سرديات— زيــــــرو — استيلا قايتانو

          زيــــــرو
       استيلا قايتانو
     Stella Gaitano
[email protected]

كنت احس بالوحدة بالرغم انني لست وحيدا في هذا المكان ، فهناك الدجاجات البلدية القذرات تنكأن الارض حولي بحثا عن الديدان والحب ، وهنا كومة من الصحف القديمة الوك اخبارها المهترئة عندما اريد ان اقراء شيئاً ، والكثير من الصور ، صوراً لاطفالي في مراحل عمرية ، صور الاعياد الاسرية ، صور مع زملاء العمل ، الصور حياة نجمدها في قطعة من ورق سرعان ما نعود اليها لمجرد تصفحنا لاحداها .
كثيرا ما تقسو على الاجواء الماطرة منها والباردة حينها احلم انني في بيتي القديم الذي بعته بثمن بخس ، اغلق النوافذ والابواب والوذ بدفء من نسج خيالي ، كم افتقد النوافذ والابواب ، ليس طبيعا ان يفتقد انسان ما الابواب والنوافذ ، ولكن انسان المخيمات يفقتقدها وبشدة ربما اكثر الحاحا من الوطن نفسه خاصة عندما يقضي عدد من السنوات في العراء ، يحرس كومة من الاثاث المتهالك المعرض للتآكل والسرقة ، لا ادري لما نتمسك بالخرق عندما نعلن الرحيل النهائي من مكان ما الى آخر ؟ ربما هو التشبث بالماضي ، لكل قطعة اثاث معزة خاصة ، لانه نتاج عرق وفكر واحتياج ، الاثاث جزء من العائلة ، يجب عدم التخلي عنها لا بد من حراستها وحمايتها .
ولكن في بعض الاحيان يتملكني الغضب والحنق ! أبسبب كومة الاثاث هذه قضيت ثلاثة سنوات في انتظار الرحيل الى منطقتي الموغلة في الجنوب ؟ أ من اجل خرق لم تعد صالحة للاستعمال بعد ان بللتها مواسم الخريف العاتية ، واحرقتها شموس الصيف الملتهبة ، واكلتها الرطوبة والفطريات ، ابسبب كومة العفونة والصداء هذه فارقت زوجتي تريزا واطفالي ؟ لا بد انهم بدأو حياة جديدة الان وبدأت اثاثات اخرى تحتل البيت وقلب تريزا ؟ كم فكرت في ترك كل شئ والذهاب لاكون معهم نعم هذا كل ما احتاجه ، ولكني اخاف على قلب تريزا من التحطم ، فالاثاثات امر في غاية الاهمية للنساء ، سوف اصبر ، هنا الكثير من الصابرين ، نساء فدين ازواجهن والوادهن في سن الشباب فعراءاتنا ليست آمنة وغاباتنا تعج بالحروب والمحاربين الذين لا يتوانون عن خطف الشباب والمراهين ليجندوا اجباريا لخوض حروب لا يعرفون لصالح من ؟ عندما ارى جسارتهن اصبر اكثر ، عطالة نصبوا انفسهم حراسا على اثاث اناس آخرين ليست له بهم صلة ولكنهم يقبضون ثمن ذلك ، وعندما يتأخر مصروفهم يبيعون من الاثاث شيئا ليسدو بها الرمق ، رغم اننا كثيرون هنا والاثاثات الملفوفة بالجوالات على امتداد البصر الا انني لم اعتاد الامر ، يراودني الامل ، الامل هو عدوي اللدود ، كلما اكثرت من الامل جاءت الخيبة كبيرة وتقع على قلبي مثل الصخرة ، ربما لو استسلمت مثل البقية ، او تقبلت الواقع قد اكون في احسن حالاً ، ولكن هيهات ، مرضي العضال هو الامل بان نحزم امتعتنا الممزقة والمعطوبة ونسافر غدا نحو تخوم الجنوب ونهنأ بعائلاتنا ، وهو الامر الذي لم يحدث ابدا ما يجعلني اعاني السقم طيلة تلك السنوات .
