رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: (58)

 

الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر!
جون قرنق والبَحْث عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير
[email protected]

اتفاقية السلام الشامل

كما ذكرتُ في الحلقةِ (47)، عَكَفَ منصور، منذ الرُّبع الأخير من عام 2010، على مشروع كتابٍ جديد، باللغة الإنجليزيَّة، يتضمَّن مراجعة نقديَّة لاتفاقيَّة السَّلام الشامل ومسيرة الحركة الشعبيَّة، والذي كان يبعث لي بمُسّودَّات فصوله للمراجعة والتدقيق. حينذاك، اختار منصور للكتاب عنوان (اتفاقية السّلام الشّامل السُّودانية: إنجازات وفرص ضائعة و(خيانات)! وللمفارقة، استغرق منصور في الكتابة لسّنواتٍ، إذ لم يصدر الكتاب إلا في 2015 بعنوانٍ جديدٍ؛ (The Paradox of Two Sudans: The CPA and the Road to Partition، “تناقض السُّودانيين: اتفاقية السّلام الشّامل والطريق نحو التقسيم!”. وكما وعدت، سأتعرض في هذه الحلقات الختامية لبعضٍ من ملاحظاتهِ عن قضايا الحرب والسّلام واتفاقية السّلام الشّامل وعملية تنفيذها وما انّتهت إليه بما يدعم أطرّوحة منصور حول معادلة السّلام ووحدة البلاد: الفرص المهدرة! ينقسّم الكتاب إلى 12 فصلاً تم فيها تأريخ وتحليل الأحداث التي أشّعلت نيران الحرب الأهلية الثانية في السُّودان، أو عززت التوصل إلى السّلام في السُّودان في 9 يناير 2005.

الحربُ في السُّودان لها تاريخٌ طويل، تعودُ نشأتها إلى الخمسينيات من القرن الماضي. وعلى الرَّغم من أنَّ جنوب السُّودان كان المسرح الرئيسي للحرب الأهليَّة، إلا أنَّ بُؤر التوتر المشؤومة كانت أيضاً مُنتشرة في جميع المناطق الطرفيَّة من البلاد. وكأنَّما نقاط الاشتعال تلك كانت بمثابة حوادث تنتظر الوقوع، حيث أثبتت التطوُّرات المستقبليَّة في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وأبيي وآخرها في دارفور. فبدلاً من التحليل الموضوعي للأسباب الجذريَّة للمشاكل الناشئة في البلاد ومعالجتها بشكلٍ مباشر، اختارت النُخب الحاكمة في الشمال، منذ إعلان استقلال السُّودان، المُدارة والكلام المزدوج وسياسة التدوير، لم يفيدها أي من هذه الحيل أو تُفيد السُّودان. في حالة جنوب السُّودان، كانت الحرب قد تصاعدت إلى حريق جهنمي نتيجة مصادمات عنيفة لا تعد ولا تُحصّى في الرؤية والتصّور حول ما يمكن أن يجعل كل الشّعب السُّوداني واحداً وموحداً في الإنسّانية والعدالة والتنوع. أدى فشّل حكام الخرطوم في فهم هذه الحقيقة البديهية إلى تفاقُمٍ تدريجيٍ في المطالبِ السّياسية لجنوب السُّودان. وذلك، من دعواتٍ 1955-1956 لسُّودان اتحادي موحد يتكون من كيانين (شمالي وجنوبي)؛ للمطالبة في عام 1965 بالنظام الفيدرالي للحكم في جميع أنحاء البلاد، لتسّوية سياسية في عام 1972 بشأن الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السُّودان داخل السُّودان المُوحد، الذي استمر حتى عام ،1985 وفي النهاية لمطالب النخبة السّياسية في الجنوب من جميع الأطياف منذ 1994 من أجل الحّق في تقرير المصِّير الذي من شّأنه أن يشّمل الحق في الانفصال. طوال هذا الوقت فشّل القادة الوطنيون في مركز السُّلطة في رؤّية العلاقة المُتبادلة بين فشّلهم في الاستجابة بشّكلٍ إيجابي للمطالب السّياسية الجنوبية، من جهةٍ، وتراكم الغضب والإحباط في جنوب السُّودان، من جهةٍ أُخرى، مما أدى في النّهاية إلى الدعوات المتواترة للانفصال. السّؤال هو: لماذا كان من المُمكن في عام 2005 التوصل إلى اتفاقية السّلام الشّامل في السُّودان بشّأن حل المشّاكل التي عصّفت بالبلاد لما يقرب من خمسين عاماً؟ يحاول منصور في هذا الكتاب أن يجد الإجابة لهذا السّؤال.

