عشوائيات شارع النيل الاسمنتية مايجب هدمه لابيوت المهمشين في الخيرات والعزبة والكنابي…. الجزء الأول:

خالد كودي، بوسطن، 29/5/2025

 

 

من شارع النيل إلى العزبة والخيرات: التدمير الممنهج للحق في المدينة في السودان:

ما تقدر عليه النخب الحاكمة في السودان منذ استقلاله ليس التخطيط المبدع، ولا إقامة مدن عادلة أو بيئة صالحة، بل فقط هدم بيوت الفقراء والمستضعفين بحجة “العشوائية”. أما الدولة نفسها، فهي قائمة على عشوائية مؤسسية: لا رؤية، لا عدالة، ولا احترام للقانون. يُجرّم الفقير لأنه بنى بيتاً من الطين في أطراف المدينة، بينما تُشيَّد العمارات واستثمارات الابراج الفاخرة على ضفاف النيل وفي قلب الميادين العامة بلا ضابط ولا تخطيط، وتُقدَّم على أنها ال “تنمية” و “الحضاره”. إنها دولة لا تحارب العشوائية، بل تُنتجها وتحرسها حين تكون في خدمة النفوذ، وتدمّرها فقط حين يسكنها الفقراء، ولنثبت هذا:

في قلب المدن السودانية، وعلى امتداد الضفاف النهرية التي تُعد من أكثر الفضاءات حساسية ورمزاً للمشترك البيئي، يتكشّف واقع عمراني مختلّ يقوم على مصادرة الحق في المدينة، والهيمنة على المجال العام لصالح نخب محددة. ففي الخرطوم على وجه الخصوص، جرى تخصيص ضفاف النيل – التي تُصنّف في المعايير الدولية، وفقاً لاتفاقيات الأمم المتحدة لحماية الموارد البيئية المشتركة

 (UN Environment Assembly, 2021)

 كأملاك عامة لا يجوز خصخصتها – لصالح شبكات المال والسلطة، وتم إنشاء أندية مغلقة، وكافتيريات استثمارية قبيحة، وفنادق “فاخرة”، على حساب المجال العام، مما حرم أغلبية المواطنين من الوصول إلى النهر، أو حتى رؤيته.

في المقابل، تعرضت أحياء سكنية فقيرة، مثل العزبة والخيرات، فضلاً عن عدد كبير من قرى الكنابي في ولاية الجزيرة ووسط وشمال السودان، إلى موجات من الهدم القسري والتهجير الممنهج، تحت ذرائع فضفاضة وغير علمية مثل “إزالة العشوائيات”، أو “مكافحة الوجود الأجنبي”، أو حتى “الاشتباه في التعاون مع المتمردين”. هذا النهج لا يمكن اعتباره مجرد إخفاق في التخطيط، او استجابة لواقع امني بل هو إعادة إنتاج للعنف الرمزي والفعلي عبر أدوات عمرانية، يعكس نموذجاً عنصرياً ومؤسسياً للتمييز المكاني، تتقاطع فيه الطبقية والإثنية والدينية، وفق ما يعرف في أدبيات التخطيط النقدي بـ “التمييز الهيكلي المكاني”

(Structural Spatial Discrimination)

كما شرحته

  Susan Fainstein

في دراساتها حول العدالة في السياسات الحضرية.

وتُدار هذه العمليات في السودان غالباً بواسطة نخب بيروقراطية محدودة الكفاءة، وجامدة الخيال العمراني، وعديمة الحس الجمالي أو البيئي، إذ تفتقر مشاريعها لأي بعد تشاركي أو أخلاقي في التعامل مع حقوق السكان أو مع النسيج الحضري.

