رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (55)

 

الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر!

جون قرنق والبَحْث عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير

[email protected]

رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: عَودٌ على بَدءٍ!

بيت مَنصُور والحسّد!

أعوُدُ بالقارئ إلى فاتِحة هذه الحلقات، فقد ذكرتُ أنه، ورُبَّما تعويضاً لتقصيري في لقاء منصور منذ سنواتٍ قبل رحيله، طلبتُ وألحَّيتُ في طلبي من رفيقة دربي، د. زينب بشير البكري، أن تزور منصور وتطمئن على صحَّته، حيثُ كانت في السُّودان في إجازة قصيرة للأسرة والأهل، في أغسطس 2018. وبالفعل، زارته زينب في مساء الجُمعة 3 أغسطس، وروت لي كيف بدا لها منصور مهتماً بما يدور في السَّاحة السياسيَّة، وكأنما طغى عليه همٌ ثقيل على مستقبل البلاد.

في هذا السِّياق، لاحظت زينب أنه ركَّز أثناء حديثه القصير معها على أمرين، سأتعرَّض لهُما لاحقاً؛ أوَّلهُما عن بيته ونيَّته في تحويله إلى متحف؛ وثانيهُما عن الحسد.  طلبتُ من زينب أن تسجِّل لي وقائع اللقاء كتابة، وأدناه ما ذكرته من نقاط، على حدِّ تعبيرها:

• زُرتُ الدكتور منصور بعد ظهر يوم الجمعة 3 أغسطس 2018 في منزله بوسط الخُرطوم. كنتُ أزورُ عائلتي بعد مهمَّة عمل في أديس أبابا المجاورة، وعرفتُ أنه كان يُعاني من بعض المُشكلات الصحيَّة. رأيتُهُ آخر مرَّة في تونس عام 2005 في منزل السفير السُّوداني هُناك، وكان قد عاد لتوِّه من رحلة برفقة السيِّدة مها أيوب، نائبة السفير، لشراء أعمال فنيَّة تونسيَّة. أتذكَّرُ ملاحظات مها بوضوح، فقد قالت لي: “إنَّ لدى منصور عيناً مُتفرِّسة للفن وأنَّ التكلفة لا تُمثل مشكلةً له”.

• على أي حال، كانت هذه أوَّل زيارة لي إلى منزله، والتي سمعتُ عنه كثيراً على مرِّ السنين، والشيء الغريب أن المنزل يبدو عادياً جداً ومعالمه غير واضحة من الخارج، ولكن في اللحظة التي تخطو فيها إلى الداخل، تُصيب مشاعرك هزَّةٌ تُنبئُك بأنَّ هذا المكان ليس بمسكنٍ عاديٍ، بل هُو منزلٌ مليء بالتاريخ والذكريات والرِّعاية والحُب.

• يختلف تصميم المنزل اختلافاً كبيراً عن المنازل التي تراها عادة في الخُرطوم، فهو مُكوَّنٌ من مستوياتٍ مختلفة، ممَّا ساعد في عرض الفن الموجود هناك. لا يمكنني وصف حجم الأعمال الفنيَّة المعروضة، بدءً من المنحوتات والتماثيل واللوحات وكُلَّ شيءٍ بينهما. بينما كانت هناك هيمنة على الثيمات الأفريقيَّة، بجانب العديد من القطع الأثريَّة من خارج أفريقيا. عندما جاء د. منصور إلى صالون الضيافة حيثُ كُنتُ أنتظره، استطعتُ أن أقول إنه كان نحيفاً بشكلٍ واضح منذ أن رأيته آخر مرَّة، وكان يمشي ببُطء.

• أظُنُّ أنه أدرك مدى انجذابي تجاه المنزل ومُحتوياته، لذلك بدأ يُخبرُني أنه كان يناقش مع العديد من السُّلطات الأوروبيَّة لتحويل المنزل إلى مُتحفٍ. أخبرتُهُ أنني أعتقدُ أنها فكرة مُمتازة وتسمح للآخرين بالمُشاركة في الاستمتاع بمشاهدة مجموعته الفنيَّة الرَّائعة.

