رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: (38) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة
الواثق كمير [email protected]
(للمفارقة، تُنشر هذه الحلقة (38) بالتزامن مع اجتماع بجوبا بين رئيس مجلس السيادة ورئيس الحركة الشعبية شمال، القائد عبد العزيز الحلو، حول قضية فصل الدين عن الدولة بغية التوصل إلى إعلان مباديء يحكُّم عملية التفاوض الرسمي بين الطرفين الذي لم يبدأ بعد بسبب عدم الاتفاق على إعلان المباديء هذا، بعد أن أجهض الفريق كباشي مُخرجات ورشة عمل جوبا غير الرسمية، كخطوة تم التوافق عليها في الاتفاق السياسي، وخارطة الطريق، الموقع بين رئيس الوزراء ورئيس الحركة الشعبية بأديس أبابا في 3 سبتمبر 2020، مما وضع العصا في دواليب العملية السلمية. فلعل اللقاء بين رئيس مجلس السيادة ورئيس الحركة الشعبية ينجح في وضع النقاط فوق حروف إعلان للمباديء تستهدي به المفاوضات المُرتقبة).
الحلقة (38)
الدين والدولة: في الرد على دفوعات منصور
ذكرتُّ في الحلقة السابقة (37)، أنَّ النقطتين اللتين طرحهُما منصور تُثيران مجموعة من الأسئلة والقضايا، فكتبتُ إليه ورقة، من 2300 كلمة، في 23 مارس 2007، لابتدار النقاش وإثراء الحوار حول هذه الأسئلة والقضايا.
فأولاً: تشير حُجَّة منصور الأولى إلى أنه حتى لو بقيت الحُدُود على حالها بعد الانتخابات، فإنَّ الجنوبيين، ولا سيَّما غير المُسلمين، أيضاً قد يُدلوا بأصواتهم لصالح خيار الوحدة. والسُّؤال هو: لماذا يقبلون بهذا النوع من الوحدة إذا كان لديهم خيار إنشاء دولة مستقلة لا تُميِّز بين مواطنيها أمام القانون على أساس الدين؟ إنني أميلُ بشدَّة إلى الاعتقاد بأنَّ الجَّدَلَ حول ما إذا كانت هذه القوانين (الحدود) تمثل، أو أنها مجرَّد تحريفٌ وتشويهٌ للشريعة (لا تستحق الحبر الذي كُتبت به، على حدِّ تعبير السيِّد الصَّادق المهدي)، ليس له علاقة بالجنوبيين، أو، في هذا الصَّدَد، كُلَّ قواعد الحركة الشعبيَّة. فالشريعة في عُيون وعُقول الجنوبيين وشُعُوب المناطق المُهمَّشة في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق تُذكِّر بأهوال ورُعب محاكم الطوارئ في أُخريات أيام الرئيس نميري في الحُكم. فقد كان أهالي هذه المناطق هُم الضَّحايا الذين حملوا العبء الأكبر للوحشيَّة والإهانة اللتين ترتبتا على تطبيق قوانين سبتمبر 1983 سيئة السُّمعة.
هذا يقودني إلى النقطة الثانية: فسواءٌ كانت هذه القوانين مُرادفة للشريعة أو تحريفاً لها، فقد واصلت الحركة الشعبيَّة، باستمرار، الرَّفض لها والمُطالبة بإلغائها منذ سَنِّها لأوَّل مرَّة في عام 1983. وعليه، فإنَّ السُؤال المطروح هو: هل الدعوة لإلغاء قوانين سبتمبر تعكس هذا الموقف المبدئي للحركة من فصل الدِّين عن السياسة، أم أنه مجرَّد تزيُّد سياسي؟
لتعميق النقاش مع منصور، في موضوع أثر علاقة الدين بالدولة على نتيجة استفتاء الجنوبيين على تقرير المصير، عُدتُ به إلى الحلقة السابعة، من سلسلة مقالاته، بعنوان: “الدين والسياسة: زراعة الإحن والمحن!”