ولا يمكن فهم هذا الواقع دون استحضار بنية تصميم المدن للدولة السودانية ما بعد الاستعمار، والتي ورثت عن الإدارة البريطانية نمطاً هرمياً في التخطيط يعتمد على تمييز إثني، طبقي ديني صريح. فمنذ الاستقلال، تركزت امتيازات السكن، الوظيفة، التعليم والخدمات في أيدي “الأفندية” المنحدرين من الطبقات المتعلمة القريبة من المركز الثقافي النيلي، بينما تم إقصاء المواطنين المنتمين للهامش الجغرافي – جنوباً، وغرباً، وشرقاً – عن أحياء الخرطوم العريقة ومجالات التمكين المدني. وتجلّى هذا التوزيع غير العادل في مخططات المدن الكبرى، حيث تم بناء الأحياء المركزية على أساس التمايز الإثني واللغوي، لا على أساس المصلحة العامة أو العدالة والتعدد.

وقد بلغ هذا النمط من التحيّز المكاني ذروته مع صعود نظام “الإنقاذ” إلى السلطة في 30 يونيو 1989، حيث تم اعتماد سياسة عمرانية مؤدلجة تستند إلى فرض رؤية أحادية للمدينة، تقوم على أثننة وأسلمة المجال العام، وإعادة هندسة الفضاء الحضري بما يخدم الهيمنة الإثنودينية للسلطة الحاكمة، لا متطلبات التنمية المستدامة أو العدالة الاجتماعية. لقد تم التعامل مع التخطيط العمراني لا كأداة لتحسين البيئة الحضرية، بل كممارسة سياسية لإنتاج الولاء السياسي وضبط المجال المكاني تحت رقابة أمنية ومرجعية أيديولوجية مغلقة.

وقد تجلت هذه السياسة في مجموعة من الإجراءات والممارسات المنهجية، أبرزها:

– هدم مساكن الفقراء والمهمشين في الأحياء الطرفية دون توفير أي بدائل سكنية عادلة أو مستدامة، في انتهاك مباشر للحق في السكن اللائق، كما ورد في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، لا سيما المادة (11) التي تنص على “حق كل فرد في مستوى معيشي كافٍ له ولأسرته، بما في ذلك المأوى”.

– الاستيلاء على دور العبادة المسيحية، ومنع إصدار تراخيص لبناء كنائس جديدة، في خرق واضح للفقرة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تكفل حرية الفكر والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية.

– خصخصة التعليم العام وتحويل المدارس الحكومية إلى جامعات حزبية، خاضعة للتنظيم الإسلامي، في سياق مشروع ممنهج لـ”أسلمة الفضاء التربوي”، وهو ما أدى إلى تقويض مبدأ التعليم المجاني المتكافئ، وتحويل المؤسسات التعليمية إلى أدوات لتشكيل الوعي وفقاً لأيديولوجية السلطة.

– التضخم اللاعقلاني في بناء المساجد الرسمية، حيث شُيّد أكثر من خمسة آلاف جامع في الخرطوم وحدها خلال العقدين الأولين من حكم “الإنقاذ”، في وقتٍ أُهملت فيه المدارس والمكتبات العامة، وتراجعت فيه شبكات المياه والصرف الصحي، وتدهورت البيئة العمرانية للمدن بشكل عام.

تُظهر هذه الممارسات كيف تم توظيف التخطيط العمراني كأداة للفرز الاجتماعي، والسيطرة الأيديولوجية، وتكريس الفضاء العام كامتداد لسلطة الدولة لا كحق للمجتمع.

لقد تحوّل التخطيط الحضري في عهد الإنقاذ بمباشرة غير مسبوقة إلى أداة للسيطرة الرمزية والمادية على المدينة، لا لتوزيع الموارد أو تحسين جودة الحياة. وكما بيّن ديفيد هارفي في كتابه “الحق في المدينة”، فإن المدينة لا تُبنى فقط بالخرسانة، بل أيضاً بالمعنى والعدالة والمشاركة. وما حدث في السودان هو إعادة تشكيل للمدينة كفضاء قبيح للهيمنة، لا كمنصة للعيش المشترك.

