عبد الله علي إبراهيم وإثارة الغُبار لتعتيم الرؤية
عبد العزيز آدم الحلو
كتب (عبد الله علي إبراهيم) مقالاً بعنوان: (عبد العزيز الحلو وتحريم إذاعة أغنية “دوب أنا حي ياخد بت عمو” في إذاعة “هنا كاودا”)، وقام بنشره في الوسائط الإعلامية. وذكر إن مقاله ليس هو سوى الوقوف عند مسألة أو أخرى وردت في ردي على الصحفية (رشا عوض). ولا تتعلَّق بخلافي معها، بل لمآخذ شخصية على مقالتي وردي على الصحفية (رشا) فيما كتبته في مقالها الذي قالت فيه: (لا وجود لثورة مُسلَّحة في دارفور أصلاً).
حيث قال – نصاً: (لا أرغب هنا سوى الوقوف عند مسألة أو أخرى في رده لا تتعلَّق بخلافه مع رشا بل بمآخذي أنا نفسي على مقالته).
كتب عبد الله علي إبراهيم هكذا بدون لقب (دكتور)، ولكن لغة ومحتوى المقال تشيء عن هويته، مما جعلني أعتقد إن الكاتب هو الدكتور/ عبد الله علي إبراهيم المعروف. ولكني الآن أرد على (عبد الله على إبراهيم) حسب ما قرأت.
بعد إطالة في الحديث و(اللولوة) – أخيراً ذكر (عبد الله) إن (وقفته عند ردي) جاءت لمآخذه على مقالي الذي إستنكرت فيه تبنى رُوَّاد الحركة الوطنية الهوية (العربية الإسلامية) للسُّودان دون غيرها من الهويات الأخرى .. !!. ولقد أثار (عبد الله علي إبراهيم) في مسعاه لنقد مقالي غُباراً كثيفاً لحجب الرؤية – حتى لا تدرك العامة مركزية قضية الهوية ودورها في الصراع الآيديولوجي الدائر في البلاد، والذي كلَّف السُّودان فقدان ثلث مساحته وسكانه وموارده. بل، وبالإضافة إلى كل ذلك ، أشعلت – قضية الهويه – نيران الحروب في كل أطراف ما تبقَّى منه كـ(جغرافيا).
وفي مسعاه لتبرير قرار (إسماعيل الأزهري) فرض وإلباس الهوية العربية الإسلامية للدولة، تدثَّر (عبد الله) بالأكاديمية مُقتبساً ما جاء فى كتاب (بنيدكت أندرسون) – أحد مُنظِّري (المركزية الأوربية) الذين يقوم بعضهم بتحليلات ترتكز على مُعطيات تاريخ وماضي أوربا دون علم، أو الإطلاع على ما يجري الآن من (صراعات هوية) في الهوامش – وخاصة في أفريقيا وآسيا.
كُنَّا سنحترم قرار الأزهري و(مجايليه) بخصوص إدعاء (الهوية العربية) لو كان هو في مكان (صدَّام العراق) أو (أسد سوريا) .. رغم ما نشاهده اليوم من إحتدام لصراعات بسبب الهوية في العراق وسوريا معاً، سواء كانت عرقية (أكراد، أرمن، كلدانيون، آشوريون، آراميون، يزيديون ..الخ ) من جهة – أو دينية (سُنَّة، شيعة، نقشبندية، … إلخ). وهذا دليل على عدم صحة قرارات التعميم الفوقية في مسأئل الهوية.
ما كتبه (عبد الله) يعكس تجذُّر داء النقل والتقليد وتقييد العقل عند البعض .. وهو الذي أورد السُّودانيين موارد الهلاك .. حيث لا زال مفكري وأكاديميي الدَّولة السُّودانية يحفظون ويسمعون (مُغمضي) الأعين وترفض أبصارهم التملي في حقائق الواقع الشاخصة أمامهم. ويبدو أن (عبد الله علي إبراهيم) لم يحظَّى بفرصة للسفر والتِّجوال في أقاليم السُّودان المُختلفة ليُشاهِد ما يتحدَّث عنه الناس من وجود (تنوُّع وتعدُّد عرقي، ثقافي، لغوي، وديني) .. بل تعدُّد حتَّى على مستوَى المناخ (سافنا غنية، سافنا فقيرة، شبه صحراء، صحراء، أمطار شتوية بالبحر الأحمر، مناخ بحر أبيض متوسطي في أعالي جبل مرة .. إلخ). يبدو أنه قد قضَى حياته غارقاً بين سطور الكتب، مُتنقلاً بين (خرطوم إتنين ومكتبة المين بجامعة الخرطوم) ومنها إلى المهاجر للسكن بشقق وأبراج وعمارات (منهاتن – وفيرفاكس) الفاخرة بأمريكا.
