سيطول انتظار انهيار السُّودان  (٢ من ٢)

الدكتور قندول إبراهيم قندول

[email protected]

انتهينا في المقال الأول بخلاصة أنَّ السُّودان فاشل. عنوان المقال في حد ذاته مستفز للذين يروِّجون أنَّ السُّودان مقدم على حرب أهليَّة وكأنَّ الدائر فيه الآن ليس بحرب أهليَّة.  بيد أنَّه وردت تعريفات عدة للحرب الأهليَّة منها أنَّها: “نزاع شديد العنف ومنظَّم بين عدة أفراد أو جماعات داخل دولة واحدة، وغالباً ما تشارك في هذا الصراع القوات النظاميَّة فعليَّاً أو بغض الطرف عما يجري بين السكان، وكأنَّ الأمر لا يعنيها”. نموذج مشاركة القوات النظاميَّة بالفعل تم ولا تزال تلك المشاركة تجري في دارفور بواسطة قوات الدعم السريع التابعة للقيادة العليا في السُّودان، الفريق محمد حمدان دقلو المعروف ب “حميدتي”. وتنشط قوات الدعم السريع والدفاع الشعبي في جبال النُّوبة وفي الفونج الجديدة (النيل الأزرق).  وبأدق العبارة الأحداث التي جرت في مدينة “الياواك” – المعرَّبة إلى “لقاوة” التي عاث فيها قوات الدعم السريع فساداً وتنكيلاً بالمواطنين وقوات الجيش النظامي في المدينة تتفرَّج مبرِّرة موقفها السالب المتحيِّز أنَّها استلمت أوامر من قيادتها العليا في الخرطوم بعدم التدخُّل!
إنَّ عدم تدخُّل الجيش لحماية المواطنين من أفراد وجماعات منظَّمة تابعة لفئة وبعتاد ثقيل ومتقدِّم يعتبر المشاركة في الحرب.  ونحن نعلم تماماً أن ضباطاً برتب رفيعة من الجيش السُّوداني تم استيعابهم برتب أعلى بقوات الدعم السريع، وهؤلاء الضباط يتبعون لقبيلة المسيرية، التي قتلت المواطنين “الزرقة” من النُّوبة والداجو العزَّل، ونهبت ممتلكات الأبرياء في المدينة.  جيش دولة بمثل هذه العقليَّة غير جدير بالانتماء لقوات الشعب المسلحة وينبغي محاسبة قاداته ميدانيَّاً بتهمة خيانة الولاء للوطن والمواطنين.  على كلٍ، لم تهتم الحكومة ما دامت الحرب بعيدة عنها، وعن العاصمة المثلثة، وأنَّها ضد مواطنين من الدرجة الثانية! ومن المفارقات المضحكة والمبكية في الآن نفسه أنَّ العرب المسيريَّة مهمشين و”تعبانين” مثل الزرقة وأنَّهم “زُرُق” أيضاً حتى جاءت تسميتهم “المسيريَّة الزُرُق”، وما خُفيَ أعظم! لقد جرى حديثٌ شفاف بيننا وأحد زملاء الدراسة من البقارة، طرحت فيه أو اقترحت فيه وجوب ولزوم استقرار الرحل بدلاً من متابعة “البهائم”. وكان منطقي، هو أنَّني ولا هو رأى في بريطانيا التي نال أعلى درجات العلم فيها راعياً وراء البقر، كما أنَّني لم أرى أحداً يرعى في أمريكا التي درست بها عشت فيها لأكثر من ٣٥ سنة. ومع ذلك يحصل. المواطن البريطاني والأمريكي على كل ما يحتاجه من منتجات الأنعام…. قس على ذلك كل الدول المتقدِّمة و”المتأخرة”، ولكن هيهات.
