ضرورة إصلاح القطاع الإقتصادي في الدولة السودانية“نموذج إعتماد النظم البنكية التقليدية“(1-3)
بقلم: مقبول الامين (كوكامي)
تلعب البنوك دور هام و محوري في تطور و نمو الإقتصاد السوداني, و ترجع أهمية البنوك في النشاط الإقتصادي إلى أنها أحد الدعامات الأساسية للإقتصاد القومي حيث تلعب البنوك دوراً هاما في تسهيل المعاملات الإقتصادية و التعاملات المالية فالبنوك تؤدي دوراً هاماً في تمويل عمليات الإستثمار بشقيها العام و الخاص. فإلى جانب قبولها لودائع القطاعين الخاص و العام و مساهمتها المباشرة في شراء الحصص و الأسهم في الشركات المحلية, تقوم المصارف بممارسة دورها الاساسي في تمويل عمليات الإستثمار من خلال ما تقدمه للإقتصاد القومي من تسهيلات إئتمانية و قروض مصرفية موجهة لكافة القطاعات العاملة في الدولة, فالبنوك تؤدي دوراً أساسياً في التقدم الإقتصادي للأمم.
و تزداد أهمية دور البنوك بشكل كبير كلما تطور الإقتصاد في بلداً ما. كما تقوم البنوك بتمويل عمليات إقامة المشاريع الإستثمارية المجدية و توفير القروض و التمويلات اللازمة لتأسيس المشروعات الصناعية الصغيرة و المتوسطة و متناهية الصغر, الامر الذي يؤدي إلى زيادة الكفاءة الإقتصادية من خلال توظيف الموارد غير المستغلة في أفضل إستخدام ممكن.
و تتمثل نوعية البنوك او المصارف التقليدية في البنوك التجارية الاستثمارية و البنوك المتخصصة, و تدعم القطاع المصرفي بالمتانة و القوة المالية و خاصة في ما يتعلق بنسب السيولة و الربحية و الملائمة المالية.
* إستراتيجية الجبهة الإسلامية للهيمنة الإقتصادية :
بعد المصالحة في 1977م تحالف حزب الجبهة مع السلطة السياسية آنذاك، وقد إستطاع هذا الحزب إنشاء مؤسسات مالية منها ما يخضع إلى إشراف توجيهي من الحزب أو يمثل الحزب فيه عناصر قيادية تعمل على إدراجة في إستراتيجية العمل الإسلامي العام .
لقد بنى حزب الجبهة مؤسساته المالية والإقتصادية من خلال أنشطة البنوك والشركات المالية من تأمين وإستثمار وغيرها. وقد بدا العمل من خلال بنك فيصل الإسلامي الذي أُنشئ في 1977م . لتمارس هذه المؤسسات المالية أنشطتها في ظل شروط الإستقلال النسبي عن جهاز الدولة. وهو إستقلال سيلعب دوراً سياسياً كبيراً وخطيراً كما سنرى لاحقاً. فقد أستطاعت هذه المؤسسات المالية إستثمار الإستقلال النسبي الذي تتمتع به في جذب المدخرات المحلية وأموال البترودولار وتوجيهها لمصالح شريحة من ذوي الإنتماء السياسي المحدد. وإستطاعت هذه المؤسسات تكوين شريحة من الرأسماليين المرتبطين عضوياً بالحزب. فقد ” وجه الحزب عدداً من كوادره لدخول دنيا المال والأعمال والإستثمار مما ادى إلى إذدهار قطاع الإسلاميين في هذه الدنيا الجديدة وأصبح للحركة وجود فعال وسط التجار والمستثمرين ورجال العمال الذين أستفادوا من علاقات الحركة الإسلامية وتسهيلاتها وتجمعات مؤيديها في الخليج وغيره”.
لقد لعبت هذه المؤسسات المالية دوراً كبيراً في تخصيص القروض والإعتمادات. وعلى الرغم من سيطرة الحكومة من خلال البنك المركزي، إلا أن هذه البنوك كانت ومازالت تتمتع بإستقلال نسبي مكنها من تحديد شروط تفضل مصالح طبقة معينة داخل الطبقة الرأسمالية. وتمكنت من إعادة تشكيل النخبة وترتيب المصالح الإقتصادية في الواقع السوداني. فقد كانت لوائحها الخاصة الداخلية غير خاضعة للبنك المركزي . ومع أن البنك المركزي يحدد بشكل عام سقوف أسعار الفائدة وتخصيصات القروض إلا أن لهذه المؤسسات موجهات تصدر من الحركة الإسلامية لتوجيه إستثماراتها وقروضها تجاه عدد محدد من المنتمين سياسياً .
