
شكرا د. فاروق عثمان، لكن: ايعقل هذا؟ قراءة نقدية في مقال د. فاروق عثمان حول تحالف “تأسيس” والحركة الشعبيه- شمال
✍️🏽 خالد كودي، بوسطن، 23/ 3/ 2025
في ٢٣ /٣/ ٢٠٢٥، تداولت منصات التواصل الاجتماعي بكثافة مقالاً قصيراً للدكتور فاروق عثمان، وجدت فيه الدوائر الإعلامية الموالية للجيش السوداني وح؛،مة بورسودان فرصة لتعزيز خطابها المناهض لتحالف “تأسيس”، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقوات الدعم السريع. لم يكتف أنصار هذا الخطاب بتداول المقال، بل احتفوا به وكرّسوه كوثيقة تُدين – من داخل خطاب “السودان الجديد” نفسه – التحالفات الجديدة التي نشأت في خضم الأزمة السودانية المستمرة.
جاء مقال د. فاروق بلغة محبطة ومتشائمة، تتسم بنبرة تحذيرية توحي بأن مستقبل جبال النوبة والحركة الشعبية – شمال يواجه تهديداً وجودياً في حال استمرت الحركة في تحالفها مع الدعم السريع ضمن ميثاق “تأسيس”. وقد طالعت من قبل اراء متسرعة مشابهة. يمكن تلخيص الأطروحة المركزية للمقال في ست نقاط أساسية:
١/ الدعم السريع كمشروع إبادة وتمدد: يرى الكاتب أن قوات الدعم السريع – ويستخدم الجنجويد – تمثل مشروعاً متكاملاً للهيمنة على السودان، يتجاوز كونها ميليشيا مسلحة. هذا المشروع، بحسبه، يستهدف التمدد نحو جبال النوبة، ويحمل في طياته نوايا إبادة جماعية تستهدف النوبة تحديداً، سواء بالحرب أو عبر اتفاقات سياسية مخادعة، وعلى رأسها “اتفاق نيروبي.”
٢/ الإبادة كاستراتيجية: يستشهد الكاتب بهتافات جنود الدعم السريع في ساحات القتال، ويصفها بأنها تعبّر عن عداء عرقي عميق تجاه النوبة. ويخلص إلى أن دخول الدعم السريع إلى مناطق النوبة، إن تم، فلن يكون إلا تمهيدًا لمذبحة، لا تقل بشاعة عما حدث في دارفور.
٣/ حميدتي كقائد توسعي: يُقدّم د. فاروق قراءة خاصة لشخصية محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لا كقائد ميليشيا أو رجل أعمال، بل كطامح للسلطة المطلقة، أعدّ لهذه الحرب منذ سنوات، عبر إنشاء جيش مستقل، وتدريب طيارين، وتجميع ترسانة ضخمة من السلاح، بما في ذلك الطائرات المسيّرة، تمهيداً لحسم عسكري شامل.
٤/ تفكيك الدولة كغاية نهائية: يربط الكاتب بين الدعم السريع وبعض الدوائر الدولية، ويتهم الطرفين بأن هدفهما هو تقويض الدولة السودانية، ونهب مواردها، عبر إشعال الحرب لا كحالة طارئة بل كخطة مدروسة، لم يكن الاتفاق الإطاري ليمنعها، بل ربما كان جزءاً من تغطيتها.
٥/ نقد التحالف مع الحركة الشعبية – شمال: يرى الكاتب أن الجنجويد يستخدمون الحركة الشعبية تكتيكياً، تحت شعارات براقة كالعلمانية والدستور، فيما الهدف الحقيقي هو إنهاك الجيش النظامي عبر الحركة، ثم سحقها، كما حدث مع حلفائهم السابقين، على رأسهم التحالف السوداني في الجنينة.
٦/ غياب الثقة في الدعم السريع: يخلص الكاتب إلى أن الدعم السريع ميليشيا لا عهد لها، تتقلب في شعاراتها بحسب الضرورات – من الدين إلى المدنية إلى العلمانية – ما يجعل التحالف معها خطأً استراتيجياً قاتلاً، لا مبرر له.