هذا المقال إذن يسعى إلى تفكيك هذا النمط من الحكم العمراني، من خلال مقاربة متعددة الأبعاد: قانونية، بيئية، عمرانية، واجتماعية، مستنداً إلى مرجعيات معترف بها في أدبيات التخطيط الحضري النقدي، مثل:

– الميثاق العالمي للحق في المدن

 (World Charter for the Right to the City)

– إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان في البيئة

(UN Resolution A/HRC/RES/48/13)

أعمال Henri Lefebvre-

حول إنتاج الفضاء

– وأدبيات الأمم المتحدة للتنمية المستدامة

(SDG 11 – Sustainable Cities and Communities)

وفي ضوء هذا كله، يعيد المقال طرح سؤال مركزي:

من يملك حق السكن في المدن السودانية؟ ومن يملك الحق في رؤية النيل؟ وهل المدينة السودانية مجال للعيش، أم واجهة لامتيازات السلطة؟ واضح ان والي وحكومة الخرطوم ولجنتها الأمنية لا يدرون انه ليس من حقهم هدم منازل المواطنين كما فعلوا!

اولاً: في تفكيك مفهوم “العشوائية” والسلطة بوصفها مقاولاً للهدم:

لم تكن “العشوائية” في التجربة السودانية مصطلحاً تخطيطياً محايداً، بل أداة إيديولوجية تُستخدم لتبرير الإقصاء المكاني والطبقي والإثني، وتغليف سياسات الإزاحة القسرية بغلاف تقني. منذ الاستقلال، أخفقت الدولة السودانية في إنتاج سياسة إسكان عادلة أو رؤية علمية لتخطيط المدن تستجيب للتحولات السكانية والاقتصادية والبيئية. وبدلاً من ذلك، كرّست سلطة الدولة نموذجاً نفعياً مشوهاً، يجعل من تملّك الأرض داخل المدن امتيازاً وراثياً، قائماً على قرب الجماعة أو الفرد من شبكات النفوذ السياسي والاثني والديني.

منذ الاستقلال الي العقود الثلاثة لنظام “الإنقاذ” (1989–2019)، ترسّخ تخطيط قائم على التحالف بين الدولة الأمنية والسلطة العقارية، حيث تم توجيه الاستثمارات والخدمات والبنى التحتية نحو أحياء محددة في الخرطوم ومدني وعطبرة وبورتسودان، وغيرها، احياء يسكنها أفراد من النخبة المركزية النيلية، بينما تُركت أحياء أخرى ـ كـ”العزبة” و”الخيرات” و”الكنابي” ـ في فقرٍ بنيوي مدروس، ليتحول هذا الإهمال لاحقاً إلى مبرر لإزالتها.

ما يوصف بـ”العشوائي” ليس كذلك لافتقاره إلى النظام، بل لأنه ناتج عن منظومة تهميش منظم وماسسي:

– فأحياء العزبة والخيرات وغيرها من احياء هامش المدن نشأت نتيجة للنزوح القسري من مناطق الحرب والتصحر، وهي أحياء تؤوي مواطنين من الطبقات الكادحة، وغالبهم من الهامش الإثني والجغرافي.

– أما الكنابي في الجزيرة، فتمثل نموذجاً فريداً لسكن العمال الزراعيين حول مشاريع الري الكبرى، وهي مجتمعات أنتجت جزءاً كبيراً من الغذاء القومي، لكن لم يُعترف بها قانونياً، ولم تُدرج ضمن الخطط الرسمية.

– في مدني وشندي وسنار وبورتسودان، وعطبرة… تم تصنيف مناطق بأكملها كمواقع تهديد سياسي أو “تجمعات غرباء”، وهو توصيف مشحون بالعنصرية، استُخدم كمبرر للهدم والمحو، بل للاعتقال والتغذيب!.

الهدم في هذه الحالة لا يتم بوصفه إجراء عمرانياً محايداً، بل باعتباره آلية للسيطرة الطبقية والإثنية على الفضاء، حيث يُكافأ من يملك العلاقات أو الامتيازات بالأرض والخدمات، ويُعاقب من لا يملك إلا جسده وبيته المتواضع بالمحو الفيزيائي من الخريطة.