ومع تطبيقها لمعاملات مستحدثة، بدت هذه المؤسسات أكثر استقلالية من بقية الجهاز المالي في الدولة السودانية . وقد ادى هذا الإستقلال إلى تمكينها من جذب المدخر والمستثمر الذي يسعى لضمان التعامل خارج نطاق بيروقراطية الدولة كلما بقيت هذه المؤسسات في نظر المدخر أو المستثمر ذات ميزات ايجابية و محترفة ومنفصلة عن جهاز الدولة كلما أصبحت مثالا ً للنجاح وجذب المدخرات.
ويعتبر بنك فيصل الأكثر ديناميكية بين هذه المؤسسات وذلك بفضل الدعم الخارجي الذي يتمتع به منذ نشأته وحتى وقت قريب. وكذلك بفضل الإمتيازات التى أجزلها جعفر نميري لهذه المؤسسات بشكل عام وبنك فيصل بشكل خاص، مما جعلها ذات أفضليات جيدة مقارنة بالبنوك الأخرى (خاصة الحكومية).
وعلى هذه الخلفيات توسعت المؤسسات المالية التابعة للجبهة للإسلامية وأصبحت أكثر ديناميكية مستفيدة من شروط جاستقلالها النسبي عن جهاز الدولة . كما إستفادت هذه المؤسسات من السياسات الإقتصادية التي طبقت في ذلك الوقت. وكانت هذه السياسات بمثابة الشروط العامة لتكوين شريحة من الرأسمالية الطفيلية مندمجة عضوياً في الحزب.
وبالإضافة لذلك فقد كانت البنوك التابعة للجبهة ذات صلة وثيقة بالشركات الإسلامية الكبيرة متعددة الجنسيات مثل دار المال الإسلامي ومجموعة البركة وغيرها. فمنحت هذه الصلة العضوية بالرأسمال المتعدد الجنسيات هذه البنوك الأفضلية أيضاً في منافسة البنوك الأخرى التي أنشأتها الأحزاب الأخرى وأدت إلى تقويتها وفي النهاية هيمنتها على قطاع التمويل والتجارة.
دفعت الحركة بعدد من كوادرها إلى هذا الحقل الجديد. وتدريجياً أصبحت الجبهة تمتلك كوادر كثيرة تعمل في المجالات الإقتصادية المختلفة خاصة تلك القطاعات غير المنتجة . غير ان الملفت للنظر أن أغلب قيادات الجبهة، خاصة اللجنة التنفيذية، وهي أعلى هيئة في حزب الجبهة الإسلامية، تتكون من كبار الرأسماليين الطفيليين مما يعني ان هناك إندماجاً عضوياً لهذه الشريحة في الحزب.
لقد إستطاعت الجبهة من خلال مؤسساتها المالية وكوادرها المدربة وأعضائها الذين يشكلون قسماً عضوياً في شريحة الرأسمالية الطفيلية من السيطرة على مفاصل الإقتصاد الوطني . فقد إكتسبت خبرة طويلة منذ 1978م في هذا المجال وتجاوزت بذلك كل الأحزاب السياسية الأخرى في جميع المناحي مستندة على قوتها المالية الإقتصادية. ففي مجال الإعلام مثلاً كان أكثر الأحزاب إمتلاكاً لوسائل إعلام خلال الفترة الديمقراطية يمتلك صحيفتين على الأكثر ، في حين كانت الجبهة الإسلامية تمتلك أربعة صحف علنية أستطاعت من خلالها شن حملات إعلامية ضد كل السياسات التي لا تسير وفقاً لخطها. كما استطاعت خلال الحملة الإنتخابية أن تمارس الفساد بشراء الأصوات وتحركها عبر الأقاليم المختلفة وحتى مع الموالين لها خارج السودان. على كل فقد يسرت لها المقدرة المالية تجاوز كل الأحزاب السياسية. وهكذا أصبح لهذه المؤسسات أبعاداً سياسية.
السياسات الإقتصادية ومصالح الطفيليين :-
تمثل السياسات الإقتصادية كما ذكرنا آنفاً الشروط العامة التي تعمل في إطارها الشرائح الطبقية المختلفة. كما أن هذه السياسات تعبر عن المصالح الحقيقية، للتحالف الحاكم في البلد المعني. وبهذا المعنى ” ما هي السياسات التي خدمت مصالح رأس المال الطفيلي”؟.