انا مازلت عالقا بين حدود الشمال والجنوب ، في كل مرة نتجه الى الجنوب قليلا ، الى ان اعلن الطريق باننا رحلتنا انتهت بانتهاء الشارع المسفلت ، انتهاء مفاجئ وقاسي ، اعلان ان هنا لم يتوقف الطريق بانتهاء الاسفلت ، ولكن اعلان بداية جديدة لدروب اهملت بشكل ملفت ، زيرو هذا هو اسم المكان ، نهاية اسفلت الشمال وبداية دروب الجنوب الوعرة ، يا لذكاء ويا لخباثة الاسم ، فزيرو ليس رقما عاديا ، يكفي انه يوحي بالفراغ ، والا شئ ، هذا الزيرو ، ( الصفر ) تحول الى ثقب اسود يبتلع آمالي واحلامي ، قد اكون على شفة الجنون ، كم اوحى الي الاسفلت المقطوع او المنهي بحزم بكائن مهول مبتور الذنب ، تم قطعه هنا على الحدود تماما كخطة مسبقة ، يا للدقة.
هنا انزلنا رحالنا بعيدا عن سكان المنطقة حتى لا تنشجب الصراعات ؟ مسافة الامان هذه هي نفسها بين معسكراتنا كنازحين ومدن الشمال، والان هي بين مخيماتنا كعائدين ومدن الجنوب ، لا بأس طالما اننا سنعيش في سلام فيجب ابعاد كبرياء سكان المنطقة الاصلين عن حقد و انكسار العائدين ، نحن تركنا ورائنا كل شئ ولم نصل لشئ بعد على الضفة الاخرى اشعر بعجز من ثقب قاربه في منتصف الامواج .
هنا تماما علينا دك الارض لنصب خيامنا ونشيد معسكرات نزوح جديدة ، علينا الاعتياد على الجيران الطارئين ، علينا التعاون في الملمات لاننا مجرد اناس وحيدين ، واحد من كل اسرة ليتبع الاثاث ، لدي جارتان واحدة من بجانبي والاخرى بخلفي ، وجار سكير وشاب يحرس اثاث ثلاثة من الاسر يقبض ثمن ذلك كل شهر ، ولكنه لا يحرس شيئاً ، كنا نحن الكبار حريصون على الاثاث الذي يحرسه اكثر منه ، اما هو كلما قبض نقوده ينزل الى المدينة التي تبعد نصف يوم مشيا ، او يتعلق باحدى السيارات العائدة الى المدينة ، يعربد هناك ولا يعون الا خالي الوفاض وفي بعض الاحيان يحمل لنا كيسا ملئ بالدقيق كشكر مغلف .
جارتاي حنونتان بامومة ضلت طريقها اليً ، في وقت وجيز كوًنا اسرة ، هن والشاب العربيد ودجاجاتي القذرات ، اخيرا بدأت التحدث مع بشر بدل الدجاجات .
وقفنا معا في في وجه الاعاصير والامطار ، في وجه الخوف وشح الطعام ، قاومنا الشوق والحنين الى الابناء ومسحنا دموع بعضنا عندما لا تسعفنا الهواتف لسماع اخبارهم لسوء الشبكات مهما تسلقنا التلات والاسقف لصيد جملة مفيدة ، الامر الذي جعلني اسحق هاتفي بحجر وبكيت ليلتها في صمت بعد مكالمة مع تريزا ، لم نزد على كلمة الو الو الو…
ثم توت توت توت …
اعلانا لانقطاع الاتصال ، اعدت الكرة عدة مرات وهي ايضا على الطرف الاخر حاولت كثيرا ، ولكن دون جدوى امتلأت بالحنق وهشمت الهاتف الجوال على اقرب صخرة .