وقد أشار كتاب “سَكَنْجة: نقد العمران وسلطته في السودان” إلى أن ملكية الأرض في السودان قد تحوّلت من نظام أعرافي تكافلي إلى بنية احتكارية وراثية، حيث تم توارث المواقع العقارية داخل الأسر المتنفذة جيلاً بعد جيل، دون دفع ضرائب عادلة أو إدماج الفئات الجديدة في فرص السكن. هذه البنية ساهمت في إعادة إنتاج رأس المال العقاري عبر الدم والسلطة، لا عبر القيمة أو العدالة أو الكفاءة.

ولا يمكن فصل هذا كله عن تدني الذائقة الجمالية والأخلاقية لمن تولّوا هذه السياسات. فالجلافة التي مُورست بها عمليات الهدم، واحتقار سكان تلك الأحياء، والتمجيد المَرَضي للمشروعات الخرسانية، تعبّر عن انهيار في الحس المدني والوطني والجمالي، وتدلّ على عجز النخب الحاكمة عن إدراك المدينة ككائن حي، متعدد الأصوات، ومتعدد الأمكنة.

ثانياً: شارع النيل والخصخصة الجلفاء للفضاء العام

ما جرى في شارع النيل بالخرطوم لا يمكن وصفه إلا بأنه تشويه حضري فادح، وخصخصة رمزية، غير قانونية للروح العامة للمدينة. فبدلاً من تطوير الضفاف النهرية كمتنفس حضري ومجال عام مفتوح للجميع، تحولت إلى سلسلة من المباني القبيحة المحاطة بالسياج والحرّاس، تحت مسمّيات “استثمارية” كالأندية ومساكن الأجانب والطفيليين من اللصوص المليارديرات والفنادق والكافتيريات، لكنها في الواقع حصون طبقية تحجب النيل عن أهله.

إن هذه الأبنية ليست فقط انتهاكاً قانونياً للملكية العامة، بل تشويه بصري ومجالي، لأنها أُقيمت في غير مكانها، و بذوق رديء، وبلا هوية معمارية، فأفسدت المشهد النهري، وأغلقت الأفق، وأفرغت النهر من رمزيته الاجتماعية والثقافية والتاريخية. لم يكن المعمار هنا فعلاً جمالياً أو بيئياً، بل كان فعل رداءة وجشع وعجز حضاري. انها عشوائيات الدولة، نهبت النخب الأراضي حول النيل لتقيم عليها كيانات عشوائية من الاسمنت والبلاستيك بون وجة حق.

وقد أشار الشاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا إلى أن “الناس الذين لا يملكون الماء والخبز والضوء لا يحتاجون إلى الشعر، بل إلى ثورة”. والنيل، في السياق السوداني، ليس فقط مورداً مائياً، بل عنصر تأسيسي في الوعي الوطني والوجداني. حجب الناس عن النيل هو حجبهم عن ذواتهم، عن تاريخهم، وعن علاقتهم العضوية بالمكان.

إن الحق في الوصول إلى النهر هو امتداد طبيعي لحقوق الإنسان في البيئة والسكن والمشاركة المجالية. وقد نصت على ذلك المواثيق الدولية، نذكر منها:

– إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان والبيئة (2021) الذي أقرّ أن لكل إنسان الحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة.

– دليل تخطيط المدن المستدامة الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية

(UN-Habitat)

الذي ينص بوضوح على ضرورة حماية ضفاف الأنهار من البناء والخصخصة، باعتبارها مجالاً عاماً حيوياً

– وأكد إعلان “الحق في المدينة” الصادر عن المنتدى الاجتماعي العالمي أن المجال العام ليس سلعة، بل مشترك جماعي، وأن حجب الوصول إليه جريمة عمرانية.

ما حدث في شارع النيل يمثل إذًا انتهاكاً مضاعفاً: أولاً، للقانون البيئي الذي يمنع التعدي على المساحات النهرية لأسباب فيضانية وبيئية، وثانياً، للحق المديني في الجمال والمكان والمشاركة.