التقديم الطويل لهذا الجزء من المقال ضروري لربط الأحداث وكيف يعمل المركز لزعزعة الأمن واستقرار الأطراف حيث لم تقف آلته الدعائيَّة بالتهديد بالحرب “الأهليَّة” المفتري عليها، بل واصلت من وتيرة التخويف بأنَّ السُّودان سينهار وأنَّه آيل للتفكك والزوال بفعل التدخُّل الخارجي من ناحية، والعملاء من ناحية ثانية، وزعزعة أمنه بواسطة طرف ثالث مرة ثالثة. الحق يُقال، هؤلاء الحكام هم العملاء وهم الطرف الثالث، وهم سواعد التدخُّل الخارجي وإلا كيف عرفوا أنَّ هناك عملاء ولم يقبضوا عليهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة العمالة، وطرف ثالث مجهول لم يبيِّنوه للناس، وأنَّهم بتصرفاتهم الهوجاء السبب الرئيس في اقحام العالم الخارجي لإخراجهم من الورطة التي أدخلوا أنفسهم فيها.  نقول لهم وللذين يصدقونهم أنَّهم يرون السُّودان بعيون عوراء إن لم تكن عمياء، وأبصار غشواء (أي بها غشاوة)، كقوله تعالى: “فأغشيناهم فهم لا يُبصرن”!
لقد سمعنا نفس التهديد بالانهيار منذ أكثر من خمسين سنة وباستمرار بعدما بدأنا نقرأ جرائد الخرطوم اليوميَّة خاصة جريدتي الصحافة والأيام.  كنا نقرأها على الدوام حتي سئمنا مفردات على شاكلة: “الفوضى”، و”الفساد في كل أجهزة ومرافق الدولة”، و”الأزمات السياسيَّة”، وفشل “الأحزاب التقليديَّة والطائفيَّة”؛ وعن “الشيوعية وإلحاد الشيوعيين”، وعن “المؤامرات من السفارات الأجنبيَّة”، وعن “الأزمة الاقتصاديَّة” وسوء الأحوال المعيشيَّة”؛ “الحرب في الجنوب”، وبأنَّ “البلاد تسير نحو “هوة سحيقة لا يعلمها إلا الله”، وهلمجرا.  ولكن حتى الآن لم ولن يحدث ما كانوا ولا يزالون يروِّجون له ويشيعونه بين الناس بالخطر المحدق بالسُّودان. نعتقد جازمين أنَّ كل ذلك للتهديد وللتخويف فقط.  فلنا ولسوانا الحق في إعطاء الأمثال لتبرير ما ذهبنا إليه.
استولى الفريق إبراهيم عبود على السلطة المدنيَّة (١٧ نوفمبر ١٩٥٨م)، وانقلب جعفر محمد نميري (٢٥ مايو ١٩٦٩م) على الحكومة المنتخبة، ومحمد الحسن سوار الدهب (٦ أبريل ١٩٨٥م) على نميري بعد انتفاضة مشهودة، وعمر حسن أحمد البشير (٣٠ يونيو ١٩٨٩م) على حكومة منتخبة أيضاً، وعبد الرحمن ابنعوف (١١ أبريل ٢٠١٩م) الذي سلَّم السلطة تكتيكيَّاً للجنة البشير الأمنيَّة ليترأسها عبد الفتاح البرهان (١٢ أبريل ٢٠١٩م)، وكلهم أرجعوا أسباب الانقضاض على الحكم إلى ما ذكرناه.
ما ميَّز انقلاب البشير أنَّه جاء في مسرحية سمجَّة يمكن نعتها ب “برز ثعلب يوماً في ثياب الواعظين”، ودلالة ذلك أنَّه بُنيَّ على الكذب وخداع الشعب بمقولة الشيخ الترابي للبشير “أذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً”.  الكذب باطل دون شك وما بنيَّ على باطل فهو باطل!