، التي نشرتها صحيفة الأيام في النصف الثاني من عام 2004. ذكرتُّ لمنصور أنه في هذا المقال، استعرض التطوُّر الدُّستوري منذ،أن تمَّ طرح الدين (الإسلام) لأوَّل مرَّة في مسودَّة دستور عام 1968، حتى صُدُور قوانين سبتمبر عام 1983، وانعكاساتها على التطوُّرات السياسيَّة في البلاد، لا سيَّما في جنوب السُّودان. ففي هذا الصَّدد ، قدَّم منصور عددًا من الحجج: 1) لم تكُن لقوانين سبتمبر علاقة مباشرة ببداية الحرب، والتي اندلعت فعلاً بسبب قرارات الرئيس نميري السياسيَّة والعسكريَّة والإداريَّة الكارثيَّة (التي ترقى إلى الإلغاء العملي لاتفاق أديس أبابا للسَّلام)، والتي سبقت سن القوانين. إضافة إلى أنَّ قوانين سبتمبر لم تؤثر على الجنوب، رغم أنها كانت قابلة نظرياً للتطبيق على كل البلاد، 2) اكتسب الصراع بُعداً دينياً بسبب التعصُّب، الذي صاحب عمليَّة الحرب (التصريحات الرسميَّة التي تُصوِّر الحرب على أنها حربٌ ضدَّ “الكَفَرَة”، واعتماد “الجهاد” شعاراً للجيش، وإضفاء الطابع الديني على القوات المسلحة). ولهذا السَّبب اضطرَّت الحركة الشعبية للمُطالبة بإلغاء قوانين سبتمبر وجعل هذا المطلب أحد شروط إنهاء الحرب والمُشاركة في الحُكومة، خاصَّة عندما لم يكُن اقتراح خيار الانفصال، أو حتى حق تقرير المصير، مطروحاً يومذاك، 3) بعد انشقاق الناصر في أغسطس 1991، واتفاق جميع الجنوبيين على حق تقرير المصير، كأساسٍ لأي تسوية سياسيَّة، لم تعُد قضيَّة قوانين سبتمبر تعني الكثير لدى قطاعاتٍ مُقدَّرة من الجنوبيين، خاصَّة الدَّاعين للانفصال. غير أنَّ “الوحدويين” في الحركة ظلوا معنيين بقضيَّة القوانين الدينيَّة. كان هذا هو المنعطف الذي اكتسب فيه الحديث عن الدَّولة “العَلمانيَّة” زخماً كبيراً كشرط لإبقاء السودان موحداً بشكل دائم، أو حتى خلال الفترة الانتقاليَّة. ومع ذلك، فقد أصبح واضحاً منذ الجولات الأولى لمحادثات السلام أن هذه مسألة غير قابلة للتفاوض من جانب الحكومة، خاصةً عندما كان يُنظر إلى مصطلح “العَلمانية” على أنه شرٌ مُستطير، و4) لم يتم تناول مسألة الدين والدولة إلا في مشاكوس، بطريقة مُرضية لطرفين في النزاع، على الرغم من أنها تسبَّبت في قدرٍ من الارتباك. فهكذا، استاء بعض المُعارضين للنظام مما اعتقدوا أنه تنازُلٌ من الحركة الشعبيَّة عن موقفها السابق بشأن دُستور عَلماني لكُلِّ السُّودان، وذلك بقُبُولها “غير الشرعي” باستمرار تطبيق الشريعة في الشمال.
في رأيي أنَّ دُفوعات منصور هذه تُقلِّل من أهميَّة التداعيات الخطيرة لمسألة الدِّين والدَّولة على وحدة ومستقبل البلاد في هذا المنعطف الحرج لمرحلة ما بعد اتفاقيَّة السَّلام الشامل. على وجه الخُصوص، تُبخِسُّ هذه الحجج مركزيَّة قضيَّة الدِّين والدَّولة في رُؤية ومفهوم “الوحدة على أسُس جديدة”، وتنقل الانطباع بأنها وجدت طريقها بالصُّدفة، أو عن غير قصدٍ، إلى الأجندة السياسيَّة للحركة، ممَّا يُلقي أيضاً بظلالٍ من الشك على الطابع “القومي” للحركة.
فأولاً: صحيح أنَّ قوانين سبتمبر لم تكُن من بين الأسباب التي أشعلت فتيل النزاع، بل تمَّ إصدارها بعد إنشاء الحركة الشعبيَّة في مايو 1983، وكانت مدفوعة بقرارات جعفر نميري السياسيَّة المُؤسفة. على الرغم من أنَّ هذه الحجَّة تبدو منطقيَّة وصحيحة ظاهرياً، إلا أنها فشلت في توضيح الافتراض الذي تسعى للتحقق منه، أو الاستنتاج الذي تدَّعي تأكيده. مثل هذه الذريعة تصُبُّ في مصلحة خُصُوم الحركة فقط. وبالفعل، فقد استخدمتها الحكومة أثناء الصِّراع لتشويه موقف الحركة من القوانين الدينيَّة بحُسبان أنه موقف فرضه عليها الشيوعيون وأعداءُ الإسلام. الأمرُ ببساطة، هو أنه من غير المنطقي أو الموضوعي في شيء مطالبة الحركة بخوض معركة بشأن قضيَّة لم تكُن أصلاً موجودة وقت إنشاء الحركة نفسها. وعلى نفس المنوال، يصِحُّ للمرء أن يُجادل بأنه إذا كانت هذه القوانين موجودة قبل نشأة الحركة، فلا شكَّ لكان من المُمكن أن تُشكِّل قضيَّة الدِّين والدَّولة عاملاً رئيساً لإشعال الحرب.
