عشوائيات شارع النيل الاسمنتية مايجب هدمه لابيوت المهمشين في الخيرات والعزبة والكنابي- الجزء الثاني:

خالد كودي، بوسطن، 30/5/2025

 

حين يصبح الإسمنت أداة قمع:

مقارنة بين الرؤية الرمزية في العمارة الإسلامية والفاشية، وانهيار المعنى في عمران الخرطوم.

30/5/2025 خالد كودي، بوسطن

في الجزء الأول من هذا المقال، أشرنا إلى أن النخب السودانية التي تولت شؤون الدولة عقب الاستقلال لم تسعَ إلى القطع مع النموذج الاستعماري في تخطيط المدن، بل واصلت، على نحو متسق، الإرث الكولونيالي في إنتاج فضاء حضري مفصول إثنيًا وطبقيًا، يعيد تكرار عقلية “التقسيم الاجتماعي للمدينة” التي صمّمها المستعمِر لخدمة جهاز الدولة المركزية لا لخدمة المواطنين. وبدلاً من أن يشكّل الاستقلال لحظة تأسيس مشروع وطني جامع يُعيد رسم الخرائط العمرانية وفقًا لمبادئ العدالة والمواطنة والمساواة، استمرت النخب الحاكمة، مدنية كانت أو عسكرية، إسلامية أو “حداثوية”، في بناء مدن تُقصي الأكثرية الثقافية والعرقية لصالح أقلية حاكمة، تتمركز رمزيًا وماديًا في الخرطوم وبعض المدن النيلية الكبرى. ولنناقش اكثر هذا الادعاء.

الفقر في الرؤية التخطيطية الاستراتيجة لا يمكن اختزاله في ضعف مهني أو تخطيطي بحت، بل يعكس إخفاقًا بنيويًا وأخلاقيًا في تصور المدينة كأداة لبناء الوحدة الوطنية، أو لتحقيق العدالة المكانية والاجتماعية. لقد استُخدمت المدينة، كما تشير الأدبيات النقدية، كأداة للفرز الاجتماعي وتكريس اللامساواة، وتثبيت تراتبية استعمارية أعيد إنتاجها بوسائل محلية، وتحت شعارات الأمة والدين والتحديث، وكل هذا يحتاج الي إعادة تأسيس الان!

وفي هذا السياق، تُمثّل السياسات السكنية وتوزيع الأراضي في السودان أحد أبرز تجليات التمييز المؤسسي المتجذر، حيث لا تُوزّع الأراضي وفقًا لاعتبارات الكثافة السكانية أو معايير العدالة الاجتماعية أو أولوية الفئات الأفقر، وإنما تُدار عبر آليات زبائنية تحكمها المحسوبية، وشبكات الولاء السياسي، وأحيانًا، الإثني. وبهذا، فإن من لا يملك واسطة، أو وظيفة رفيعة، أو صلة بمراكز القرار، لا يُمنح موضعًا في الأحياء “الراقية”، التي تُصمَّم وتُقسَّم كما لو كانت جُزرًا مغلقة للامتياز الاجتماعي والسلطوي.

وقد أوضح الدكتور عمر شركيان، في أكثر من دراسة تناولت بنية الدولة السودانية، وبطرق مختلفة أن السياسات الإسكانية قد استُخدمت، بصورة منهجية، كأداة بنيوية لإعادة إنتاج التهميش، لا سيما ضد سكان الأقاليم الطرفية. فالحق في السكن لم يُربط بمنظومة الحقوق المدنية، بل بشروط انتقائية منها الموقع الوظيفي داخل الدولة، والانتماء السياسي، والقرابة الإثنية، وذلك في سياق أوسع من الإقصاء الممنهج من التعليم، وفرص التوظيف، والتمكين الاقتصادي، مما جعل فئات واسعة من أبناء الهامش تُصنّف فعليًا باعتبارها “سكانًا غير مرغوب فيهم”، ويؤكد هذا التحليل كلٌّ من محمد إبراهيم نقد والدكتور سكنجة. ففي كتابه علاقات الرق في المجتمع السوداني، يبيّن الراحل نقد أن الأرض لم تُعامل كحق مدني عام، بل كأداة للهيمنة السياسية وإعادة إنتاج الامتيازات الطبقية والعرقية، عبر توزيع الأراضي على أساس الولاء السياسي والقرابة الإثنية. أما سكنجة واخرين، فقد كشفت دراساتهم حول شبكات النفوذ في الدولة السودانية عن كيفية تحوّل مؤسسات التخطيط العمراني إلى أدوات للزبائنية والمحاباة، تُدار بمنطق المكافأة السياسية لا الكفاءة المهنية أو العدالة الاجتماعية، مما جعل خارطة السكن انعكاسًا مباشرًا للتراتبية السلطوية، لا نتاجًا لتخطيط عادل.

