سيطول انتظار انهيار السُّودان (١/٢)

الدكتور قندول إبراهيم قندول
[email protected]

مفاهيم كثيرة تصف انهيار الدولة، وقد يطول الحديث عنها، ويمكننا سوق أمثلة كثيرة للدول والإمبراطوريات التي انهارت أو ذكر سلسلة من انهيارات عديدة حدثت لدولة واحدة.  بيد أنَّ الباحثين في هذا المجال قد اتفقوا على أنَّ هناك مؤشرات تحمل كل واحدة في طياتها عناصر الفشل وحتمية الانهيار. فهل السُّودان دولة فاشلة قابلة للانهيار كما يروِّج المنتفعون؟ بلى! السُّودان دولة فاشلة. وكلا، لن ينهار والذين يراهنون على ذلك ويروِّجون له في مجالسهم الخاصة والعامة وفي الإعلام، سيطول انتظارهم!  فشل السُّودان كدولة كتب عنه محلِّلون وصحفيون سودانيون كُثُر.  ونضيف إلى ما ذهبوا إليه أنَّه لكي تصبح أية دولة فاشلة، لا بد من توفُّر عوامل أربعة. أولها التدهور الاقتصادي الذي يحمل معه الفقر، وضعف التنمية أو انعدامها تماماً لأسباب كثيرة، وهجرة العقول المؤهِّلة من أطباء، وقانونين، ومحاسبين ومهندسين، وزراعيين وغيرهم من أصحاب المهن المتخصِّصة، وذوي المهارات الحرفيَّة العاليَّة بحثاً عن فرصٍ أفضل وعن حياة كريمة لهم ولأفراد أسرهم وأقاربهم.
ففي كثير من الأحايين تقود الحالة الاقتصاديَّة المتدهورة إلى انقسام النُخب المتحكِّمة في السلطة فيما بينها كلما شعرت أية مجموعة منها أو متحالفة معها بخطر تهديد من فئة أخرى. ويأتي خوف تلك المجموعة من زوال الامتيازات التاريخيَّة الموروثة أو التي تعتقد أنَّها مكتسبة في حين تسعى “القوة الجديدة” لإثبات والمحافظة على ما تحصَّلت عليه. وتبعاً لذلك تختلق، أو بالأحرى، تخلق المجموعات المنقسِمة مصطلحات غريبة لتصف بعضها. هذه الحالة ظاهرة للعيان في السُّودان، وخير مثال ظهور مصطلح “أربعة طويلة” بين نُخب الخرطوم الحاكمة، وهذا ما لم يعرفه الشعب السُّوداني من قبل. وفي المقابل أو منافسة مضادة، تنفق مجموعة أخرى أموال طائلة لشريحة المعدومين المعوزين، سمَّتها “تسعة طويلة” لتقوم بأعمال العنف والترهيب للمواطنين بالإنابة عنها. المجموعة الأخيرة هذه تسعى سعيَّاً حثيثاً لإبراز صورة قاتمة للسلطة عجزها في فرض هيبتها، فضلاً عن أنَّ المحصلة النهائية هي تأليب الشعب ضد النظام الحاكم.
يتمظهر المؤشر الثاني وهو عدم تماسك الجبهة الداخليَّة في ثوب السيولة أو التفلتات الأمنيَّة، كما يحلو للسلطات تسميتها، تجاه المواطن في نفسه وأهله وماله.  ويُعتقد أنَّ عصابة “تسعة طويلة” ظاهرة اختلقت ثم اختفت بقدرة قادر، ولكن تشير أصابع الاتهام إلى أنَّها الابن غير الشرعي للمؤتمر الوطني، لذلك لفظه وتبرأ منه. هذا الاتهام لا نوليه أدنى شك، وإلا لماذا اختفت هذه المجموعة من الساحة تزامناً مع، وفور اتخاذ البرهان خطوات إصدار قرارات تنص على إرجاع عناصر وأركان النظام المتخفي إلى مواقعهم التي غادروها نتيجةً لتاريخهم السيء في إدارة البلاد؟
أما العامل الثالث هو الوضع السياسي وأزماته، وقد يكون هذا من أخطر المؤشرات مجتمعة، فأية دولة تلتهمها نيران الأزمات السياسيَّة الحقيقيَّة أو المصطنعة وتغرق في مناكفات سياسيَّة، آيلة للانهيار لا محالة. إذ ينتج من الوضع السياسي المأزوم توقُّف تام للخدمات الأساسيَّة للمواطن، وخرق صارخ للقوانين التي تحكم وتحاسب كل من يتسبَّب في تعطيل عجلة توفير الخدمات للمواطن. وفي كثير من الأحايين تكون الخروقات للقانون بحجة حماية “الدولة” من الخونة المأجورين، حقيقيين أو متخيَّلين. وتعتبر ممارسة هذه العمليَّة مثابة نفخ وبث الروح في جسد “الفساد” المتأصِّل في نفوس وقلوب الفاعلين في إدارة الدولة.
العامل الرابع من سلسلة هذه العوامل هو نتاج تفاعل العناصر الثلاثة الأولى.  في الحقيقة، ليس بالمؤشر المستقل بمعنى كونه عنصر، بل عبارة عن الإفرازات السالبة لما ذكرناه عن الوضع الاجتماعي للمجموعات المتساكنة مع بعضها والمتعايشة بانسجام في لحظة معينة داخل تلك الدولة قبل أن يمسها الشيطان الرجيم.  ومما لا ريب فيه، ينجم خلل عدم التوازن في البناء الاجتماعي في مثل هذه الدولة بحيث تكون هناك طبقتين فقط.  طبقة النُخب وأسرهم، وأقاربهم وأصدقائهم. هذه الطبقة صغيرة جداً، لكن صوتها أعلى وواضح بحكم سيطرتها على وسائل الترويج لنفسها بجليل الصفات والحط من الطبقة الغالبة التي تمثِّل المظلومين المقهورين. كما نجد في داخل الدولة “الفاشلة” طبقة مخفية تعمل في الظلام أو خلف الكواليس، وهذه لا تنتمي إلى هذه أو تلك، ولا إلى هؤلاء أو أولئك المقرَّبون، وغالباً ما يطلق عليهم تستراً لفظ “المستفيدين” من الوضع، أو مجموعة “الانتهازيين” الذين لا يتردَّد حكام الدولة من دعمهم والدفاع عنهم للاحتفاظ بهم من أجل الترويج لمشروعهم للهيمنة على كل شيء.