أما الزعيم الأزهري وأبناء جيله – فلا منطق يسند قرارهم ذاك، خاصة وإن تصريحه جاء عشية إعلان نتائج أول وآخر إحصاء سكاني ذو مصداقية في السودان والذي تم إعلان نتائجه عام 1956. حيث أوضحت نتائج الإحصاء إن الذين تم إحصائهم (69 % منهم سجلوا أفارقة / و 31 % منهم سجلوا ك”عرب”). وهذا بالطبع رغم عدم دقة مصطلح “عرب” في السُّودان. وأيضاً اذا قرَّرنا تجاهُل التركيبة الديموغرافية للعاصمة (الخرطوم) آنذاك.
وللمُفارقة قال (عبد الله) : (فصدف إنني كنت في حركه للماركسية السُّودانية سبقت “الحلو” في نقد تخيُّل طلائع الخريجين للوطن عربياً ومُسلماً حصرياً). وهذه هي المصيبة الأكبر .. لأن البديهي أن أي ماركسي من المفترض أن يكون قد إطلع على رؤية وأطروحات (لينين) حول مسألة القوميات (الهويات) أو ما يعرف بـ(نظرية لينين) حيث كتب في مُذكِّراته:
( … ولهذا السبب نقول أن الأممية من جانب الأمم القاهرة أو الأمم “العُظمَى” كما تُسمَّى عادةً – رغم أنها عظيمة فقط في عنفها وبغيها – يجب ألا تقتصر على مُلاحظة المساواة الشكلية بين الأمم بل يجب أن تُشير إلى سياسة التفرقة واللامساواة التي تنتهجها الأمة القاهرة أو الأمة العظمى والتي تؤدي عملياً إلى التفرقة وعدم المساواة .. إن ما نحتاجه ليس مُجرَّد مُساواة شكلية. وإنما يجب علينا بطريقة أو بأخري أن نعوِّض لغير الروسيين الثقة التي تعوزهم، بسبب ما عانوه في حياتهم من شك وإمتهان من جانب حكومة الأمة “المُتسلِّطة” التي خضعوا لحكمها).
ونتيجة لتجاهل (إستالين) أطروحات لينين حول (مسألة القوميات) تفكَّك الإتحاد السوفيتي بجلالة قدره في العام 1991. ولسنا فى حوجه للتذكير بما فعلته مسألة القومية في السُّودان و أدت لإنفصال جنوبه. هذا دون إغفال لما يجري الآن في أطرافه من صراعات أعمق لا تقل شأناً عن ما أدَّى إلى إنفصال الجنوب.
إستشهد (عبد الله) في تبريره لعُنف الدَّولة والأقلية (ذات الشوكة) وحقَّها في مُمارسة الإبادة والقتل والسحل والتَّطهير العِرقي للآخر المُختلف ثقافياً، بتجربة (فرنسا) في عملية (بناء الأُمة) في القرون الوسطى. حيث قال :
(خذ عندك بلد النور فرنسا، فكان الفرانك الجيرمانيون هم من بنى فرنسا وضموا إليها شعب البريتاني الغالي، الذي كان يحتل غربي فرنسا في 1532، و أروه نجوم القائلة ثقافياً. فحرمهم الفرانك ذو الشوكة إستعمال لغتهم، حيث حظروها في المدارس ونصَّبوا اللافتات التي تحذِّر من الحديث بها. ونشأت منذ ذلك الحين حركة “هامش ” بريتاني – تُغنِّي: بغير اللغة البريتانية، ليس ثمة بريتاني) – إنتهى الإقتباس.
ولكن، على (عبد الله علي إبراهيم) الإطلاع على بحوث اليونسكو حول اللغات، ليجد إنه ما زالت هناك تسعة لغات مُتميِّزَة ومُختلفه تتحدَّثها أقوام داخل فرنسا الآن، ومُعترف بها من قبل الدَّولة – فكفى تضليل.