• أخبرني خلال حديثنا أيضاً عن مذكراته التي ستُنشرُ قريباً وتحتوي على مجموعة من الموضوعات التي يتم تناوُلها في هذه المذكرات، بدءً من الشخصيات المحدَّدة التي التقى بها على مرِّ السنين، والتي لعبت دوراً مهماً في تنمية البلاد والتاريخ، وذكر والدي (د. بشير البكري) على وجه التحديد، وطلب مني أن أنظر فيما كتبه عنه.

• كما أبلغني بتحليله لسمات الشخصيَّة السُّودانيَّة التي شَعَرَ أنها تؤثر سلباً على تقدُّم البلاد. وتابع، أنه إذا لم يتمكَّن السُّودانيون من التخلُّص من هذه الصفة بالذات، فلن يتقدَّموا ولن يتوصَّلوا إلى الإجماع السياسي المنشود، الذي كان شرطاً أساسياً لتنمية البلاد والخُرُوج بها من الوضع الصَّعب الذي وجد السُّودان نفسه فيه. الذي كان يشير إليه هو: “الحَسَدْ”. وتابع، أنَّ السُّودانيين يغارون من بعضهم البعض ونجاح بعضهم البعض، وأنهُم غير قادرين على الارتقاء فوق هذه الميزة السلبيَّة لرُؤية الصورة الأكبر للبلاد وما تحتاجه. وقال، إنه ما لم يتخلَّص السُّودانيون من هذه الصفة الدنيئة، فلن يكون هُناك أملٌ كبير في البلاد.

الحسد!

وكما قال د. منصور لزينب، فقد تمَّ نشر مُذكِّراته في أربعة مُجلَّداتٍ سميكة، كما أشَرتُ في مقدِّمة هذه الحلقات “شذراتٌ، وهوامش على سيرة ذاتيَّة”، الذي صَدَرَ من دار رُؤية بالقاهرة، في منتصف نوفمبر 2018. تحصَّلتُ على نسخة من الكتاب بأجزائه الأربعة، تكرَّم الصديق الهادي دياب بإرسالها لي في تورونتو عن طريق الـ DHL، في ديسمبر 2018. وللمُفارقة، أثناء تصفُّحي للجُزء الأوَّل من الكتاب، وقعت عيناي على الفصل الأخير بعنوان “بيت منصور”، والذي فاض بحديثِ منصور عن “الحسد”، الموضوعان اللذان أثارهُما أثناء زيارة زينب له في البيت. في مستهلِّ حديثه في هذا الخُصُوص، يقول إن وصف “بيت منصور” أطلقه السفير الألماني بالخرطوم، الذي استأجر المنزل من منصور بعد مُغادرته للسُّودان في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. أثار البيت لغطاً بين نوعين من الناس، وصف فصلهما منصور، على حدِّ تعبيره: «نوعٌ أثاره العجب من اختلاف شكل البيت عمَّا تعارفوا عليه من بيوت، ومن العجب استطراف الشيء أو إنكاره لعدم التعوُّد عليه. النوع الثاني، هُو الذي يتحوَّل عجبه إلى غيرة، ثمَّ تتحوَّل الغيرة إلى حسد. الغيرة هي فوران نفس إنسان لما وهَبَ الله غيره، وهي حالة قد تدفع المرء للتنافُس، وذلك أمرٌ لا ضير فيه. أمَّا “الحسد” فهو تمني آخر أن يسلبك الله ما مَنَحَكَ من نعمائه حتى وإن لم يُحوِّل تلك النعمة إليه، وفي ذلك ضيرٌ كبير». ويستشهد منصور بقولٍ منسوب لبروفيسر عبدالله الطيِّب، أنَّ بين العرب اثنتي عشرة قبيلة اشتهرت بالحسد، وأنَّ سبعاً من هذه القبائل هاجرت إلى السُّودان. ويتحسَّر منصور على أن تكون هذه الخِصلة البغيضة أكثر تفشياً وسط النُخبة أو الصفوة السُّودانيَّة، وذلك «ممَّا يعني أنَّ ليس لأولئك شيئاً من صفاءٍ، وعلى تلك الصَّفوة يصدُق وصفٌ أطلقه الأستاذ أحمد مختار. ففي ذات مرَّة دعاني الأستاذ الكبير لتناوُل قدحٍ من الشاي معه في مقهى فندق سان جيمز، الذي كان يُطلق على جزءٍ منه في ذلك الزمان Elite Corner. سألني الأستاذ عن ترجمة ذلك الاسم للعربيَّة وكأنه أراد امتحان معرفتي بها، فتبادر إلى ذهني تعبير “ركن الصَّفوة”. وفي تلك اللحظة جال أحمد مختار ببصره فيمن كانوا في ذلك الركن، ثمَّ قال ضاحكاً: “لو ديل الصفوة بتاعتنا العُكارة تكون كيف؟!”.. كلمة عُكارة تشير إلى السَّائل الذي يختفي صفوه عندما تتعلق به مواد دقيقة لا يرى المرء بالعين المُجردة جُزيئاتها. ومنذ ذلك اليوم أصبحتُ كلما كتبتُ كلمة “صفوة” تبادَرَ إلى ذهني من وصفهم أحمد مختار بالعُكارة».