حديثاً أُطلق على هؤلاء في السياسة السُّودانيَّة مصطلح “القطط السُمان” عندما انكشف أمرهم وأرادت السلطة، ظاهريًّاً، التضحية بهم.  لا شك في أنَّه فشلت شراك الدولة إياها في “اصطياد هذه القطط”، إما لامتلائها بالشحم أو امتلاكها خيوط الشراك التي حاولت الدولة اصطيادهم بها.  لم تجد السلطة مفراً لحفظ ماء وجهها مع “القطط السمينة” إلا اللجوء إلى خرق القوانين التي وضعتها هي، أو الشرع السماوي الذي وجدت له تفاسير، أو استحدثت لنفسها أحاديث، أو اجتهدت، “تفقهاً”، في وضعها للحماية الذاتيَّة.  من تلك الفتاوي “فقه السترة والتحلُّل” من المال العام، وقال أحدهم وهو الدكتور علي الحاج – الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي (شقيق المؤتمر الوطني بالرضاعة) بعد رحيل الدكتور حسن الترابي- “خلوها مستورة” عندما أُثيرت مسألة الفساد في طريق الإنقاذ الغربي وكان حينها أحد أركانها.  الدكتور علي الحاج قصصه كثيرة وعجيبة.  فلما سُئل عن جنسيته، وهو وديعٌ في قفص الاتهام بالمشاركة في انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، أجاب الرجل بأنُّه “ألماني من أصول سودانيَّة”!  بالله قارنوا بين هذه الإجابة وإجابة الرجل السُّوداني النوباوي الأصيل الملازم “علي عبد اللطيف” وهو يواجه القاضي البريطاني، وربما الموت بعينه، عندما سأله عن قبيلته فأجاب بقوة وعزيمة وبلا تردد: “لا يهمني أن أنتمي إلى هذه القبيلة أو تلك فكلنا سودانيون”.  وحتى العبد المأمور المتهم على محمد علي عبد الرحمن المعروف ب “علي كُشيب”، أجاب أمام قاضي المحكمة الجنائيَّة بلاهاي بتهمة ارتكابه جرائم فظيعة في دارفور بأنَّه سوداني!  حين تكون حال الدولة كذلك، تصبح فاشلة بحق وحقيقة، ودولة “الكيزان” هي المعنية بنسختيها الأولى والثانية أو بالأحرى الحالية برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة.
موضوع فشل أية دولة، يحوم حوله جدلٌ كبيرٌ لذلك نجد أنَّ إعلان ذلك الفشل رسميَّاً، من قبل الحاكم، من الأمور الصعبة لأنَّه حقيقة مرة يصعب ابتلاعها، ولا يقبل الحاكم الجهر به وكأنَّه يمتثل لقوله: “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِمَ “(سورة النساء/١٤٨) أو الهمس به، خاصة إذا كان الوالي جائراً، ونحن نعلم علم اليقين أنَّه لا يُوجد حاكم “مظلوم”.  نضرب مثلاً بفجور بعض قادة الإنقاذ وعدم تقبُّلهم للحقيقة.  فعندما وصف القائد “باقان أموم” دولة السُّودان بالفاشلة عام ٢٠٠٨م، قامت الدنيا ولم تقعد وتصدى له “صقران” من النظام آنذاك، هما الدكتور نافع علي نافع، رئيس اللجنة السياسيَّة للمؤتمر الوطني، الذي يقبع في مكانٍ آمن في كوبر، حاج ماجد سوار، أمين الطلاب بالمؤتمر الوطني، الطليق أو بالأحرى مكانه مجهول.
لقد طالب نافع جهاراً بمحاسبة وإقالة أموم من موقعه الحزبي بحجج واهية، وهو لا يدري أنَّ السيد أموم لا يتبع لحزب المؤتمر الوطني. أما حاج ماجد فحاول ضرب عصفورين بحجر، إذ وجه سهامه المسمومة نحو ياسر سعيد عرمان وباقان أموم، وكانت حجته وزعمه أنَّهما لا يمثِّلان غالبية الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان.  أكيد بنى حاج ماجد فرضيته على المجموعة الجنوبيَّة الصغيرة المعارضة للحركة الشعبيَّة والمهادنة آنذاك لنظامه الفاشل.  نذكر منهم اثنين فقط السيد بونا ملوال السياسي المخضرم، والسيد عبد الله دينج نيال، أحد نواب الأمين العام للمؤتمر الشعبي الشيخ الترابي أو كما كانوا ينادونه!! فلو سّئل حاج ماجد عن أين تلك المجموعة سيجدها في مكانٍ ما في الجنوب.  لماذا لن ينهار السُّودان الفاشل؟ سنجيب عن ذلك في المقال الثاني.

نواصل ……

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.