجية الشاملة: او نحو سودان علماني، ديمقراطي لامركزي وعادل:
يتطلب بناء وطن حقيقي صياغة خطة استراتيجية قومية تؤسس لنظام علماني ديمقراطي لامركزي، قائم على مبادئ العدالة التاريخية، والمساواة الكاملة، والاعتراف بالتنوع الإثني والديني والثقافي. لا بد أن يُربط التخطيط الحضري بهذا المشروع السياسي الشامل، بحيث يكون أداة لإعادة توزيع السلطة والمكان، لا لإعادة إنتاج الإقصاء. ويقوم هذا التصور البديل على المبادئ التالية:
– الحق في السكن اللائق يجب أن يُصان بوصفه حقًا دستوريًا غير مشروط، مرتبطًا بالكرامة الإنسانية والمواطنة الكاملة، لا مكرمة تُمنح أو تُسحب.
· تأهيل الأحياء الطرفية والمهمشة يجب أن يتم عبر تخطيط تشاركي
(Participatory Urbanism)
يعترف بسكانها شركاء في القرار، لا أهدافًا للترحيل أو الضبط الأمني.
· – استعادة ضفاف الأنهار وإعادتها للملكية العامة، مع تحويلها إلى فضاءات خضراء مفتوحة مستدامة، لا منصات للمضاربة العقارية أو الرمزية السلطوية.
· – سن تشريعات عمرانية وطنية تتجاوز مفاهيم “العشوائية” و”المخالفات الإدارية” لصالح مفاهيم العدالة المكانية، الحق في المدينة، والاستدامة الحضرية.
ضفاف النيل: من التخصيص النخبوي إلى الحق الجماعي:
في هذا الإطار، لا بد من تبنّي سياسة واضحة وصارمة تقضي بهدم جميع المباني المُقامة على ضفاف النيل دون سند قانوني أو ضرورة بيئية، بما في ذلك الأندية المغلقة، والفنادق الخاصة، والكافتيريات، والمباني الرسمية التي خُصصت بطرق مشبوهة، دون استثناء. ويُستثنى فقط ما له علاقة مباشرة بالنشاط النهري العام، مثل محطات النقل والمراسي المجتمعية
بعد الإزالة، تُحوّل هذه الضفاف إلى حدائق عامة مفتوحة، مستدامة بيئيًا، ومدارة مدنيًا، مستلهمة من تجارب دولية ناجحة، منها:
Southbank Promenade
في ملبورن، الذي حوّل منطقة ملوثة بالمخازن إلى واجهة نهرية خضراء
Città Slow
في روما، حيث تم تفكيك التعديات وتحويل التيفِر إلى ممشى للناس
Cheonggyecheon
في سيول، حيث أُزيل طريق سريع ضخم، وأُعيد النهر إلى السكان
هذه النماذج تثبت أن العدالة البيئية لا تعني حماية الطبيعة فقط، بل إعادة الحق بها إلى الناس. فالنهر ليس مجرّد مرفق هندسي، بل ذاكرة جمعية، ورمز للحياة والمواطنة. واستعادة النيل لأهله ليست معركة هندسية، بل مهمة سياسية–أخلاقية تُجسّد سؤالًا وجوديًا: أيُّ سودان نريد؟ سودان النخب والحواجز؟ أم سودان الناس، والنهر، والحق في العيش بلا أسوار؟
من التخطيط الإقصائي إلى العمران العادل: نحو رؤية بديلة لمستقبل المدن في السودان
عانت المدن السودانية، منذ الحقبة الكولونيالية وحتى العقود الأخيرة، من أنماط تخطيط عمراني رسّخت الإقصاء الطبقي والتمييز الجهوي والهيمنة المركزية، حيث غاب البعد الحقوقي والإنساني عن تصورات الدولة للمجال الحضري، واستُبدلت مفاهيم العدالة والمشاركة بسياسات الفرز والتخصيص والتمكين السياسي للنخب كما اسلفنا. ومع أن التخطيط في الأدبيات الهندسية والاجتماعية يُعرّف كأداة لتنظيم استخدام الموارد، وتحقيق تنمية شاملة ومستدامة، إلا أن تطبيقاته في السودان انحرفت عن هذا المسار، وأصبحت وسيلة لإعادة إنتاج السلطة، لا لتوسيع قاعدة المواطنة، والفرص امام سودان جديد قد تبني علي:
ولاً: من التهميش إلى الإدماج المكاني:
تكشف السياسات الحضرية للنخب الحاكمة في السودان عن انفصال جذري عن الواقع الاجتماعي والبيئي، إذ يُنظَر إلى الأبراج الفارهة والمقاهي المغلقة على ضفاف النيل كرموز للتقدم، بينما تُوصم مساكن الفقراء المصنوعة من الطين والمواد المحلية بالعشوائية، وتُستهدف بالإزالة. غير أن هذه المساكن، في جوهرها، تمثل استجابة حيوية لغياب الدولة، وتجسد قدرة المجتمعات المهمشة على البقاء والتنظيم الذاتي. ما يُسمّى بالبناء العشوائي ليس مجرد تحدٍّ عمراني، بل يحمل في طياته معرفة بيئية أصيلة ومنطقًا للسكن يتسم بالتكيّف مع المناخ والموارد المحلية. بدلاً من قمع هذه التجارب، على النخب أن تتعلم منها، وتعيد توجيه التخطيط ليكون أداة إدماج لا إقصاء.