ويتساءل منصور عن لماذا تفشَّت ظاهرة الحسد أو الغيرة المُفرِطة بين هذه الفئة بطريقة تجافي المنطق؟  ويجيبُ، بأنه يصف هذه الظاهرة بـ«اللاعقلانية، لأنها شملت حسد الفقير المُدقع لذي مالٍ أربى ماله بالكد والاجتهاد لا باستغلال الآخرين، أو حسد أي أكاديمي “نُص كُم” لآخر نبغ في مجاله بتفرُّغه للبحث والدراسة، أو حسدُ رسامٍ أو نحَّاتٍ لآخر ذاعت سيرته في الآفاق واكتسب شُهرته لتجويده الرَّسم والنحت، أو حسد مُغني يصدُق عليه القول “إنَّ أَنكَرَ اَلأصَّواتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ” لآخر فُتن الناس بغنائه لما منحه الله من صوتٍ رخيم. جميع هؤُلاء الحَسَدَة ما ذُكر اسم الله حتى قالوا: لا إله إلا هو، وما ذُكِر اسم النبي محمَّد حتى ذَكَّروك بأن تُصلي عليه وتُسلِّم، لكنهم لا يذكُرون أبداً قوله: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عِباد الله إخواناً، أو قول الرسول: “لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا”، كما لا يذكرون من كتاب الله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء، 54]، أو قوله: وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس، 107]. هذا اللون من الحسد يتسم باللؤم الذي لم أجد وصفاً له أبرع مما جاء به عباس العقاد حين قال: “ليس الحاسد هو الذي يطمع أن يساويك حتى يرقى إليك، بل هو من يريد أن تساويه بنزولك إليه”».

اكتشفتُ لاحقاً أنَّ حديث منصور عن الحَسَد لم يكُن مُقتصراً على علاقته بالبيت، بل تطرَّق له في معرض تناوُله لموضوعاتٍ مُختلفة، أستشهد في السطور القادمة بمناسبتين منها. أولهُما: كما أشرتُ في الحلقة (21)، قام منصور بمبادرة إنشاء مُؤسَّسة طوعيَّة للعمل الإنساني، سمَّاها منصور مُؤسسته الطوعيَّة “وكالة السودان للعون الإنساني”، بعد أن حزَّ في قلبه أن يرى الفقر المُدقع وتفشي مرض السُل الفتاك في المنطقة التي كانت المُعارضة تُطلق عليها اسم “الأراضي المحرَّرة”. ومع ما بذله منصور من جهدٍ مشهود في مسعاه الإنساني هذا، إلا أنه، ضمن محاولات أخرى لإجهاض ذلك العمل الإنساني من داخل التجمُّع نفسه، فقد كان حزيناً مسلك بعض القائمين بأمر مُؤسسة إنسانيَّة أنشأها حزب حليف (قوات التحالف السُّودانيَّة). ففي جميع أنحاء العالم، على حدِّ تعبيره «يتبارى الناس في عمل الخير دوماً ولا يتناطحون، إلا بين السُّودانيين حتى وإن كانوا في مهجر. صحبنا أولئك أخذوا يتهامسون كهمس أخفاف الإبل حول مصدر المال الذي جاءت به الوكالة، ونوع الأثاث الذي أثثت به مكاتبها، وكأنَّ ذلك المال قد أُغتُصب من حقٍ لهُم حتى لو أُنفق في غير ما قصد منه… هذا كله تاريخ، ولكن ثمَّة تساؤلاً لا يزال قائماً، هُو: لماذا يتحاسد السُّودانيون حتى في عمل الخير، ولماذا يربض كل واحد منهم بأخيه؟  إن أردت الجواب أعدتُك إلى قول مكي شبيكة عن تحاسُد آباء الاستقلال في مُؤتمر الخرِّيجين. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، رواه الطبري وثُقاة آخرون «لا يزال الناس بخيرٍ ما لم يتحاسدوا». والمناسبة الثانية التي أشار فيها منصور للحسد تتعلق برُدُود الفعل المُختلفة لرحيل جون قرنق المُفاجئ، والتي تراوحت بين الخوف من عدم تنفيذ اتفاقيَّة السَّلام الشامل. ذلك، ليس فقط لأنه كان بمثابة القُوَّة الفكريَّة الذي يقف وراءها، ولكن أيضاً لأنه كان المُروِّج لها وبائعها المُقنع في كُلٍ من الشمال والجنوب. بالنسبة إلى الشمال، فقد قدَّم بشكلٍ مُقنع نموذجاً لوحدة السُّودان على أساسٍ جديدٍ لن يرفضه سوى المتعصِّبون، على الرغم من أنَّ اتفاقيَّة السَّلام الشامل الذي جلبها إلى الخرطوم لم تُمثل نموذجُه الكبير للسُّودان الجديد. بينما، قدَّم إلى جنوب السُّودان إطاراً دُستورياً من شأنه أن يسمح لهم، إذا رغبوا في ذلك، بالانفصال السلمي عن الشمال مع إعطاء الوحدة فرصة أخيرة. ومع ذلك، بدا أنَّ رحيل قرنق كان أيضاً سبباً للابتهاج من قِبَلِ بعض السِّياسيين في جنوب السُّودان، الذين غضبوا من هيمنته على السَّاحة السياسيَّة في الجنوب، وحسده على ظُهُوره على المستويات الوطنيَّة والإقليميَّة والدوليَّة كمتحدِّثٍ بلا مُنازع لشعب جنوب السُّودان.

