شكرا زينب إيرا.. ها قد اتسعت دائرة الوعي!

✍️ فضيلي جمَّاع

 

أو بجا داي يبانا. أ سوداني دهي – إشبونا سلامي نوكنا .. دبايوا !!

(سلام عليكم يا شعب البجا. سلام يا شعوب السودان. سلام)!

كلما أسمع لحناً أو أشاهد رقصة من شرق السودان ، أشعر بالحسرة أنّ كنزاً من ثقافات بلادنا ما يزال بعيداً عن متناول اليد. وكم سعدت حين نما لعلمي أنّ الجهود التي بذلها بعض المخلصين من أبناء الشرق قد أثمرت عن كتابة لغة (البداويت) بالحرفين العربي واللاتيني. ولأن اللغة أداة التواصل والخازن للكم الهائل من ثقافات الشعوب فإن إعادة الحرف للكثير من لغاتنا سوف يسهم في رفد السودان بمخزون معرفي هائل. سنكتشف عبر اللغة تاريخاً وفولكلورا وأساطير هي مكون أصيل من مكونات بلادنا.

 

دعاني لكتابة هذا المقال ما تداولته الأسافير في اليومين الفائتين حول حادثة تلفزيون (حكومة بورتسودان) ، إذ توعّد رئيس هيئته موظفة من شرق السودان لأنها دخلت حرم التلفزيون وهي ترتدي زياً سودانياً محتشماً ، هو الزي الشائع للنساء في شرق بلادنا. تمعنت في ثوب الشابة زينب إيرا – الموظفة بالتلفزيون. أعترف بأني ما كنت سأعرف الفرق بين هذا الزي (الكربة) وبين ما تلبسه أي امرأة من غرب ووسط وشمال السودان لو لا اللغط والزوبعة التي أثيرت حوله. على الذين يزدرون ملمحاً من المكون الثقافي لشعب من الشعوب في عصرنا، أن يعيدوا النظر في وعيهم بإيقاع التاريخ حولهم. إنّ إزدراءك لمظهر من ثقافة الآخر الذي يشاركك تراب وسماء الوطن يعني أنك تفترض في عقلك الباطن بأنك أعلى منه مرتبة. ولو طلبوا منك أن تقدم دليلاً واحداً على هذا الإدعاء لاحترت أي دليل تملك!

 

إن تفكير نخبة المركز في المشكل السوداني لم يتعد أرنبة أنف سلطات المركز التي تعاقبت على السودان – مدنية وعسكرية – منذ العام 1956م (عام رفع العلم السوداني). ساعد على تمكين هذه المركزية ضيقة الأفق نشر المعلومة عبر إذاعة وتلفزيون ام درمان. وعبر الصحافة التي تصدر حتى وقت قريب في عاصمة البلاد فقط – عدا الإختراق الباكر الذي احدثه الصحافي القدير الفاتح النور بإصداره صحيفة (كردفان) من مدينة الأبيض. أليس من المضحك-المبكي أن يتم تصدير أسماء أندية كرة القدم في ام درمان والخرطوم عبر إذاعة ام درمان وتلفزيونها والصحف إلى رقاع السودان الواسعة ، فنجد (هلال / مريخ – جوبا) و(موردة الأبيض) وقس على ذلك مدن أقاليم السودان المختلفة ، لا نستثني سوى بعض اندية كرة القدم في مدن مثل كسلا (حيث الميرغني والتاكا) وفي بورتسودان (حي العرب ودبايوا) و(ساردية) في شندي! وكأن الأسماء قصرت على الهلال والمريخ والموردة فقط. لكنه المركز الذي يملك وسائل الإعلام يومها ويعرف كيف يديرها!

 

وبنفس الفهم الضيق الذي يصادر حق الملايين في الهامش العريض في إبراز هُويتهم المتمثلة بدءاً بالثقافة (اللغة والفولكلور والزي والفنون إلخ..) كان تركيز نخبة المركز التي ترسم سياسات هذا البلد على مشاريع تنموية أهملت جل بقاع السودان. من أكبر عيوب دولة المركز (الآيلة للسقوط) أنّ نظرة مثقفيها وساستها للآخر المختلف قاصرة على التنميط والفهم الدارج للوطن والمواطنة. ومتى تحدث الآخرون عن هويتهم وأحقيتهم المتساوية في تراب هذا الوطن جرى نعتهم بالعنصرية والجهوية والقبلية وهلم جرا. على أنصار دولة 56 التي تلفظ أنفاسها الآن أن يحسبوا خطاهم أينما تحركوا. فدائرة الوعي تتسع كل يوم!

 

من حق زينب إيرا أن تواجه مدير تلفزيون بورتسودان بهذا الكبرياء والشموخ ، وهو يزدري ثوبها السوداني الأصيل (الكربة)- ثوب ارتدته قبلها زوجات وبنات وحفيدات المقاتلين الذين دوخ بهم الأمير عثمان أبوبكر دقنة جيش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك . إذ كتب عنهم شاعر الإمبراطورية البريطانية روديارد كيبلنغ قصيدته الشهيرة (فزي وزي Fuzzy Wuzy). يقول أحد النقاد الإنجليز بأن كيبلينغ يصور مقاتلي البجا وهم يواجهون جيش الغزاة البريطانيين (إبان الثورة المهدية) بأنهم مقاتلون شرسون ومهرة رغم حاجتهم للأسلحة الحديثة والتدريب الرسمي!

Kipling portrays the Fuzzy Wuzzy as fierce and skilled fighters despite their lack of modern weapons or formal training.

 

من صلب هؤلاء جاءت زينب إيرا وأخريات وآخرون. وعلى ما تبقى من فتات وبقايا ليس هو سودان أمس القريب. إن وعي الإنسان السوداني بمسيره ومصيره تتسع دائرته كل يوم. والحروب التي أشعلتها نخبة المركز منذ تمرد كتيبة توريت عام 1955م حتى اليوم والتي فصلت ثلث البلاد وقتلت وشردت الملايين من أبناء وبنات الوطن، وألحقت الفقر بأكثر بلاد القارة ثراءاً وثروة.. إندلعت هذه الحروب واستمرت لعقود ليس لأن السودانيين محبين للحروب والدمار.. العكس تماماً. حدثت لأن العقل المركزي ضيق الأفق ظل ينكر على الدوام حق ملايين أبناء وبنات هذا الوطن في التساوي في الحقوق والواجبات. وفوق ذلك كله كانت الهوية – هذا المعطى الوجودي الهام في حياة الناس – يتم تجاهلها بل إزدراؤها. هنا مربط الفرس! ولهذا قالت زينب إيرا مرفوعة الرأس : (…إن هذا الزي هو هويتي ، ولن أتنازل عنه.)

ها قد إتسعت دائرة الوعي. لقد مضى إلى الأبد عصر سلخ جلد النساء!

 

فضيلي جمّاع

لندن

21 يونيو 2024

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.