انا وجاراتي كنا نثرثر في الليالي التي لا يضيئها القمر حتى نبعد سارقي الاواني والاثاثات ويبيعونها بكاس عرق ، ونأمل ان الغد يحمل اخبارا سارة في صوت ذاك المنادي ( كبرا كبرا ) الماشين بور جهزوا ، كبرا كبرا الماشين واو جهزوا ، كبرا كبرا الماشين جوبا جهزوا ، وتجهزت اخرجت بنطالي وارتديته وقبل ان اثبته جيدا تكوم عند قدمي ، يا للهول كم فقدت من وزني ؟ اضطررت للف الجزام مرتين لاثبته عند خصري ، وضبت كل شيئ ، في الحقيقة كان كل شئ موضبا ، بحثت عن دجاجتي في المعسكر والتقتها دجاجة دجاجة واودعتها القفص ، كانت تلك الدجاجات اسرتي ، هذا الجيل الثاني او الثالث منها لا اذكر ، حافظت على ارياشها المرقطة باللونين الاسود والابيض ، وتهجنت بعضها بالوان ذهبية وبنية بعد ان خضعت للتكاثر مع ديكة المعسكر منتوفي الريش عليهم اللعنة، ولكنها كلها دجاجاتي ، الكل يعلم ، لاني الوحيد من اتى بقفص مليء بالدجاج والفراريج ، حسنا لم يكن مجرد دجاجات كانت عائلتي وطعامي ، اسلق بيضها واكل بعضها ، عندما قويت علاقتي بها لم يكن قلبي يطواعني على ذبحهها ، ولكن الجوع يكفر بالعلاقات كما هو معروف ، لقد ملأت هذه الدجاجات فجوة احساس الاهتمام بالعائلة الذي ينهشني ، الابوة ايضا تضل طريقها كالامومة ، كانت هذه الدجاجات طفلاتي ، انشغل بها كل يوم ، احرص على ايوائها للقفص مع الغروب ، واذا اختفت واحدة اقلب المعسكر راسا على عقب ، كنت حريصا على حياتها وصحتها وراحتها ، ولكن هذا لم يمنع ان يقعن فريسة الجوعى الذين يلوون رقابها ويشوهن سرا على نيران القصب الجاف ، ملأن لي حياتي بعد ان افرغتها تريزا والاطفال ، احادثها واطلق عليها الاسماء .
الان جاء الكبرا وسوف التقي بعائلتي اخيرا كنت متلهفا ومتحمسا لدرجة ان قلبي صار يؤلمني ، ترى كيف ستستقبلني تريزا ؟ ترى اي طول وحجم صار اليه الاولاد والبنات؟ ورحيل الصغيرة ، كم اشتاق اليهم ، مسحت دمعة انحدرت على خدي الضامر ولكني كنت ابتسم .
وصلت جوبا مع اياب الطيور الى اعشاشها ، كانت تغرد بشكل مزعج ، وايضا كانت بعض النساء تزغردن استقبالا للعائدين ، شعرت بهشاشة في كل مفاصلي ، اتحتضنت قفص الدجاج كأني التمس منها الدعم والقوة ، وقفت قرب الشاحنة التي تحمل اثاثي ، كان متكوما بفوضى كعظام اسماك تم التهامها بشراهة ، مجرد خردة اعلم بذلك في قرار قلبي ، ولكن كان لابد ان اعود بها حتى لا ينكسر قلب تريزا .
اصبت بتشوش فجاءة ، وحاولت التماسك ، ترى هل يتعرفون علي ، ثم شعرت بيد حنونة على كتفي دافئة كقماش رطب ، التفت كانت تريزا تقف هناك تحمل رحيل وتبكي ، وقعت في احضان عدة حتى شعرت بدوار ، فرغ الهواء من حولي ، تشبثت بقفص الدجاجات وتملصت من العناق الجماعي ، زوجتي واطفالي الذين تجاوزوني في الطول ورحيل تحملق فيً بغرابة .