البديل المقترح:
– الاعتراف القانوني بالمساكن غير الرسمية، وإدماجها عبر برامج تحسين الأحياء
(Slum Upgrading)
او أي هدم. دون تهجير
– تبني التخطيط التشاركي، الذي يُشرك السكان كفاعلين في القرار لا كمستهدفين بالإخلاء.
– اعتماد معايير “العيش اللائق” كبديل عن الامتثال الشكلي للقانون، مستفيدين من تجارب مدن أمريكا اللاتينية التي حوّلت العشوائيات إلى نماذج سكنية مستدامة وشاملة.
ثانيًا: من التخطيط الكولونيالي إلى التخطيط التحرري:
أُسس أول مخطط حضري للخرطوم عام 1906 من قِبل البريطاني ويليام ماكلين، على منطق الفصل بين النخب الاستعمارية والسكان المحليين، مما رسخ نموذجًا للمدينة المنقسمة إثنيًا وطبقيًا. وبعد الاستقلال، وبدل أن تُعاد صياغة المدينة على أسس وطنية عادلة، استمرت النخب في إنتاج نفس النمط، مضيفة إليه فسادًا مؤسسيًا في توزيع الأراضي، وتخطيط الأحياء، ومنح التراخيص.
البديل المقترح:
– تبني نموذج “المدينة الجامعة” كما طوّرته تجارب مثل كيب تاون ما بعد الأبارتايد، أو كوريتيبا في البرازيل، التي أعادت تخطيط المدن لتكون فضاءات جامعة للطبقات والفئات المتنوعة.
– إنشاء هيئة تخطيط عمراني وطنية مستقلة تُعنى بالعدالة المكانية، وتُخرج القرارات التخطيطية من قبضة الولاء الحزبي والمحسوبية.
– تبني مخططات استراتيجية شاملة تمتد لعشرين عامًا على الأقل، وتُراجع كل خمس سنوات، بشفافية ومشاركة مجتمعية
ثالثًا: من الطرد المكاني إلى التوطين العادل:
– من أبرز أدوات التخطيط السلطوي في السودان سياسة “الطرد المكاني”، التي تُهدم عبرها مساكن الأحياء الفقيرة بحجة “التنظيم”، وتُسلّم الأراضي لمستثمرين وأصحاب نفوذ. ويوازي ذلك “تمييز خدمي” يتمثل في حرمان أحياء كاملة من الماء والكهرباء والمواصلات، ما يُعمّق عزلها.
البديل المقترح:
– سن قانون وطني لحماية الأحياء الهشة من الإخلاء القسري، بما يتسق مع العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
– توسيع نطاق الخدمات الأساسية وفق مبدأ التوزيع العادل، واعتماد سياسات التمييز الإيجابي لصالح الأحياء التي ظلت مهمشة لعقود.
• تطوير برامج “توطين عادل” (Equitable Relocation)
– في حال الضرورة القصوى، تضمن تعويضًا عادلًا، وسكنًا بديلًا في نفس الموقع الجغرافي أو في محيط قريب، كما هو معمول به في بلدان مثل كوريا الجنوبية وتشيلي
رابعًا: من مدينة الامتياز إلى فضاء العدالة:
– تحولت المدن السودانية إلى “أرخبيلات معمارية”: مناطق مسيّجة للنخب، وأخرى مطرودة للفقراء، وشوارع تستعرض فيها السلطة مظاهرها، بينما يغيب الفضاء العام الذي يتيح العيش والتفاعل والتخيل الجمعي
البديل المقترح:
– إعادة تعريف المدينة وفق منظور الحق في المدينة كما نظّر له ديفيد هارفي، بوصفها حقًا في التمثيل، والحلم، وإعادة تشكيل الحياة.