وفي الاتجاه نفسه، يشير الدكتور عطا البطحاني، و الدكتور جمعة كندة، واخرين إلى أن النخبة السودانية بعد الاستقلال لم تقطع مع منطق السيطرة الكولونيالية، بل أعادت إنتاجها بأدوات محلية، وأسقطت عليها شعارات مفرغة عن الأمة والدين والتحديث. فجوهر السلطة لم يتغير، بل ظل قائمًا على التهميش المؤسسي، والتدرج الإثني، والتوزيع الانتقائي للموارد، وفي مقدمتها الأرض، التي تحولت في كثير من السياقات إلى معيار للانتماء للنخبة، لا للوطن.

وتتجلى هذه البنية في تحويل التدرج الوظيفي في الدولة إلى أداة عمرانية للتمييز المكاني والاجتماعي. فكيف يُتوقع من أبناء وبنات الهامش، الذين حُرموا، بشكل مؤسسي، من التعليم والخدمة المدنية لعقود، أن يحصلوا على أراضٍ سكنية في المدن، أو يمكّنوا من (قروض الإسكان) او أي مساعدة من الدولة، أو تُمنح لهم فرص متكافئة في الحق بالمدينة؟ لقد جرى أولاً اقتلاعهم من الموارد والتعليم، ثم أُقصوا من الخرائط!

وتكفي نظرة على مدن مثل العاصمة المثلثة، وبورتسودان، ومدني، ليتبيّن للمراقب أن أحياءً بأكملها تكاد تخلو من أي مواطنين من مناطق الهامش، فيما يُدفع بهم نحو أطراف المدن، حيث تتدهور البنى التحتية، وتغيب الخدمات، وتُهدّد مساكنهم دائمًا بالإزالة والهدم. هذا التوزيع المكاني لا يعكس خللًا عابرًا، بل يُمثّل نظامًا راسخًا للفرز السكاني، والاستبعاد الاجتماعي، والعنصرية البنيوية المتوارثة.

وقد كتب العديد من الباحثين السودانيين في هذا الإطار، فأشار د. المعز أبو نورة إلى أن “المدينة في السودان لا تُبنى لتستوعب الجميع، بل لتُقصي الأكثرية، بصمت عمراني لا يخلو من العنف الرمزي.” خلصت دراستات عن مدينة ود مدني، أن مؤسسات توزيع الأراضي “عملت كمؤسسات فرز إثني ناعمة، تجعل من السكن امتيازًا لا حقًا؛ وتتوافق هذه الملاحظات مع تحليلات مفكري العمران العالميين. فقد صاغ هنري لوفيفر في كتابه

The Right to the City

مفهوم “إنتاج الفضاء” بوصفه أداة للسيطرة الطبقية، مؤكدًا أن “الحق في المدينة لا ينبع من الهوية القانونية، بل من التجربة اليومية للعيش والمشاركة”. وفي السياق ذاته، يشدد ديفيد هارفي، في

Social Justice and the City

على أن “الحق في المدينة يتجاوز مجرد حرية الوصول إلى الموارد، ليشمل الحق في إعادة تشكيل المدينة نفسها”، وهو حق لا يُتاح إطلاقًا للمواطن السوداني المهمش، الذي يُقصى مكانيًا قبل أن يُقصى سياسيًا. أما إدوارد سوجا، في كتابه

Seeking Spatial Justice

فيؤكد أن العدالة المكانية لا تتعلق فقط بالمساواة النظرية، بل بتوزيع القوة والموارد ضمن الفضاء الحضري نفسه، قائلاً: “العدالة المكانية هي إدراك نقدي للبنية المكانية للظلم الاجتماعي”

ويُعد الهدم المتكرر لمنازل المواطنين في الأحياء الطرفية، كما في الكدرو، والفتح، وأمبدة، والردمية، تجليًا عنيفًا لهذا النظام العنصري الموروث، الذي يرى في وجود المهمشين داخل المدينة تهديدًا لـ”النقاء الرمزي” للفضاء المركزي، ويسعى دومًا لإعادتهم إلى الهامش، حيث لا يُعترف بوجودهم، ولا تُحسب مساكنهم، ولا يُؤخذ صوتهم بعين الاعتبار.