نحن إذ نقرأ مقال الدكتور فاروق بعين فاحصة، فإننا لا نتجاهل مشروعية كثير من تحذيراته، ولا نتغاضى عن سجل الدعم السريع في مجال حقوق الإنسان، والذي يستوجب المحاسبة لا التبرير. إلا أن الطرح الذي قدّمه الكاتب – رغم صدوره عن شخصية تؤمن بمشروع السودان الجديد – يعاني من اختزال كبير، وقراءة مشوشة لمعادلات القوى الراهنة، وخلل جوهري في تحليل طبيعة الصراع البنيوي في السودان في السياق الحالي وتداعياته علي قوي السودان الجديد ومستقبل الهامش المحرر.
فالمقال ينهض على فرضية أن الحركة الشعبية – شمال، بكل تاريخها ومؤسساتها ووعيها السياسي والعسكري – انزلقت في فخ التحالف مع الدعم السريع، وستُسحق عاجلاً أم آجلاً، كما سُحق من قبلها التحالف السوداني. لكن هذه الفرضية تتناسى، أو تتغافل، عن طبيعة الحركة الشعبية كتنظيم سياسي/عسكري ذي خبرة تراكمية تمتد لعقود، خاض فيها أقسى المعارك ضد الجيش والدفاع الشعبي والمليشيات المتحالفة، وصمد أمام أعتى الضغوط الإقليمية والدولية. والحركة الشعبية بالتأكيد ليس التحالف السوداني، ولا مجال للمقاربة.
وحقيقة القول إن مجرد افتراض أن قيادة الحركة الشعبية يمكن أن تنخدع بسهولة بشعارات الدعم السريع، أو أن يُستدرج جيشها الشعبي إلى معركة تودي به، هو استخفاف لا يليق بتاريخ الحركة ولا بتجربتها السياسية والعسكرية الغنية. فالحركة التي خاضت معاركها من الجنوب إلى جبال النوبة، ومن الفونج إلى الخرطوم، لا تدخل التحالفات دون قراءة دقيقة، ولا تعقد المواثيق دون مرجعية صلبة، وهي اكثر جهة في السودان كفؤة لاي من هذه العمليات.
الخلل الأكبر في مقال الدكتور فاروق يكمن في غياب الإطار البنيوي لتحليل الصراع. إذ أن الجيش السوداني، الذي يحتفي اليوم بخصومة الدعم السريع، هو ذاته الذي أنشأ هذه القوة، وسلحها، ودعمها – ليس في عهد البشير فحسب، بل منذ حكومة الصادق المهدي في الثمانينات، عندما أشرف قادة مثل فضل الله برمة ناصر على تسليح قوات المراحيل. أليس من المفارقة أن يكون هذا الأخير من الموقعين على ميثاق يتهم بأنه غطاء للجنجويد؟
إن تجاهل هذه البنية التاريخية للصراع – حيث المركز يصنع أدوات القمع، ثم يندد بها حين تفلت من قبضته – يجعل قراءة د. فاروق قاصرة عن إدراك حقيقة أن الجنجويد أنفسهم، والدعم السريع لاحقًا، هم أبناء المنظومة التي يريد الجيش اليوم إخفاءها خلف شعارات “الشرعية” و”المؤسسة الوطنية!”
تحالف الحركة الشعبية – شمال مع الدعم السريع في إطار ميثاق “تأسيس” لا ينبغي فهمه كتطابق سياسي، بل كاستراتيجية لإعادة توجيه العنف البنيوي نحو مشروع سياسي جديد، يهدف إلى قلب معادلة السيطرة من داخلها. لم يكن التحالف تعبيرًا عن اعتقاد عشوائي وغير مدروس في الدعم السريع، بل في اهم اوجهه خطوة لحرمان المركز من احد أدواته التي يقاتل بها الهامش، وتجيرها لمسار سياسي جديد، يقوم على:
علمانية الدولة كضامن للمواطنة المتساوية
تفكيك الجيش القائم وإعادة تأسيس جيش وطني
تبني العدالة التاريخية كأفق أشمل من العدالة الانتقالية
الاعتراف بحق تقرير المصير بوصفه حجر الزاوية في بناء علاقات جديدة بين الدولة والمجتمعات
تأسيس سلطة مدنية على أنقاض المركزية التاريخية
لم تكن المبادئ التي تطرحها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال شعارات عابرة أو محض تمنيات أيديولوجية، بل هي ثمرة مشروع تحرري عميق، تأسس على رؤية فكرية دقيقة، وتجربة سياسية وميدانية صلبة. لقد صاغت الحركة هذه المبادئ في خضم واقع مأزوم، ودفعت ثمنها باهظًا في جبهات الجنوب، والفونج الجديد، وجبال النوبة، ودارفور، حيث امتزج الفكر بالفعل، والشعار بالتضحية، والتنظير بالدم. بذلك، لم تُسهم الحركة الشعبية في صياغة خطاب سياسي فحسب، بل أسّست مدرسة نضالية متكاملة تمزج بين الرؤية والتحليل، وبين البناء التنظيمي والمواجهة المسلحة، وهو ما جعلها استثناءً في التاريخ السياسي السوداني. الحركة الشعبية أكثر القوى السودانية نضجًا ووضوحًا في الموقف والأفق.