ثانياً: يبدو من غير المعقول القول أنَّ التعصُّب والحمية الدينيَّة في ممارسة الحرب هي التي دفعت الحركة للمُطالبة بإلغاء قوانين سبتمبر، حتى وإن لم يكن حق تقرير المصير مُدرجاً في جدول أعمال الحركة حينئذٍ. توحي هذه الحجَّة إلى أنه لو أُجريت الحرب بشكلٍ احترافي، لما كانت الحركة لتهتم أصلاً بقوانين سبتمبر أو تطالب بإلغائها كأحد شروط إنهاء الحرب. وهكذا، فإنه حتى لو تمَّ استثناء الجنوب من تطبيق الشريعة، فقد ظلت القضيَّة مصدر قلقٍ كبير لزعيم الحركة ومكوناً أساسياً في أطروحته عن “السودان الجديد” و“الوحدة على أسُسٍ جديدة”. فلم تكُن مسألة العلاقة بين الدِّين والدَّولة بحاجة إلى إعادة طرح بسبب التعصُّب الدِّيني الذي رافق سير الحرب في الجنوب. فحتى لو لم يتم تطبيق قوانين الشريعة عملياً في الجنوب، فإنَّ حركة التحرير، التي دعت في بيانها الأوَّل، 1983، إلى “السُّودان المُوحَّد والاشتراكي والعلماني”، لم يكن بإمكانها أن تتصوَّر، أو تحتفل بالدِّين كمصدرٍ للتشريع في أي جزء من البلاد.
الدين والدولة: الحلو يَدَّلُو بِدلوِهِ!
كما أشرتُّ في الحلقة السابقة (37)، أبلغتُ منصور بأنني أيضاً سأُشركُ عبدالعزيز في الحوار حول المذكرة المفاهيميَّة، “الشروط الضروريَّة والكافية لجعل الوحدة جاذبة”، وفي ملاحظاته عليها. وفي 11 مارس 2007، أرسل لي عبدالعزيز تعليقه على مسودة الورقة في رسالة إيميل من محل إقامته بولاية أيوا، بالولايات المتحدة الأمريكيَّة. ولأهميَّة موضوع الحوار، ولعرض رأي عبدالعزيز، الذي ظلَّ ثابتاً حتى هذه اللحظة، سأنقِلُ نصَّ الرسالة كما هي (ترجمة من النص باللغة الإنجليزية):
«مرحباً د. كمير. قرأتُ أطروحتك وهي رائعة. ذلك لأنك وضعت يدك على الجُرح. فإذا كنا جادين في أمر وحدة البلاد، فينبغي على كُلٍ من الحركة الشعبيَّة والقوى السياسيَّة الشماليَّة أن تتحمَّل مسئولياتها من أجل إزالة نظام الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة، وحل مشكلة العلاقة بين الدَّولة والدِّين بشكلٍ نهائي من أجل تجاوُز النص في اتفاقيَّة السَّلام الشامل لنموذج “دولة واحدة بنظامين”. ولكن، لا يمكن أن يتم ذلك إلا عن طريق تشكيل التحالفات والائتلافات بين الطرفين بهدف هزيمة الجبهة الإسلاميَّة والفوز بالانتخابات، ومن ثمَّ إلغاء قوانين الشريعة، وإعادة كتابة الدُّستور على هذا الأساس لمعالجة مخاوف الجنوبيين، وغيرهم من الرَّافضين لهذه القوانين. وهذا يعني أن تنفيذ اتفاقيَّة السَّلام الشامل لا يزال هو السبيل الوحيد للخُروج من أجل استخدام النص المتعلق بالانتخابات. لكن، مرَّة أخرى أنا أتفق معك أنه بدون اتخاذ إجراءات لتجاوز النموذج الراهن لدولة واحدة بنظامين، فإنه لا ينبغي لنا إلقاء اللوم على الجنوبيين إذا اختاروا الانفصال، لأنه في هذه الحالة يتحول الشماليون إلى الانفصاليين الحقيقيين ليكونوا حقيقيين نتيجة لتمسكهم بالشريعة. هذه إجابة سريعة، وتعليق. مبروك على الأفكار والمساهمات العظيمة. أنت تعمل على توضيح الغموض في أذهان العديد من القادة والجماهير السُّودانيَّة. مصير بلدنا على المحك حقاً. عبدالعزيز».