سنعتمد في هذا السياق على شهادات عدد من المؤسسات والأشخاص الذين لهم خبرة ودراية بالواقع السوداني خاصة والسياسات الإقتصادية عامة .لقد أورد د. عبد القادر في معرض إستعراضه ونقده لبرامج صندوق النقد الدولي الذي بدأ تطبيقة منذ 1978م بشهادة صندوق النقد نفسه والتي تتلخص شهادة الصندوق في الآتي:-
– أدى تخفيض الجنيه إلى العديد من النتائج السلبية أهمها الإرتفاع الحاد في أسعار المستوردات والمضاربة .
– إنحازت هذه التخفيضات لصالح المجوعات التي تعمل بالتجارة.
– تحول الدخل من المستهلكين والمنتجين إلى التجار.
– أدت موجة المضاربة إلى تفاقم حالة عدم التوازن الخارجي.
– أدت موجة المضاربة إلى إرتفاع سعر صرف الدولار في السوق الأسود.
هذه هي النقاط الأساسية لصندوق النقد الدولي الذي طبق أول برنامج للتكيف الهيكلي في السودان في 1978م عندما كانت الظروف السياسية والإقتصادية مؤاتية لذلك، وبمشاركة حزب الجبهة الإسلامية.
أما البنك الدولي فيقول “منذ عام 1978م فإن تخفيض سعر صرف الجنية السوداني كان جزءاً اساسياً من وصفة سياسات الإنعاش. وقد كان هدف تخفيض سعر الصرف هو إزالة المغالاة في قيمة العملة . إلآ ان هذه الجهود قد فشلت لسوء الطالع.
فعقب كل تخفيض في سعر صرف العملة ، قضى لسياسات التي عززت رأس المال الطفيلي :-
1- تحرير التعامل في النقد الأجنبي.
2- تسهيلات مصرفية أنتقائية .
3- سوق أسود للعملة الأجنبية .
4- مدخرات المغتربين( أ – أرصدة أستخدمت للإستيراد – ب- أرصدة ما تزال بالخارج ).
5- إستيراد بدون تحويل قيمة .
6- سوق أسود للسلع.
7- مراكمة وإكثار نقدي.
توضح الإجراءات أعلاه أن تحرير التعامل في النقد الأجنبي والذي ترافق معه تخفيض قيمة الجنيه السوداني قد شكلا الخطوة الأولى على طريق تعزيز رأس المال الطفيلي . فقد فتحت تلك الخطة الباب للمضاربة في العملة الأجنبية وإتجاه المدخرات إلى القطاعات غير المنتجة. ودعمت تلك الإتجاهات التمويلات و التسهيلات المصرفية الإنتقائية التي قامت بها البنوك حيث إتجهت أغلب تمويلات البنوك لدعم الأنشطة قصيرة الأجل. وفي مجالات المضاربة مولت بنوك محددة العاملين في مجال النقد الأجنبى .
وبعد توطد السوق الأسود. أصبحت دورة التداول محصورة في بعض الأنشطة وبمعنى آخر فإن إلغاء تحرير التعامل في النقد الأجنبي من قبل الدولة لن يؤثر على الأنشطة الجارية في هذه السوق حيث أصبحت خارج إطار القنوات الرسمية ولا تستطيع يد الدولة أو لا ترغب في الوصول إليها .
أما النشاط (3) فيوضح سيطرة السوق الأسود على العملة الأجنبية , فقد أستطاع المسيطرون على هذا السوق فتح حسابات بالنقد الأجنبي أولاً وفتح مكاتب في دول الخليج لشراء مدخرات السودانيين العاملين بالخارج. وتم من خلال هذه المكاتب استنزاف مدخرات ضخمة من خلال إستلام العملات الأجنبية في الخارج وتسليم المغترب بالعملة السودانية داخل السودان. ولجذب هذه المدخرات خارج إطار القنوات الرسمية يدفع تجار السوق الأسود سعراً أعلى ، مما ادى إلى فقدان الثقة بالعملة الوطنية، كما ادى إلى زيادة معدلات الضغط التضخمي في الداخل. وإذا ما حصرنا عددية السودانيين العاملين بالخارج، ومنذ الثمنينات وحتى الآن، فإن هذه الحصيلة تبدو ضخمة جداً وتتزايد مع مرور الوقت. ومرة أخرى لعبت البنوك المسماة إسلامية دوراً كبيراً في عملية الإستنزاف هذه. ويجب التنويه إلى ان النشاط (4) ينقسم إلى قسمين. فجزء من مدخرات المغتربين تم الإحتفاظ بها في شكل أرصدة في البنوك في الخارج (في شكل ودائع) . اما الجزء الثاني فقد أستخدم في تمويل الإستيراد بدون تحويل قيمة كما يعكسه النشاط رقم (5).
