زنقولا والراب السودانى: أصوات جيل يكره الزيف

بقلم عثمان نواى

 

“يقول بوبا سيمز احد اهم كتاب اغانى الراب لشركة باد بويز الأميريكية الشهيرة : عبر الكتابة عن العنف والمخدرات، اجبر كتاب الراب الأوائل فى التسعينات المستمعين الى النظر الى الأسباب الحقيقية خلف استخدام العنف والمخدرات، وأنها وسائل للنجاة ومواصلة العيش فى إحياء السود الفقيرة . “

نجد اليوم الفنان ومغنى الراب زنقولا وهو يحصد اكثر من مليون مشاهدة لأغنية مثل اغنية” انا ما معاكم ” وتغلق الشوارع لحفله فى الخرطوم بالأمس، نجده يواجه النقد لملبسه وكلماته واسلوبه من الرافضين للتغيير بشكل عام فى الحياة الخاصة والعامة. وأيضا من الذين ينظرون الى السودان من ثقب ابرة تجاربهم الشخصية الضيقة. بينما ينسى الكثيرون ان الثورة التى هزت السودان قبل عامين لم ترد تغيير البشير فقط ولكن الشباب الذين خرجوا كانوا يريدون خلق مساحات حرية لامثال زنقولا وفنانين/ات كثيرون لكى يستطيعوا ان يغلقوا الشوارع لاقامة حفلاتهم، مثلما يستطيعون إغلاق الشوارع بالمواكب للمطالبة بالحقوق ،لأن الحرية مبدأ لا يتجزأ .

ان لغة الراندوك التى استخدمها زنقولا فى أغانيه هى نفسها التى استخدمها تجمع المهنيين لحشد الشارع للخروج للثورة. ولولا تلك اللغة التى تخاطب قطاعات واسعة من الشباب ،ربما لما وجدت دعوات التجمع كل تلك الشعبية خاصة في اوساط الشباب من ال Z generation ،أو جيل الالفينات. وهم أيضا ذات جمهور زنقولا.

إن تقاطعات الشخصى مع الثقافى مع السياسي فى ما يغنيه زنقولا لا تقف فى حدود الشعبية الواسعة ولكنها تتخطاها لفهم تغيرات المجتمع السودانى وتطلعات جيل قادم، لم يعد مستعدا للاستماع للاغنيات جالسا مستكينا بعد الآن. إن اغانى الراب فى تاريخها ارتبطت بالتعبير عن الغضب والاوضاع السيئة فى الأحياء الفقيرة فى أمريكا حيث انتشرت المخدرات والجريمة. ولكن ذلك الفن له أبعاد عميقة سياسيا، حيث استخدم الراب فى عملية تعبير فنى عميق عن تاريخ طويل من القمع والاستغلال والفقر الذى كانت الجريمة والمخدرات إحدى المظاهر او ردود الفعل عليه.

الان مع سقوط القيود الأمنية على التعبير الحر و التى فرضها النظام السابق، نرى إن التعبير عن ذات حالة القهر والفقر وانسداد الافق لدى الشباب السودانى لا تحتمله أغنيات إذاعة أمدرمان ذات المزاج الاربعيناتى للقرن الماضي، فصخب الواقع وحالة الضجيج العاطفى والسياسي الراهنة، لا تستوعبها سوى أغنيات الراب ذات الإيقاع الصاخب. كما ان حالة التيه واللاموثوقية فى الحاضر والمستقبل تجعل القوافى المنمقة اكثر انتظاما من القدرة على استيعاب فوضي تحديات الحياة اليومية للشباب السودانى . لذلك يصبح الراب بنظمه الغير منضبط ،كما يراه البعض، هو التعبير الاكثر قربا من الحقيقة التى يعيشها هؤلاء الشباب .

ولذلك فإن ما تم تداوله عن درجة انفعال الحضور لحفل زنقولا امس وكل حفلاته السابقة وأنفعاله على المستوى الشخصي، هو امر طبيعى لا ينفصل عن الارتباط بين الشعور الذى ولدته تلك الموسيقي فى المستمع والمغنى من حالة تماهى معها فى تعبيرها عنه. وعدم القدرة على التعبير عن هذا الجيل وهمومه وتطلعاته من قبل المنظومات السياسية والاجتماعية والثقافية الرسمية او السائدة ، هى التى تزيد من رواج موسيقي الراب والزنق وغيرها. وقد. اصحبت هذه المنتجات الفنية جزء من الثقافة الشعبية او pop culture فى السودان. فلا يخلو اى فرح فى السودان من موسيقي الزنق ،وقريبا سوف تكون حفلات مغنيى الراب اكثر شعبية من اى الوان موسيقي أخرى. ولذلك فإنه بدلا عن الاستنكار على مستوى الأفراد من قبل بعض المحتجزين فى سودان ماضوى غير موجود سوى فى مخيلاتهم، وبدلا عن التجاهل من قبل أجهزة الاعلام الرسمية والخاصة، فإنه من الأفضل تقبل الواقع وعدم فرض نظرات استعلائية على التعبير الحر عن الذات والمعاناة لمجتمع يغرق يوميا فى أعماق سحيقة من العنف والفقر. فالفن هو انعكاس صادق للواقع حينما يكون حرا وغير مقيد، وبالتالى فإن أصدق القراءات لواقع مجتمعنا لاتاتى من مواقع الاخبار ولا نقاشات الواتس التى يغلفها زيف السياسة، بل الفنون المستقلة والشعبية هى التى تعكس واقع المجتمع. فإن أراد البعض وصف تلك الفنون بالمنحطة فعليه اتخاذ الحذر لانه يصف المجتمع السودانى الذى تعكسه تلك الفنون بذات الصفات. فلماذا نرغب دوما فى ان نتخيل مجتمع سودانى غير موجود ونصنع له إعلام وتعليم وسياسات تخيلية ونرفص التعامل مع المجتمع الحقيقي الذى يعيش فيه الناس ويتنفسون؟

ان هذا العيش فى المتخيل هو أهم أسباب فشل بناء الدولة السودانية على كل المستويات. وليست صرخات زنقولا فى اغنيته “انا ما معاكم” سوى تعبير عن الرغبة فى الانفصال عن هذه التصورات المتخيلة للمجتمع السودانى ،نزولا الى الواقع بعيدا عن التوهمات عن مجتمع فاضل غير موجود .. والحقيقة ان الشباب الذى ” يركب الفيل” هو يحاول ان يكون أكثر قدرة على فهم الواقع أمامه ومواجهته بشجاعة بدلا عن الهروب منه كما يعتقد البعض. فزيف مجتمعاتنا السلطوية التطهرية التى تعتقد انها لا ترتكب اى أخطاء هو الجنون الحقيقي. “فالمسطول” الحقيقي هو الذى يفترض ان الفضيلة هى سمة مجتمع كامل، بل ويحاول فرضها بقوة العنف او سلطة الدين على الناس أو حتى عبر سلطة الثقافة او حتى التعليم النخبوى . إن الحقيقة الوحيدة هى حقيقية ان المجتمعات والبشر جميعا، واولهم المجتمع السودانى مليئة بكل الشرور، ولكنها تكافح على مستوى الأفراد والجماعات للسيطرة على تلك الشرور بما هو ممكن ومستطاع. إن تجاوز حالة الوهم بأن المجتمع السودانى مجتمع فاضل، ربما تكون خطوة أولى لمعالجة كثير من مشكلات هذا البلد المنكوب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.