– تحويل ضفاف الأنهار إلى فضاءات عامة مستدامة بيئيًا ومدارة مدنيًا، كما في مشروع “تشونغ-غيتشون” في سيول أو “ساوث بانك” في ملبورن.
– اعتماد مبدأ العدالة الجغرافية كمعيار في تصميم المشاريع، بحيث تُقاس المدن ليس بعدد الأبراج، بل بدرجة انفتاحها وشمولها الاجتماعي.
خامسًا: من الفوضى البصرية إلى تأسيس هوية معمارية سودانية:
إن غياب الرؤية الجمالية الاستراتيجية، إلى جانب هيمنة رأس المال الريعي والطفيلي، أدى إلى إنتاج فوضى في تخطيط المدن، وفوضى معمارية مشوَّشة في المشهد الحضري السوداني. طغت العشوائية على التكوين البصري، وفُقدت العلاقة العضوية بين المبنى والمكان، ما أدى إلى تراجع العمارة عن كونها ممارسة ثقافية واجتماعية تُجسِّد الهوية الجمعية والتعدد البيئي. وبهذا الانفصال بين العمارة والمجتمع، تآكلت اللغة البصرية للمدينة، وضاعت معها الذاكرة المعمارية المتراكمة.
البدائل المقترحة:
– جذري لمسارات التكوين المعماري: من خلال إعادة تأهيل وتدريب المعماريين ومخططي المدن في برامج متخصصة بالتخطيط البيئي والمستدام، بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية دولية، واستلهام تجارب الجنوب العالمي، خاصة في مجالات “العمارة المنخفضة الكلفة” و”التحكم المناخي المحلي.”
– إطلاق مبادرات معمارية سودانية وإقليمية وعالمية منفتحة: لصياغة هوية معمارية سودانية مستنيرة بأحدث ما توصل إليه العلم في مجال التصميم العمراني. تُنظم هذه المبادرات من خلال فعاليات وطنية تشاركية تشمل الجامعات، وكليات الهندسة، ونقابات المهندسين، وترتكز على ربط التصميم المعماري بثقافة المكان، وذاكرة المجتمعات، وموارد البيئة المحلية، على غرار تجربة حسن فتحي، نادر خليل وتجارب “العمارة الاجتماعية” في أمريكا اللاتينية.
اعتماد سياسات تخطيط بديلة ضمن مشروع الدولة التأسيسية الجديدة: تتجاوز النماذج المركزية الموروثة من فترات ما بعد الاستعمار، التي قلدت الحداثة الأوروبية، تم فوضي الخليج بمعزل عن الواقع السوداني، وتركّز على تخطيط لامركزي يستجيب للتنوع المناخي والاجتماعي والثقافي.
– تأسيس مرصد حضري وطني مستقل: يتولى مراقبة جودة التخطيط الحضري والتصميم المعماري، وتقييم أثره الاجتماعي والثقافي، ويعمل بالتعاون مع المجتمع المدني، والنقابات، والمراكز البحثية، ليكون منصة وطنية للمعرفة، والمساءلة، والتخطيط المستقبلي العادل.
خاتمة: التخطيط بوصفه مشروعًا تحرريًا لمستقبل السودان الجديد:
لم يعد مقبولًا أن يظل التخطيط العمراني أداة في يد النخب لإعادة إنتاج الامتيازات القديمة، بينما تُقصى أغلبية المواطنين من أبسط حقوقهم في السكن، والمكان، والانتماء. في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها السودان، يُطرح مشروع “السودان الجديد” كفرصة تاريخية لتأسيس رؤية عمرانية بديلة تُعبّر عن التعدد، وتداوي جراح التهميش، والنزوح، والحروب التي راكمتها عقود من التخطيط الفاشل.
هذه اللحظة التأسيسية تستدعي إعادة تعريف التخطيط بوصفه مشروعًا تحرريًا، يُعيد للمدينة وظيفتها بوصفها فضاءً للعدالة، والتعدد، والذاكرة الجمعية. الأمر لا يقتصر على إعادة توزيع الخدمات أو معالجة الخلل في البنية التحتية، بل يتطلب بناء عقد حضري جديد، يُشارك فيه المواطن والمعماري وصانع القرار ضمن رؤية تتجاوز المركزية، وتؤمن بأن الحق في المدينة هو جزء من الحق في الوطن.
إن تخطيط المدن، في أفق السودان الجديد، يجب أن يتحول إلى ممارسة ديمقراطية شاملة، تُنتج عمرانًا يواكب البيئة، ويُجسد التعدد، ويُحصّن الذاكرة، ويُرسّخ قيم المواطنة والكرامة. ذلك هو جوهر المشروع العمراني التحرري الذي يستحقه شعب السودان.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.