فهل يعقل، والحال كذلك، أن تكون هذه الحركة – التي راكمت وعيها من صلب المواجهة، وصاغت مشروعها على نار التضحيات الطويلة – أقل حرصًا على مبادئها من أولئك الذين يراقبون من مسافة ما؟،
إن طرح الدكتور لا يصمد أمام الحقائق التاريخية ولا أمام منطق الحركة ذاته، الذي ظل يؤكد، بلا كلل، أن النضال لا يُدار من مواقع الرفض المجرد، بل من عمق الصراع، ومن قلب مفاصل السلطة التي يجب تفكيكها لا التعايش معها.
إن الحركة الشعبية، بما راكمته من وعي سياسي، وحنكة تنظيمية، وتجربة ميدانية معقّدة وغنية، لم تتخلَّ عن مشروع السودان الجديد، بل تمضي اليوم، إلى جانب رفاقها في تحالف “تأسيس”، في تفعيل هذا المشروع ضمن سياق تاريخي بالغ التشابك والتقاطعات والتحديات. وهي لا تفعل ذلك بدافع الحنين إلى ماضٍ مثالي، بل بدافع القدرة على إعادة هندسة المستقبل انطلاقًا من وعي نقدي بما أنتجه المركز وتحالفاته – قديمها وجديدها – من خراب وتمزيق وعنف بنيوي ضد الهامش.
الحركة الشعبية ليست ضحية للاستقطاب، بل فاعل مركزي في إنتاج موازين قوى جديدة. وليست موضوعًا لتحذير عابر أو وصاية ناعمة، بل هي حامل لمشروع تحرري جذري يهدد بنية الدولة القديمة في جوهرها. ومن يخشى تحالفاتها أو يسعى لتقزيم خياراتها، عليه أن يقدم مشروعًا بديلًا، لا أن يلوّح بفزاعات تتهاوى أمام أول اختبار فكري أو أخلاقي، مع كامل التقدير للدكتور فاروق ومساهماته.
أما الجيش الشعبي لتحرير السودان – هذا التكوين العسكري والسياسي الذي صمد حين كانت جبهة الخصوم موحّدة بين الجيش والجنجويد والدفاع الشعبي – فلن ترعبه اليوم أصوات التشكيك، ولن تستدرجه مناورات التردد. لقد خاض معاركه من موقع وعي استراتيجي، لا من انفعال أو انجرار، وهو يدرك أن خوض صراع مركّب كالذي نعيشه اليوم لا يكون إلا عبر تحالفات جريئة، وخيارات قد تكون مُكلفة، لكنها ضرورية.
ما نعيشه اليوم ليس مجرد لحظة أزمة، بل لحظة تأسيس جديدة. لا هدفها إعادة إنتاج أدوات القهر السابقة تحت لافتات جديدة، بل إعادة صياغة السلطة نفسها، من أطراف السودان وهامشه، ومن داخل قوى التحرير الحقيقي- هذه المرة. وإذا كان ثمن هذه اللحظة أن تُختبر المبادئ، وتُراجع المواقع، وتُعيد الحركات تعريف أدواتها، فذلك هو جوهر الفعل الثوري والتحرري.
التحرر لا يتحقق بالتردد، بل بالشجاعة السياسية، والمواجهة الواعية، والقرار التاريخي. وفي هذا المسار، لا خوف على الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، ولا هم يحزنون!
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.