فقد ضُغطت الشريحة الطفيلية وفي فترات متباينة للسماح لها بالاستيراد بدون تحويل قيمة. وقد كان إنتهاج هذه السياسات هو بمثابة الإعتراف الرسمي بهذه الأرصدة التي تُعتبر جزءاً من رؤوس الأموال المهربة للخارج – وقد منحت سياسة الإستيراد بدون تحويل قيمة هوامش ربح عالية جداً إلى درجة أن العديد من الرأسماليين حاولوا اللحاق بالركب،إلا أن السوق في الخليج أصبح شبه محتكر من قبل شبكات المكاتب الوكيلة التابعة لقيادات الجبهة الإسلامية هى الأقوى والأوسع إنتشاراً. أدت أيضاً سياسات الإستيراد بدون تحويل قيمة إلى تخفيض قيمة الجنيه من خلال الهوامش التي يحاول الطفيليون منحها للمغتربين بغية إغرائهم.
أما النشاط (6) في حلقة رأس المال الطفيلي فهو السوق الأسود في السلع الإستهلاكية والتي هيمن عليها رأس المال الطفيلي من خلال عدد من الأساليب التي ذكرناها آنفاً . وقد جني الطفيليون أرباحاً ضخمة جداً من خلال هذه السوق . ويرتبط النشاط (7) بنهاية دورة رأس المال اي الإكثار النقدي والعودة إلى الدورة من جديد. أما الإرتباط بين النشاط (7) و (2) فهو إقتسام أرباح بين البنوك والمقترضين ورد أصل القروض.
ويشكل النشاط (2) اي التسهيلات التي قدمتها البنوك الإسلامية دوراً هاماً في إعادة تشكيل النخبة وخاصة ما يمكن أن نطلق عليه الطغمة المالية. فقد كانت هذه التسهيلات المصرفية إنتقائية جداً، يتم تقديمها بعد تزكية المقترض من قبل إثنين من قياديّي الحزب , وهذه الممارسة كانت مستمرة وإلى الآن. فقد وجهت هذه البنوك قروضها وسلفياتها إلى مجموعة من كوادر الجبهة الإسلامية. وقد أصبح هؤلاء مع مرور الوقت ، شريحة مسيطرة ومهيمنة .
وتواكب مع هذه السياسات المصرفية الإنتقائية إلغاء الرقابة على الأسواق، الذي أتاح للطفيليين إمكانية خلق مخزونات سعلية وتجفيف الأسواق ودفع الأسعار وجنى هوامش أرباح إحتكارية – لقد لعبت هذه التسهيلات المصرفية التي فضلت تمويل عمليات المضاربة والتجارة وتخزين السلع وغيرها دوراً كبيراً في تشكيل هذه الشريحة والتي أصبحت ذات نفوذ سياسي قوي في أواخر الثمانينيات.
وقبل ان ننتقل إلى النقاط الأساسية لا بد أن ننوه إلى الفائدة التي جنتها شريحة رأس المال الطفيلي الأسلاموي من الدعم الخليجي، سواء كان فردي أو حكومي. ذلك الدعم الذي تدفق في شكل أموال زكاة ودعم تبشيري ودعوى وغيره والتي سمح نظام نميرى بدخولها للسودان بدون ضوابط. حيث صبت هذه الأموال في مواعين الجبهة الإسلامية والتي وظفتها من خلال كوادرها في مجالات المضاربة والتخزين والإحتكار وغيرها. أدت هذه الأموال ، التي لا يوجد حصر لها إلى تقوية وتعزيز المؤسسات المالية التابعة للجبهة.
لقد أدت هذه الحلقات المتصلة والمترابطة من الأنشطة والتي تعبر عن سياسات إقتصادية معيبة، ذكرناها في حينها، إلي تشديد قبضة رأس المال الطفيلي على الإقتصاد السوداني. فقد أدت أنشطة هذه الشريحة إلى تقويض الجنيه السوداني ومفاقمة عدم التوازن الخارجي، وإلى إستشراء موجات المضاربة في جميع المجالات، وإتجهت أغلب الإستثمارات إلى المجالات ذات الربحية العالية وغير المنتجة. وأصبحت الجبهة مهيمنة على كل مفاصل الإقتصاد . والآن أصبح التأثير والنفوذ إقتصادي وسياسي.
نواصل …………………..
دمتم و دام النظم البنكية التقليدية