وبذلك، تتحول المدينة السودانية إلى خارطة عنف ناعم، لا يستند إلى قانون صريح بقدر ما ينبثق من تواطؤ بنيوي، سياسي يعيد إنتاج الامتيازات. تصبح الأحياء المخططة امتدادًا لهوية مركزية متسلطة، بينما تُحاصر الأحياء الطرفية ضمن “جغرافيا الشك”. ويغدو التدرج العمراني لا مجرد انعكاس للتراتبية الاجتماعية، بل أداة لإعادة إنتاجها.

وعليه، فإن غياب العدالة في توزيع الأراضي في السودان لا يمكن فهمه إلا بوصفه نتاجًا لبنية حكم مركزي إقصائي، توظّف أدوات التخطيط الحضري كسلاح رمزي لترسيم من يملك الحق في الفضاء، ومن لا يُعترف حتى بوجوده.

هذه البنية لا تُفهم في فراغ، بل ترتبط بتاريخ عالمي طويل في استخدام الفضاء العمراني كأداة للاستبعاد العنصري والاجتماعي.

ففي الولايات المتحدة، شكّل نظام الخطوط الحمراء

(Redlining/Zoning)

الذي أُقرته المؤسسة الفدرالية للقروض الإسكانية في ثلاثينيات القرن العشرين، نموذجًا صارخًا لكيفية تحويل الخرائط إلى أدوات إقصاء عنصري ممنهج. إذ كانت الأحياء التي يقطنها الأمريكيون من أصل إفريقي تُصنّف تلقائيًا على أنها “عالية المخاطر”، وبالتالي تُمنع عنها الاستثمارات العقارية، والتمويل البنكي، والبنية التحتية، مما رسّخ العزل الطبقي والعنصري لعقود. وقد لخّص جيمس بالدوين هذه المفارقة بقوله الشهير: “في أمريكا، الفقر أسود”، مشيرًا إلى العلاقة البنيوية بين الاثنية والمكان والفقر، والعجز البنيوي عن الهروب من منظومة الإقصاء تلك

أما في جنوب إفريقيا، فقد بلغ استخدام التخطيط العمراني ذروته في نظام الأبارتايد، حيث لم تكن المدن مجرّد أماكن للعيش، بل منظومات تفصل المواطنين بيولوجيًا وقانونيًا، من خلال إقامة “المناطق العازلة”

(Buffer Zones)

التي تفصل بين أحياء البيض والسود، وتُجرّم إقامة السود في المدن إلا بشروط عمل صارمة. وكما بيّن الباحث إدغار بيترسون، فإن “الخرائط في هذا السياق لم تكن أدوات تخطيط، بل أدوات قمع، تُعيد رسم من يُرى ومن يُخفى”

وفي البرازيل، تتجلى عنصرية الفضاء في علاقة الدولة بسكان الفافيلا، الأحياء الفقيرة التي تحتضن ملايين البشر. هذه المجتمعات تُعامل بوصفها “مناطق غير شرعية”، رغم قدمها وتجذرها، وتُستهدف بانتظام بعمليات هدم قسري ومشاريع نزع ملكية تحت ذريعة “التحديث”، مما يُقصي السكان من مدنهم، ويدفعهم إلى هوامش جديدة. وقد وصف مايك ديفيس، في كتابه

Planet of Slums

المنطق بقوله: “المدينة المعاصرة باتت مخيالًا نخبويًا عنيفًا، يُطرد منه غير المرئيين”

وإذا ما قارنا هذه التجارب بالواقع السوداني، نجد أن النخب الحاكمة، مدنية أو عسكرية، دينية أو ليبرالية، لم تُنتج سوى نسخ باهتة من هذه الآليات، لكنها مارستها على مجتمعٍ أُريد له أن يبقى مجزأً ومهشّمًا. فقد تُرجمت العنصرية في السودان إلى تخطيط حضري يُقصي أبناء جبال النوبة، ودارفور، والنيل الأزرق، من الأحياء المخططة في المدن الكبرى، ويُعيد إنتاج الإقصاء جغرافيًا واقتصاديًا ورمزيًا. لا يمكن فهم هذا الإقصاء إلا كامتداد لتراث استعماري- محلي يتوارثه المركز، ويُطبّقه بمنطق “الحق في المدينة لمن يشبه السلطة”، لا لمن يستحق المواطنة.