بعد إطلاعه على النقطتين اللتين أثارهما د. منصور، تلقيتُ رسالة إيميل أخرى من عبدالعزيز، في 14 مارس 2007، تعرَّض فيها بالتعليق على المُلاحظتيِن، بقوله، على حدِّ تعبيره:
«أعتقد أنَّ منصور لم يَرَ مغزى أطروحتك. هذه الشريعة كانت هي الحجَّة الوحيدة التي استخدمتها الحركة الشعبيَّة لتأمين الحُصُول على حق تقرير المصير لشعب جنوب السُّودان، بينما أيضاً كانت هي نفس الشريعة التي سيتم استخدامها من قبل الجنوبيين كدافعٍ للانفصال. على الجانب الآخر، فإنَّ ما يُسمَّى بالشريعة ليس أكثر من “الحدود” منذ عهد النبي محمَّد. لم نقرأ أبداً عن الرسُوم الجمركيَّة أو قوانين المرور المُطبَّقة في مدينة الرسول. علاوة على ذلك، تتعارض الشريعة مع مبادئ حُقوق المُواطنة، والديمقراطيَّة الليبراليَّة، وقانون الحُقوق، وحُقوق الإنسان، والمُساواة أمام القانون، إلخ.. إلخ.. فكيف يمكن لرجُلٍ جنوبي أن يصبح رئيساً بموجب قوانين الشريعة؟ فإنَّ المُسلمين سيتِمُّ ارعابهم وتخويفهم من التصويت له. فقد كانت الشريعة منذ التطبيق الأوَّل تهدف إلى ترهيب الجميع، مُسلمين وغير مُسلمين، إلَّا أنَّ ضحاياها الحقيقيين هُم غير المُسلمين من الجنوب أو النوبة أو النيل الأزرق. إنَّ الشريعة هي القضيَّة الجوهريَّة في مسألة وحدة السُّودان وانفصال الجنوب. إنَّ اتفاقيَّة السَّلام الشامل مُعقدةّ. هناك أحكامٌ تسمح للحركة الشعبيَّة، بالتحالف مع القُوى السياسيَّة الأخرى، لإزالة الجبهة الإسلاميَّة من السُّلطة، من خلال الانتخابات، ومن ثمَّ إلغاء قوانين الشريعة قبل الاستفتاء المُرتقب على تقرير المصير، إذا رغبت الحركة الشعبيَّة في ذلك. ومع ذلك، فإنه لا يمكن للقُوى السياسيَّة الشماليَّة أن تفعل ذلك بمُفردها بسبب المُساومة بين هذه القُوى في استخدام الشريعة كبطاقةٍ لكسب نفس الدائرة الانتخابيَّة. عبدالعزيز».
أثبتت تطوُّارت الصِّراع السياسي في السُّودان، أنَّ عبدالعزيز الحلو ظلَّ ثابتاً على موقفه من قضية علاقة الدِّين والدَّولة بوحدة السُّودان، فهُو الموضوع الذي جعله خارج نطاق اتفاقيَّة سلام جوبا، التي تمَّ التوقيع النهائي عليها في 3 أكتوبر 2020.
على ضوء هذا الحوار بيني ومنصور والحلو، عكفتُ على تطوير المذكرة المفاهيميَّة حول مآلات “الوحدة الجاذبة”، وعلاقة المفهوم بأمر الدِّين والدَّولة، ونشرتها في ورقة كاملة الدَّسم، باللغة العربيَّة، بعنوان: “جون قرنق ينادي: فلنسمو فوق ما يُفرقنا!” (صحيفة ‘الصحافة’، 3 أغسطس 2007)، وباللغة الإنجليزيَّة، ‘سودان تربيون’، 31 يوليو 2007). بالطبع، لم تُعير قيادات الحركة الورقة اهتماماً، بالرَّغم من أنني أرسلتُها لغالبيَّة أعضاء المكتب السياسي، ولم تُحرِّك ساكناً، فالقوم كانوا قد حسموا أمرهم في الانفصال.