تغير كل شئ ، المدينة ، الناس واطفالي حتى تريزا ، شعرت بها صلبة تعرف ما تفعل ، الاطفال صاروا شبابا وينادونيي بابا الا راحيل كانت تناديني انكٌل ، كانت تضحك الجميع ، ألا أنا ، كانت تشعرتني بالغربة ، ليس هناك أكثر الما من ان يناديك طفلك بيا عم ، تلك الغربة التي نسجتها بعد المسافات وطول الازمان .
اظن ليس هناك غربة اكثر من الا يتعرف طفلك عليك .
بعد ايام قليلة لم اعد مركز الحدث ، انشغل الجميع بمواضيع شتى ، الاولاد بالمدارس وترتيزا تعمل معلمة في مدرسة بائسة بلا اسوار ، وجدت نفسي مرة اخرى مع الدجاجات وانشغل بفرز اكوام الاثاث المهترئ في ركن البيت واستحضر حياتي في المخيم وافتقد جاراتي ذوات الامومة الضالة ، افتقد سيقان الذرة والسمسم الطويلة الرفيعة مثل مراهقات الدينكا في حقول مدينة الرنك الخصبة ، لن انسى البهجة التي كانت ثضفيها لنا مواسم الحصاد ، لنتحصل على بعض النقود والانس ، افتقد حياةً كان للانتظار فيها الف معنى ، لم اكن اتوقع ان يصيبني العودة بكل هذا الحزن ، الانسان غريب حقا ، لم اعد اعرف ما اريد .
اثناء تأملي هذا لكزتني رحيل حدجتها بنفس طريقتها الغير مرحبة ، كنت اتعامل معها كغريبة كما تفعل معي ، لا ادري كيف اعامل طفلة بالمثل ، ولكن هذا ما حدث ، قالت : أنكل ..
جززت على اسناني غيظا حدجتها بنظرة تقول : ماذا تريدين ؟
.. واصلت ارجوك اقطع لي ثمرة الباباي تلك .
تابعت اصبعها الصغير المدود نحو السماء ، تفاجاءت .. كأني ابصر تلك الشجرة لاول مرة ، فارعة ومستقيمة ينوء قمتها بالثمار الناضجة التي بدأت تصفر، آلمتني اشعة الشمس التي هربت بين فروعها لتهاجم عيني كالإبر ، رفعت بصري اخيرا عن الدجاجات واكوام الاثاث المحطم ، وجلت بنظري حولي ، اكثر من ستة شجرات باباي تسور الدار ، شجرتا مانقو بثمار كبيرة خضراء تنضج ببطء تحت شمس صيفية حارقة ، شجرة جوافة ظليلة ترمي ثمارها على الارض كلما هزتها الرياح ، واشجار نيم بجذوع ضخمة تفرش امتداد الارض بالظل ، متى نبتت كل هذه ؟
يبدو انني كنت افكر بصوت عالي ملء بالدهشة سمعته رحيل .
اجابت وهي تمد لي عود خيزران طويلة بها سلك مقوس لاتمكن من قطع الثمرة : انها هنا دائما !
قطعت الثمرة بيد مرتجفة ، ناولتها ، وقطعت اخرى ..اخرى .. واخرى.
احضرت صحنا قطعت الثمرات الى شرائح كبيرة بينما كانت رحيل تتلهف للقضم ، جلسنا في الظل صرنا نأكل لب الثمرة ، كانت تأكل بنهم دون ان ترفع عينيها عن الشريحة التي بين يديها ، كان عصير الباباي ينساب بين فرقات اصابعها الصغيرة .
سألتها بابتسامة : لذيذة ؟
قالت بوجه ملطخ بلب الباباي : لذيذة جدا .. .. أنكل بابا .
اوقفت المضغ وحبست ما قضمته في فمها حتى انسال السائل على جانب فمها ، كانت تبحث عن الانزعاج بين خلجات وجهي .
ضحكت هذه المرة من قلبي ، ارخت تصلب فمها وواصلت المضغ ، بينما شعرت ان روحي عادت لتوها من منطقة (زيرو) .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.