من أبرز المفارقات المفجعة في التجربة السودانية المعاصرة أن النخب السياسية، سواء تلك التي رفعت شعارات الإسلام السياسي أو تلك التي تبنّت خطاب الحداثة المدنية، لم تُبدِ حتى في ممارساتها الإقصائية والعنصرية أدنى درجات الخيال التخطيطي أو الرؤية العمرانية ذات الطابع الرمزي أو الفلسفي. بل انعكس هذا الغياب في شكل انحدار مريع في الذائقة الجمالية، وافتقار شبه كامل لأي بُعد تأملي أو أخلاقي في العلاقة بين المدينة والمجتمع والإنسان. وبدلاً من تحويل السلطة إلى مشروع حضاري، عابر لما بعد الكولونيالية، قادر على اجتراح فضاء جديد يراعي احتياجات الإنسان ويحترم الفضاء العام، اختزلت هذه النخب حضورها في ممارسات تمييزية بدائية، تجسّدت في سياسات تعمير سطحية، وعمارة بلا معنى، وشعارات جوفاء تُغطي على فقر رمزي بنيوي.

وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، مارست هذه النخب مشروعًا إسلاميًا تماثلت بنيته السلطوية – الرمزية مع مشاريع فاشية أخرى في التاريخ المعاصر، دون أن تحقق ولو جزءًا يسيرًا من نتائجها التخطيطية أو البصرية أو الرمزية. ففي ألمانيا النازية، ورغم وحشية الإيديولوجيا الفاشية، تم توظيف العمارة والتخطيط الحضري في إنتاج سردية رمزية متماسكة حول “عظمة الدولة”، وذلك من خلال مشروع “جيرمانيا” الذي صممه المهندس ألبرت شبير. سعى المشروع إلى إعادة تشكيل مدينة برلين لتكون عاصمة عالمية تجسّد القوة الإمبراطورية والهيمنة العرقية، معتمدًا على النسب الضخمة، والمحاور الواسعة، والحجر الطبيعي كمادة تستبطن الخلود والديمومة، في صياغة معمارية تهدف إلى فرض السطوة النفسية على المواطن، وبناء شعور بالانتماء والهيبة والرعب في آنٍ معًا. كانت المدينة النازية، بما تمثله من رمزية بصرية ونفسية ومعمارية، أداة مركزية في إعادة تشكيل الذات الفردية والجمعية داخل سردية الأمة الآرية المتخيلة، وربط الجغرافيا بالإيديولوجيا عبر أدوات التصميم.

أما في السودان، فلم تخلّف النخب الحاكمة، بعد عقود من السلطة، سوى عشرات المساجد والمباني العامة المصممة دون حس رمزي، أو رؤية عمرانية متماسكة، أو أدنى مستوى من الجمال أو الديمومة. مشيّدة بمواد رديئة، وملطخة بألوان فاقعة غير منسجمة، كانت هذه الأبنية بمثابة تجسيد مادي للفراغ الرمزي والسياسي، حيث فشلت في ملامسة الروح أو بناء أي شكل من أشكال الانتماء أو الذاكرة الجمعية. لم تكن هناك أي محاولة لخلق هوية معمارية تتناغم مع الفضاء السوداني أو تعكس تاريخه الحضري، بل كان كل ما بُني استنساخًا مبتذلًا لواجهات سلطوية، تستخدم العمران كأداة حضور قمعي أكثر من كونه تعبيرًا عن حضارة أو قيمة.

حتى المساجد، التي كان يفترض أن تُشكّل قلب الفضاء العام ومركزًا للسكينة الروحية والمعنى الجمالي، تحوّلت إلى كتل إسمنتية صمّاء، فارغة من الروح، ومحمّلة بوظائف رقابية وقمعية. كثيرًا ما استُخدمت كمقار أمنية أو أدوات لتطويع المجتمع، بل تحولت أحيانًا إلى منابر للتحقير والشتيمة والبصق اللفظي على من يفترض أن يُحترم داخلها. كانت هذه المساجد، شكلاً ومضمونًا، تعبيرًا صارخًا عن انفصال الدولة عن الروح، وعن استلاب المقدس لصالح مشروع سلطوي عقيم، واختزال المعمار الإسلامي إلى أداة للهيمنة بدلًا من أن يكون فضاءً للتنوير.