كما نوهت في الحلقةِ (57) على الصّعيد الشّخصي، كان د. منصور ضِّمن وفد حكومة السُّودان إبان حكم الرئيس نميري (1969-1984) الذي تفاوض مع قوات الانانيا واختتم أول اتفاق سياسي أنهى الحرب الأهلية الأولى في السُّودان. تم التوقيع على الاتفاق في أديس أبابا في 27 فبراير 1972 من قبل العقيد جوزيف لاقو، نيابة عن حركة تحرير جنوب السُّودان (SSLM) ونيابة عن حكومة السُّودان، من قبل منصور نفسه الذي احتل المرتبة الثانية بعد رئيس الوفد، نائب الرئيس أبيل ألير. ومع ذلك، لم يستمر الاتفاق سوى لمدة أحد عشر عاماً (1972-1983)، إذ اندلعت الحرب مرة أخرى بقيادة جون قرنق دي مبيور، الذي كان يتبنى أجندة وطنية للتغيير، خلافاً لما طرحته حركة تحرير جنوب السُّودان. بإرادته وبحكم تصّميمه وليس بالصُّدفة، انضم د. منصور إلى الحركة الشّعبية لتحرير السُّودان وأصبح المسّتشار السّياسي لرئيسها، جون قرنق، من عام 1987 حتى وفاته في عام 2005. واسّتمر هذا الدور في لعبه مع خليفته سلفا كير ميارديت، مما أثار استيّاء العديد من معارفه في شمال السُّودان. استنتّج منصور أن العلل السّياسية في البلاد لن تَشفّى أبداً طالما ظلت الخرطوم مركزاً لتكريس السُّلطة في السُّودان، على حالها. وبالرغم من أن نميري، كان هو الزعيم الوحيد في حكومة الخرطوم الذي كان قادراً على إنهاء حرب السّبعة عشّر عاماً، إلا أنه تجرأ على تمزيق الاتفاقية التي أبرمها بنفسه، وهذه حقيقة قدمّت شّهادةٌ كافية بأن قرار منصور لم يكن مُجرّد هاجساً.

لم يفُت على منصور التوضِّيح بأن توفر والتقاء الشّروط الضرورية التي سمحت بالتوصل إلى تسّوية تفاوضِّية للحرب التي استمرت 21 عاماً بين حكومة السُّودان والحركة الشّعبية / الجيش الشّعبي لتحرير السُّودان ، قبل كل شيء، كانت من داخل السُّودان. وفي رأيي، أن المُلاحظات التي أدلى بها بعض المعلقِين بأن اتفاق السّلام لم يكن من المُمكن التوصل إليه دون مُمّارسة الضغوط الناعمة، أو في الواقع، كما زعم البعض، لدرجة لوي الذراع بواسطة وسطاء خارجيين، لا يُمثل إلا نصف الحقيقة فقط. في مراتٍ عديدة، جاءت الانتقادات والملاحظات التي تحط من قدر، وتُقلل من شأن، اتفاقية السّلام من الزعماء السّياسيين السّابقين الذين فشّلوا في وضعِ حدٍ للصِّراع في السُّودان عندما كانوا في السُّلطة، وكذلك قطاع من وسّائل الإعلام في شمال السُّودان الذي لم يتوقف عن إيجاد مبرر لعدم الكفاءة السّياسية والفكرية لهؤلاء القادة. وبالتالي، دون الاستهانة بالمسّاهمة القيمة للوسطاء والشُّركاء الدوليين في توفير الدعم الدبلوماسي والفني والمّادي لعملية السّلام، بالإضافة إلى التدخلات في اللحظات الحاسمّة للتوسط في الخلافات بين الأطراف المتفاوضة، لا ينبغّي أبداً التبخِّيس من قيمة وأهمّية العوامل الداخلية. فقد نشّأت هذه العوامل الداخلية في إطار ديناميكيات الصِّراع الداخلي، وفيما بين الأطراف المُتحّاربة ونظام الحكم في البلاد. إن هذه المجمُّوعة من الظروف الداخلية الحرجة هي التي سمّحت بالمُشّاركة الخارجية لدعم المفاوضين وتسّهيل عملية التفاوض والتوفيق بين وجهات النظر المُتباينة، وحتى ممارسة الضغط عليهم لإنهاء الحرب الأهلية.