أجدني مُندهشاً من هكذا عقلية ماضوية مُتحجِّرة، ومشاعر عدوانية غاية في القساوة تجاه الآخر المُختلف ثقافياً كشف عنها عبد الله .. عقلية تُبيح (الإبادة الحسِّية، القتل، السحل، التشريد، الإحتلال، .. وكل إنتهاكات حقوق الإنسان) في حق الآخر المختلف ثقافياً .. في القرن الحادي والعشرين .. وفي إستخفاف تام بكل التطورات الإيجابية التي حقَّقتها شعوب العالم في مسيرتها الصاعدة على مدارج الرقي، الحداثة، درجات أعلى من الأنسنة، بل الوصول لقطيعة تامة وإدانة لمُمارسات القرون الوسطَى الداعشية المُتخلِّفة. فلقد تم تبنِّي المواقف التقدُّمية للبشرية بتضمينها في مواثيق الأمم المُتَّحِدة لحقوق الإنسان والحريات العامة. والآن كيف يتسنَّى لنا تصنيف ووصف شخص بهكذا عقلية قاسية وباردة تعيش بين ظهرانينا في هذا القرن !!.. وهي لا تزال تُبشِّر وتُبرِّر وتُحرِّض على القتل والإبادة والتطهير العرقي و(نجوم القايلة) ..!! بإسم بناء أمة (مُتخيَّلة) لا وجود لها إلا في ذهنه..!!. وهو يفعل ذلك وكأنَّه لم يسمع بالنظريات الحديثة التي وصلت إليها الإنسانية بعد تجارُب مأساوية كثيرة كـنظريات (العقد الإجتماعي) .. ( الوحدة في التنوُّع) .. (قبول الآخر وإدارة التنوُّع) .. إلخ..
إن الذي يؤكِّد خطل ما ذهب إليه (عبد الله) هو حادثة الثاني من أبريل 2023 بمصر بعد المُباراة الكروية بين فريقي الأهلي المصري والهلال السُّوداني وصراحة (الأشِقَّاء) المصريون في التعبير عن رأيهم فيما يتعلَّق بهوية السُّودانيين وقدرهم – بموازين ومقاييس العروبة وإعترافيتها. علماً بأنها ليست الحادثة الأولى التي يفصح فيها (الأخوة العرب) عن رأيهم في (عروبة) عبد الله علي إبراهيم وادِّعاءاته التي لا تقف على ساقين.
ماذا يُضيرنا لو إكتفينا بسودانيتنا وجبلتنا التي خلقنا الله عليها ؟. الآن يتحدَّث النيجيريون والغانيون اللغة الإنجليزية ولكنهم لم يتبنَّوا الأنجلوساكسونية. فما سبب الخلط الذي حدث للسُّودانيين بعدما تعلَّموا اللغة العربية مؤخَّراٍ كلغة تواصُل وسوق وعمل؟ خاصة وإن أحد المراجع أكَّدت إنه عندما غزا الجيش المصري السُّودان في عام 1820، كان يستعين بمترجمين للتعامل مع الأهالي على طول ضفتي النيل الواقعة شمال الخرطوم، لأن إستخدام اللغة العربية كان قاصراً على بلاطات المكوك فقط ..!!. فهذا كان هو حال الشمال وقتها، فما بالك ببقية أقاليم السُّودان التي لا زالت أغلبية شعوبها – حتى اليوم – مُحتفِظة بلغاتِها وثقافاتها .. !! رغم مرور مائتي عام على الغزو.
إن تستُّر (عبد الله) خلف غلالات اللغة والغامض منها بالأخص لصرف الأنظار عن أُمَّهات القضايا التي تسبَّبت في الأزمة والتعاسة للمواطنين السُّودانيين، لن يغني عن الحق في شيء. وإن التدهوُّر والتراجُع الذي لازم البلاد منذ إستقلالها أمنياً وسياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً حتى صار السُّودان بلداً طارداً لبنيه – يرجع لمثل هذه العقلية والمواقف المُتزمِّتَة لصُنَّاع الرأي.
فأما أن نتعلَّم من التجربة المريرة الفاشلة التي خاضها السُّودانيون منذ خروج المُستعمر الأجنبي بسبب هيمنة مثل هذه العقلية، أو أن تستمر المُعاناة والتَّدهوُّر ولا يكون (السُّودان .. سوداناً) بالصورة التي أرادها وخطَّط لها (عبد الله) ومُشايعيه.
وخالص التحايا لك .. (عبد الله علي ابراهيم) ..
لك التحية يا كمرد كان الرد كافيا وشافيا ولا اعتقد سيجد عبد الله ما يدعوه للرد علي مقالك الواقعي جدا. ولقدام لسد كل الثغرات.النضال مستمر والنصر اكيد باذن الله.