أما علد الفتاح البرهان فقد تواطأ مع مجموعة صغيرة سمَّت نفسها “حركات الكفاح المسلح” بعد أن وضعت سلاحها طوعاً.  كان جدير بها تسمية نفسها باسم آخر غير الذي تلوكه ألسنتهم والناسُ ليلاً ونهاراً.  هذه المجموعة صوتها أعلى وصراخها للاستعطاف أقوى مما ألفت الإنقاذ عليه الناس من التهليل والتكبير.  فكان العياط الداوي من “التور هجم”، بمنولوج يقول: “الليلة ما بنرجع لمَّن البيان يطلع” في مسيرة واعتصام القصر أو “الموز” كما وصفها السُّودانيون.  كانت مسيرة القوم وتجمهرهم أمام القصر دون أن تعترضهم قوات الشرطة بالغاز المسيل للدموع أو تفضهم بالرصاص المطاطي أو الحي، عكس ما صورة دائمة ضد المحتجين السلميين. بيد أنَّه قد تداولت الأخبار أنَّ السيطرة الفعليَّة لمفاصل الدولة كانت من قبل الفلول بإشارات من الرئيس المخلوع من مكان إقامته الآمن، لذا لم تقم الأجهزة الأمنيَّة بعمل مضاد لهم.  كان العياط تشجيعاً من الفلول و”حركات الكفاح المسلح” للبرهان لقلب الحكومة الانتقاليَّة ف “حدث ما حدث”!
ففي غفلة تاريخيَّة قام البرهان ولجنة الانقاذ الأمنيَّة في صبيحة ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م بالانقلاب ليبرَّر للشعب خطوته غير المحسوبة جيداً بضرورة “تصحيح المسار” على غرار ما حدث في ٣٠ يونيو ١٩٨٩م (الكذب والخداع)، وتعهَّد بتكوين حكومة فاعلة خلال أسبوع، ولكن “راح له ولأصحابه الدرب في الموية”، كما يذهب المثل السُّوداني، إذ لم يتمكَّن من تكوين الحكومة لأكثر من ٣٩٥ يوماً، و”عدَّاد الأيام ماشي”! نعم، حنث البرهان ونكص على عقبيه ليرى ما عجز الآخرون من رؤيته، ولا يزال الرجل يحنث كلما ومتى ما نطق في أي مكان ذهب إليه وأمام أية مجموعة.  يقول الله في العرب: “وكانوا يُصِرُّون على الحنثِ العظيم” (سورة الواقعة/٤٠)، والحنث في لغة العرب هو “الإثم والذنب الكبير”.  وقال تعالى أيضاً “إنَّ الشرك لظلم عظيم” (سورة لُقمان/١٣).  وقد فسَّر بعض المفسِّرين تفاسير شتى للشرك بقولهم: “إنَّ الشرك أعظم الإثم وأكبر الذنوب”، فهل يتساوى الشرك والحنث بمنطوق الآيتين والمفسرين؟ الله يكون في عونك يا البرهان، “هنا ووب، وهنا ووبين”، أكرب قاشك زين!
على أية حال، إذا راجعنا كل بيانات هؤلاء الانقلابيين المذكورين أعلاه، سنجدها مصوغة صياغة واحدة، مع اختلاف الزمن ووجه اللاعبين الأساسيين فقط.  أما المشجعون هم نفسهم: مجموعة في المقصورة الرئيسيَّة “على الأرائك ينظرون” والأخرى على المساطب المكشوفة يشاهدون، والفرق بين الفعلين شاسع كما هو الفرق بين القطط الشاحمة والفئران الهيفاء (الضعيفة) . نخلص، بالقول إنَّ السُّودان دولة فاشلة منذ تكوينها وأنَّها لن تنهار حتى “يلج الجمل في سم الخياط”، لأنَّ أصحاب البيوت الزجاجيَّة لا يقبلون أو يتحمَّلون رميها بالحجارة.  فالانهيار يحتاج إلى قوة تغيير جارفة لما هو موجود، ولكن من يحرسون مصالحهم التاريخيَّة لن يسمحوا به حتى تتبدَّد مصادر امتيازاتهم وسلطتهم. لذلك سيبقى التهديد بالانهيار التام للسُّودان أحد آليات إسكات أصوات التغيير الحقيقيَّة خوفاً من حدوث إزاحة كاملة في أرضية الواقع السياسي السُّوداني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.