مدينة منزوعة الروح: عندما يصبح النيل رهينة طبقة لا تعرف الجمال إلا في الخرسانة:

في مدينة الخرطوم، تبدو الكراهية وكأنها لم تعد شعوراً عابراً، بل تحوّلت إلى بنية مادية ومخطط عمراني، فُرض بفعل طبقة طفيلية لم تعرف من معنى الوطنية سوى شهوة الامتلاك، ولم تعرف من الجمال إلا ما يُستورد ويُغلّف في كتل إسمنتية مشوهة. تلك الكتل التي شُيّدت على ضفاف نهر النيل، في انتهاكٍ مزدوج: أولاً، للقانون البيئي الذي يمنع البناء الدائم على السواحل النهرية لاعتبارات تتعلق بالسلامة الفيضانـية، والتوازن الإيكولوجي، والوصول العام للمياه، وثانياً، للحق المدني والإنساني في التمتّع بالمنظر الطبيعي، واستخدام المجال العام كفضاء للمشاركة لا للاحتكار، ناهي؛ عن رمزية النيل.

وكما قال الكاتب الأمريكي راي برادبري: “أعطني مدينة لا يُرى فيها الماء، وسأريك مدينة لا تحب نفسها”. والخرطوم، للأسف، أُعيد تشكيلها لتكره ذاتها، بعد أن جُرّدت من علاقتها الحية بنهرها. إذ أُغلقت واجهاته العمرانية بالأندية الخاصة، والكافتيريات الاستثمارية، والمباني المغلقة، التي لا يستفيد منها إلا أصحاب الامتيازات التاريخية والفاسدين، بينما حُجب عن عامة الناس حق النظر إلى النهر، فضلاً عن حق الوصول إليه!

وفي مفارقة فاضحة، تدّعي الدولة أنها تحارب “العشوائيات” بإزالة منازل من الطين والخيش شيّدها فقراء أرهقتهم الحرب والتهميش، بعد أن نزحوا إلى أطراف المدن طلباً للأمان والخدمات، فيُهدم ما شيدوه بأيديهم ويُصنّف كـ”مهدد بصري”، بينما تُشيَّد أبراج الاستثمار والسيطرة على ضفاف النيل والميادين العامة بلا أي التزام بالقوانين العمرانية أو ضوابط البيئة، ولا تُسمّى عشوائية، بل يُحتفى بها كرموز للحضارة والتنمية!

إن هذه المعادلة المختلة تُظهر كيف تحوّل التخطيط العمراني في السودان إلى منظومة إقصاء نخبوي وهيمنة رمزية، لا تُعاقب المعتدين على المجال العام، بل تكافئهم بالشرعية والتغطية السياسية. في حين أن من يجب أن يُزال قانونياً ليس هو بيت الفقير الذي احتمى بالطين من العراء، بل تلك المباني الفاخرة التي قامت على أرصفة النهر في خرق صريح للمواد البيئية في قوانين التخطيط (مثل المادة 18 من قانون التخطيط العمراني لعام 1994، والمبادئ العامة لاتفاقية رامسار حول حماية المناطق الرطبة).

فالمدينة تُقاس بعدالة توزيعها للفرص والمجالات، لا بارتفاع مبانيها. وما يُرتكب اليوم في الخرطوم من هدم بيوت المهمشين، بينما تُحمى الأبراج المسروقة على النهر، هو قلب فج لمبادئ التخطيط العلمي الرشيد، وعدوان واضح على ما تبقّى من مفهوم المدينة كفضاء مشترك.

ولذلك، فإن من يجب أن يُهدم فعلاً، ليس بيت الطين الذي يضمّ أسرة نازحة، بل تلك المنشآت التي استباحت الشاطئ العام، وتحوّلت إلى رموز للتملك النخبوي والفساد المعماري. إن إنقاذ المدينة يبدأ باسترداد ضفاف النيل، وتحويلها إلى حدائق عامة مفتوحة، لا إلى بواباتٍ للعزلة والتمييز. أما ما عدا ذلك، فهو مجرد تكريس للإقصاء، وإعادة إنتاج حضرية للكراهية والنهب المقنن.

يتبع في الجزء الثاني:

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.