لقد كشفت نخب مابعد الاستعمار، ونخب ما سُمّي بـ”المشروع الحضاري” عن عجز هيكلي عن إنتاج أي عمران يمكن وصفه بالحضاري: فلا مدارس عامة تليق بكرامة الإنسان، ولا حدائق أو فضاءات خضراء تعيد التوازن للمدينة، ولا مكتبات أو دور فنون تحفظ الذاكرة الجمعية وتُنعش الخيال المدني، ولا مرافق عامة ترسّخ الشعور بالانتماء. كل ما شُيّد كان واجهات سياسية مغلقة، أحياء سكنية مخصخصة، وفضاءات عامة مستلبة، صودرت باسم الدين لكن وظيفتها الوحيدة كانت تقييد الحريات ومراقبة الحيز المشترك، ومصادرة المجال العام من الناس وتحويله إلى ساحة سلطوية مغلقة. غابت البنية التي تمكّن الناس من اللقاء والتعبير والمشاركة، وتحوّل الفضاء المدني إلى ما يشبه الثكنة، حيث يكون الوجود مرادفًا للخضوع.

في المقابل، تقدّم العمارة الإسلامية الكلاسيكية، من فاس إلى قرطبة، ومن القيروان إلى بغداد وسمرقند وبخارى، نموذجًا غنيًا لفهم الفضاء بوصفه امتدادًا روحيًا وجماليًا للإنسان. لم يكن المسجد في هذا التراث الذي تمسحوا به مجرد معلم ديني، بل مركزًا جامعًا للحكمة، والعدل، والعلم، والتوازن النفسي. الأسواق والمدارس والمكتبات كانت تنمو حوله بانسيابية، وتُراعى فيها العناصر الطبيعية كاتجاه الضوء، وجودة الهواء، وتناسب المسافات، واتساق المواد، وكانت هذه المدن تؤسس للعيش المشترك من خلال علاقة شفافة بين الإنسان والمكان، تقوم على التوحيد لا التفرقة، وعلى الجمال لا الفرض. كانت العمارة الإسلامية تحاكي انتظام الكون، وتُكرّس لفكرة وحدة الخلق، وتُفعّل الفضاء بوصفه حاضنًا للقيم والمقدّس، لا مجرد سطح للبناء…

أما المدن السودانية الحديثة، فشهدت تشويهًا مروّعًا لهذا التراث، بلغ أقصى درجات التفاهة والانحدار. فقد بُنيت مئات المساجد من الطوب الرديء وعلى عجل، دون أي اعتبار لقدسية المكان أو شروطه الروحية والمعمارية، وتحوّلت من مراكز إشعاع روحي إلى واجهات للسلطة، ومكاتب أمنية، أو أدوات تأديب مجتمعي. حتى الدين، الذي زُعم أنه المبرّر الكلّي للمشروع، تم تفريغه من جوهره الجمالي والأخلاقي، واختُزل في بنى هندسية مُقفّرة، لا تمت بصلة إلى المساجد التاريخية الكبرى في سامراء أو قرطبة أو بخارى….

إن ما شُيّد في السودان باسم الدين والحداثة لم يكن سوى ما يمكن تسميته بـ”تفاهة عمرانية ممنهجة”، تقوم على القبح، والفساد، والاستلاب الرمزي، والإقصاء الطبقي والجغرافي. الخرطوم، التي كان يفترض بها أن تكون عاصمة للجمال والتعدد، تحوّلت إلى بنية قمعية مغلقة، بلا روح، ولا ذاكرة، ولا أمل. لم تعد المدينة حاضنة للإنسان، بل آلية لإعادة إنتاج التهميش، ومنظومة لحراسة الفقر، وتحويل العمران إلى أداة تحكم واستحواذ، لا لبناء الحياة أو توسيع المجال العام أو تنمية الإبداع.

إن الخرطوم اليوم، في صورتها المعمارية، ليست مدينة، بل أثر ملموس لغياب المشروع، وتجلٍ مادي لسوء النية والتخطيط. وكما يصف إدوارد سوجا “الفضاء المحتل”، فإن المدينة السودانية الراهنة تُقصي سكانها رمزيًا قبل أن تُقصيهم ماديًا. فهي تجرّدهم من الحلم، من الحق في الانتماء، من القدرة على تخيّل المستقبل. لقد مارست النخب على الجغرافيا نفس ما مارسته على التاريخ: التزييف، والقمع، والمحو. حوّلت الخرائط إلى أدوات قمع بدل أن تكون أدوات حياة، والمقدس إلى وسيلة سيطرة بدل أن يكون ملاذًا للروح. وهكذا انتهى المشروع إلى خراب مزدوج: خراب في الحيز، وخراب في الضمير، وخراب في المعنى، حيث لا مدينة، ولا رمزية، ولا عدالة في فضاء يدّعي الصلاح لكنه يؤسس للقبح بكل أدواته، فباي وجه تهدمون منازل الناس!

النضال مستمر والنصر اكيد.

يتبع في الجزء الثالث:

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.