بيت منصور!

لعمري، لم أسمع عن قريبٍ أو صديق يتغزَّل في منزله ويكتب عنه صفحاتٍ عديدة ويكشف عن تاريخ اقتنائه للأرض وما تبعها من إجراءاتٍ وخُطُوات حتى تمَّ تشييد المنزل وفق تصوُّره. فقد سأله المهندس المعماري المُنفذ “عبدالمنعم مصطفى”: «المنزل يُصمِّمه صاحبه في خياله، فما الذي تُريد؟». يقول منصور: «بما أنَّ الناس في ذلك الزمان كانوا يقضون جُلَّ وقتهم في حديقة المنزل ويسهرون مع رِفاقهم في تلك الحديقة، بل ويهجعون في الليل على أسرَّتهم في الحُوش لنُدرة المُكيفات الهوائيَّة آنذاك، قُلتُ للمِعماري الفذ: مطلبي الأوَّل هو العيش في منزلٍ يتداخل فيه المجال الحيوي الداخلي مع الفضاء الخارجي الطبيعي (land scape) بحيث تصبح الحديقة وحوض السباحة جزءً لا يتجزَّأ من المنزل. وسألني المُهندس: «ثم ماذا؟»، قُلت له: «أن لا يكون المنزل رتيباً لأن الرتابة تورث السقم». قال عبدالمنعم: «لتحقيق لهذه الغايات لابُدَّ من استخدام حيطان زجاجية ينفذ فيها الساكنة ببصره من الدَّاخل للخارج ومن الخارج للداخل، مما يُتيح كل فضاء في الآخر. أما الرتابة فلن يحميك منها غير أن تكون غُرف المنزل والحدائق المُحيطة به في مستويات مُختلفة (split levels)، عُلوية وسُفلية».

