
ظهور الحلو المباغت بمؤتمر ميثاق السودان التأسيسي بنيروبي …زلزال سياسي يربك الحسابات ويعيد رسم المعادلة السودانية
✍️🏽 لنا مهدي
كمندر “عبد العزيز آدم الحلو” رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان / شمال في خطابه أمام القوى السياسية والمدنية في نيروبي لم يكن مجرد قائد ميداني يتحدث عن أزمة راهنة بل كان مفكراً يعيد تعريف الصراع السوداني من جذوره إلى فروعه يتحدث عن تجريد الدولة من آلة العنف كخطوة مركزية نحو بناء السودان الجديد مشيراً بذلك إلى جوهر الأزمة التي لطالما استمرت تحت مظلة الهيمنة العسكرية والأمنية هذا الطرح يحمل في طياته تحولاً جذرياً في مفهوم السلطة والشرعية فبدلاً من دولة تحتكر القوة وتفرض رؤيتها قسراً يرى الحلو أن السلطة والسيادة يجب أن تكون للشعوب السودانية مجتمعة لا لنخبة بعينها فهذا التوجه يتجاوز الأطر التقليدية للحكم في السودان ويضع أساساً لدولة مدنية ديمقراطية حقيقية
لم يكن ظهور عبد العزيز الحلو المفاجئ في فعاليات مؤتمر ميثاق السودان التأسيسي في قاعة مركز كينياتا الدولي للمؤتمرات مجرد حضور رمزي بل كان بمثابة زلزال سياسي أعاد خلط الأوراق وأربك الحسابات داخل معسكر القوى السياسية وحركات الكفاح المسلح إذ حمل حضوره رسالة مزدوجة أولاً تأكيده على أن مشروع السودان الجديد لم يعد مجرد شعارات بل بدأ يتحول إلى واقع سياسي يتطلب التعامل معه بجدية، وثانياً وضع القوى الأخرى أمام اختبار حقيقي لمواقفها من القضايا الجوهرية التي ظلت عالقة لعقود فتلك القوى وجدت نفسها مضطرة لإعادة تقييم تحالفاتها وخياراتها، بينما أبدى معسكر الحرب ذعراً وتوجساً واضحاً خشية أن يتحول هذا الظهور إلى بداية مرحلة جديدة من إعادة توزيع موازين القوى في السودان فظهوره هو لحظة تاريخية تضع حدّاً لهيمنة المركز وكان من الواضح أن هذا اليوم لن يكون مجرد ذكرى سنوية بل نقطة تحول فارقة لن تعيد فقط رسم خارطة الصراع السياسي في السودان بل رسم مستقبل السودان برمته.
في حديثه عن رحلة البحث عن السلام يعكس الحلو خيبة الأمل في مسارات التفاوض السابقة والتي لم تثمر سوى اتفاقيات هشة تعيد إنتاج الأزمة بدلاً من حلها إذ يرى أن المشكلة لم تكن في الوساطات أو أماكن التفاوض بل في البنية الأساسية التي تنطلق منها هذه الاتفاقيات التي غالباً ما تكون مبنية على المصالح الضيقة للنخب وليس على رؤية كلية تستوعب كافة المكونات السودانية وهنا يأتي تأكيده على أن الحرب الأخيرة كشفت جوهر الصراع حيث لم يعد مجرد صراع على السلطة بين نخب بل أصبح صراعاً بين مركز مهيمن وهامش ظل مقصياً ومهمشاً لعقود طويلة
ما يلفت الانتباه في خطاب الحلو هو تحليله العميق للبنية الهيكلية للصراع السوداني إذ يستدعي التاريخ السياسي والاجتماعي ليؤكد أن ما يحدث الآن ليس وليد اللحظة بل امتداد لسياسات الإقصاء والتهميش منذ الاستقلال فهو يرى أن النظام السياسي في السودان تأسس على منطق التفوق العرقي والثقافي والديني ما جعله غير قادر على استيعاب التعدد الهائل في البلاد هذا الطرح يضعه في مواجهة مباشرة مع القوى التي ما زالت ترى في الدولة السودانية شكلاً أحادياً من الهوية ويرفضون الاعتراف بالتعددية كقيمة يجب أن تنعكس في السلطة والمناهج التعليمية والسياسات العامة
في تناوله لمسألة التعدد يعيد الحلو تعريف الهوية السودانية ليس باعتبارها هوية عربية إسلامية صرفة كما كانت الأنظمة المتعاقبة تصر على تصويرها بل كهوية متعددة الإثنيات والثقافات والأديان كما يرى أن جوهر الأزمة يكمن في الفشل في إدارة هذا التعدد بل وتعمد استخدامه كأداة لإقصاء الآخر عبر آليات مثل الدين والقبيلة والجهوية ؛ ويذهب أبعد من ذلك حين يصرح بأن هذه الأدوات ليست سوى موانع هيكلية صممت لإبعاد الآخر عن المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي هنا يتجلى الطابع الثوري في خطابه إذ لا يطالب فقط بإنهاء الحروب وإنما يدعو إلى إعادة هيكلة الدولة بالكامل على أسس جديدة
يصل الحلو إلى ذروة خطابه عندما يطرح فكرة العقد الاجتماعي الجديد الذي سيكون الأساس للدستور القادم هذه الفكرة لا تعني مجرد إصلاحات قانونية أو تعديلات سياسية بل تعني تغييراً جذرياً في مفهوم الدولة نفسها فهو يدعو إلى دولة قائمة على الاعتراف المتساوي بكل المكونات السودانية دون استعلاء ثقافي أو ديني أو عرقي هذا الطرح يضرب في صلب أزمة السودان التاريخية حيث لم يكن التهميش مجرد نتيجة عرضية للسياسات بل كان جزءاً من بنية السلطة نفسها لذا فإن أي تغيير حقيقي لا بد أن يكون جذرياً وعميقاً
بعبارة أخرى خطاب الحلو ليس مجرد بيان سياسي بل هو بمثابة رؤية متكاملة لإعادة بناء السودان على أسس جديدة بعيداً عن المركزية القهرية التي ظلت تحكم البلاد لعقود فهو يرفض الإصلاحات السطحية التي تبقي على جوهر الأزمة بل يدعو إلى تغيير شامل يعيد تعريف السلطة والثروة والهوية الوطنية في ضوء الاعتراف الحقيقي بالتعددية السودانية هذا الخطاب يمثل تحدياً هائلاً للقوى التقليدية التي اعتادت على حكم السودان وفق معادلة الإقصاء لكن في ذات الوقت يفتح الباب أمام نقاش جاد حول مستقبل السودان ومآلاته
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.