اتفاقية السَّلام الشامل: آمالٌ وتطلُّعات!

تم استقبال توقيع اتفاقية السّلام الشّامل بفرحٍ وسرور من قبل السُّودانيين في جميع أنحاء البلاد لأنهم يعتقدون إلى حدٍ ما أن الاتفاقية أعطت السُّودان فرصةً جديدةً في الحياة. كما أنه لم يكن مفاجئاً أن تم الإشادة باتفاقية السّلام الشّامل من قبل جيران السُّودان الأفارقة وكذلك الأصدقاء في جميع أنحاء العالم. كان هؤلاء قد توقعوا بشّكلٍ معقول أن أكبر دولة في إفريقيا، بعد انتهاء آلامها، كانت أخيراً مُسّتعدة للعب الدور الذي قدره له التاريخ والجغرافيا للقيام به. دون الخلط بين الأسباب وأعراض الأزمات المُتعّددة في السُّودان، كان نجاح اتفاقية السّلام الشّامل، إلى حدٍ كبير، نتيجة للنهج المُباشر في التعامل مع الأسّباب السّياسية والاجتمّاعية والهيكّلية الكامنة وراء هذه الأزمات. وبدلاً من تسّوية الأمور العامة، حددت الاتفاقية أهدافاً سياسية واقتصادية وإدارية مُحددة ضِّمّن إطار زمني مُحدد. لقد أخطأت مفاوضات السّلام السُّودانية في الماضي مثل هذه الأهداف بشّكلٍ متعّمدٍ لأن القضّايا المُتعّلقة بالثقافة أو الدين أو الحرمان الاقتصادي الهيكلي كانت تعتبر شائكة وحساسة للغاية بحيث لا يمكن لمسّها. أيضاً، لم تتوقف اتفاقية السّلام الشّامل عند تحديد الأهداف ولكنها مضت في رسم خارطة طريق مفصلة للوصول إلى هذه الأهداف وتوفير ضمانات قوية لضمان تنفيذها. ولكن، بعد كل ما قيلَّ وفُعِل، ما الذي حققته الاتفاقية.

في جوٍ من الوفاق، يتوصل المفاوضون السُّودانيون إلى إجمّاع على مبادئ وترتيبات لا يوجد بدونها سلام ولا وحدة في السُّودان، وشمَّلت:
• الاعتراف بأن السُّودان مُتعدد التنوع: عرقياً ودينياً وثقافياً ولغوياً.
• الاعتراف بالمظالم التاريخية المنعكسة في نظام الحكم وتوزيع الثروة وتخصيص فرص العمل في القطاع العام.
• إصدار ميثاق للحقوق، لأول مرة في التاريخ الدستوري للسُّودان، على أساس الإعلان العالمي لحقوق الإنسّان والمواثيِّق الدولية التي تحكم تلك الحقوق.
• الدعوة إلى إطلاق عملية مصالحة وطنية شّاملة وتضمِّيد الجراح.
• تفويض السّلطة وإقامة نظام حكم لامركزي.
• ضمان الحكم الذاتي الكامل لجنوب السُّودان خلال الفترة الانتقالية لتسّيير شؤون المنطقة التي يحتلها.
• تأسيس الوحدة الوطنية السُّودانية على التمسك بالأهداف المذكورة أعلاه طوال الفترة الانتقالية وما بعدها.
• منح جنوب السُّودان حق تقرير المصّير إما باختيار الوحدة، إذا تحققت الأهداف المذكورة أعلاه، وإذا لم يتم ذلك، مُمّارسة حق الانفصال. من الواضح أن الأهداف المذكورة أعلاه تمثل القيمة المُضافة التي من شأنها أن تُغري جنوب السُّودان، الذي يتمتع بالحكم الذاتي للبقاء موحداً مع الشّمال.

سأتناول في الحلقاتِ القادمة كيفَّ أنه، بالرغم من هذا التوافق على هذه المبادئ، إلا أن طريق تنفيذ الاتفاقية كان مزروعاً بالألغام بسبب سلوك طرفيها (شريكي الحكم)، وأحزاب المعارضة السُّودانية، من جهةٍ، والخلل البنيوي في الاتفاقية المتعلق بمصير مناطق “الانتقال الثلاث”، خاصة منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، مما أفضى لتقسّيم البلاد وأشّعل الحرب مُجدداً، من جهةٍ أُخرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.