أختم الحديث عن “بيت منصور” بتعلقين طريفين على المنزل من صديقين له، يأتيان من خلفيتين مُختلفتين، وبعودة منصور لإثارة ظاهرة الحَسَد. التعليق الأوَّل كان من صديقه رجُلُ الأعمال المعروف حسن إبراهيم مالك، الذي قال لضيوف وأصدقاء دعاهُم منصور للاحتفال بانتقاله إلى داره الجديدة، «ما يُميِّز هذا المنزل هو القيمة المُضافة التي أضفاها عليه صاحبه من خبراته وما رأى في الخارج. فإن كان منصور دكتوراً فبشير عبَّادي أيضاً دكتور، وإن كان وزيراً فعون الشريف قاسم وزير، وإن كان حسن بليل صاحب فُلوس، فأنا أغنى منه ومنكم جميعاً». التعليق الثاني كان من الشيخ القانوني بابكر عوض الله، وكان من أوائل من زار متصور للتهئنة بالارتحال إلى المنزل الجديد، فأعجبه ما رأى. فعند مغادرته لبيت منصور قال له مولانا مُبتسماً: «هل المُهندس العمل البيت ده ما زال حيَّاً؟». ولمعرفة منصور بإلمام بابكر عوض الله بالأدب والتاريخ، فقد فطن إلى ما قصده من قول، فردَّ عليه: «لن يكون جزائي لصديقي المعماري مثل جزاءِ سنمار». فقد أمر النعمان بن المُنذر بقتل المعماري اليهودي، الذي شيَّد له قصراً بعد أن فُتن بالقصر وشاهد افتنان الناس به، حتى لا يبني قصراً مثله لأحدٍ. دعا منصور الله أن يقيه شرَّ الناقمين الذين «لا يُحسنون صنع أي شيء، ولهذا يحسدون غيرهم حتى على المسكن والمَلبَس وربَّما المأكل. وبما أني تعلَّمتُ في الأُسرة أنَّ علاج الحسد يكون بالقرآن، وضعتُ على الباب الداخلي للدار آيات ثلاث: الأولى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة، 137]. والثانية: فَاللَّهُ‌ خَیْرُ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ‌ الرَّاحِمِینَ [يوسف، 64]. أما الثالثة: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ [الأعراف، 24]. الآية الأخيرة تُعبِّر عن يقيني بأنَّ كل شيء في الحياة زائلٌ كزوال الشمس في كبِد السماء. مع كل ذلك أقول إنَّ بيتي هو قُلوب أصدقائي عند الشدَّة، فعند الرَّخاء الكل صديق».

إسدال الستار!

بطوافي على بيت منصور ورُؤيته لظاهرة الحَسَد، يُسدَلُ الستار على رواية رحلتي مع د. منصور خالد منذ أن التقيتُه كفاحاً في أغسطس 1986 في أديس أبابا، إلى رحيله عن دُنيانا في أبريل 2020. التقيتُ بمنصور وجون قرنق في ظهيرة نفس اليوم، وكان لقاءً دشَّن لعلاقة امتدَّت لقرابة العِشرين عاماً مع د. جون، وطَّدت علاقتي مع الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، كما حرَّرتُ وقائعها ووثَّقتُ حوادثها ووقفتُ على مآلاتها في هذه السلسلة من المقالات، حتى ساعة انفصال الجنوب وانفضَّ سامر من خرجنا من ذاتنا لمُلاقاتهم. محطتان هامَّتان في تاريخ تطوُّر العلاقة بين السُّودانيين الشماليين والسُّودانيين الجنوبيين تُجسَّدا، أولاً: في اتفاقية أديس أبابا في عام 1972، والتي أفضت إلى سلامٍ ووحدة، ولو لفترة مُؤقتة. فاندلعت الحرب مُجدداً. ففي مايو 1983 تمَّ الإعلان عن تأسيس الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بزعامة جون قرنق دي مبيور، فقامت الحرب هذه المرَّة طلباً لوحدة السُّودان على أسُسٍ جديدة. فبعد قتالٍ داميِ دام لاثنتين وعشرين عاماً أفضت إلى اتفاقيَّة السَّلام الشامل، التي بدورها قادت إلى تفسيم البلاد.

أختمُ هذه السلسلة من الحلقات ببعض مقالاتٍ أتناولُ فيها ما أطلقتُ عليه “أطروحة منصور خالد حول السَّلام ووحَدة البلاد: الفُرص المُهدرة!”، من واقع مُشاركته النشطة في اتفاقيتي السلام، ولو في سياقين مُتباينين ومن مَوقعين مختلفين لمنصور. فجوهر رحلتي مع د. منصور التي عرضتُها في هذه الرواية كانت تُعبِّرُ عن قصَّة للخُرُوج من الذات لمُلاقاة الآخر المُختلف بهدف العيش في الوطن الواحد/ يسمو فوق هذا الاختلاف، بتحقيق التساوي في الحُقوق والواجبات والمُساواة أمام القانون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.