رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (54)

 

الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر!
جون قرنق والبَحْث عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير
[email protected]

الاعتماد المُتبادل: تعزيز اهتمام بنك التنمية الأفريقي!

قبل إنتهاء مدة عقد المُهّمة الاستشارية مع بنك التنمية الأفريقي، حول الاقتصاد السِّياسي لجنوب السُّودان، بنهاية يوليو، بعثتُ برسّالةٍ إلى إدارة وُحدة الدول الهشّة بالبنك بتقريرِ مُتابعةٍ أخطرته فيها بأنني أعمل بجدٍ على التقرير. ونسبةً لشّمول اختصاصات الدراسة، ونظراً لأنني بقيت لفترةٍ أطول من المتوقع في السُّودان، ذكرت أنني بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الوقت، على أن أحضر إلى تونس لفترةٍ وجيزةٍ لصياغةِ التقرير في شّكله النهائي وتسليمه إلى إدارة البنك. فواصلت في صياغة التقرير حتى توصلت إلى مُسّودةٍ متكاملةٍ في 20 أغسطس 2011، وأرسلتها إلى إدارة الدول للهشة لتوزعها على المديرين ورؤساء الأقسّام المعنيّين بالبنك. ولضمّان دعم البنك لِمُبادرة فيينا، أولاً: أشّركتُ كبير اقتصاديي البنك ونائب الرئيس في مُسّودةِ الدراّسة، من جهةٍ، وثانياً: شّاركت في الاجتماع الإقليِمي لأفريقيا لبناء السّلام والدولة الذي كان البنك أحد منظميه، في أديس أبابا في الأسبوع الأول من سبتمبر 2011، من جهةٍ أُخرى. وقبل أن أتطّرق لهذيّن الموضُّوعين، أُشِّير إلى رسالةِ تهنئة بعثتُ بها إلى قيادات الحركة الشّعبية بمناسبةِ إعلان دولة جنوب السُّودان المُسّتقِلة. فبعد الانتهاء من دراسّتي البحثية، غادرتُ جوبا في 24 يونيو قبل أقل من أسبوعين من إعلان الاستقلال في التاسع من يوليو 2011. وجهت الرسالة إلى أعضاء المكتب السّياسي للحركة، وكل القيادات السّياسية والوزراء والمسّؤولين الحكوميين، خاصة من التقيت بهم أثناء البحث الميداني في جوبا:
“أعزائي الرفاق والأصدقاء. تمنيتُ لو كنت هناك في جوبا بينكم للاحتفال معاً وعيش هذه اللحظة التاريخية التي ساهمتم جميعاً في تحويلها إلى حقيقة. إنه يمثل نهاية طريق طويل ملطخ بالدماءِ والتضحيةِ. لكن عليكم جميعاً أن تجمّعوا رؤوسنا معاً للسّفر في طريقٍ جديدٍ مليءِ بالتحدياتِ الهائلة. دعونا نعمل جميعاً معاً لترسِّيخ السّلام المُسّتدام من خلالِ بناء علاقاتٍ منظمة وتأسيسية بين شّعوبنا في الشمال والجنوب. ألف مبروك وأطيب التمنيات للسّلام والازدهار”.

أولاً: تجاوب كبير الاقتصاديين ونائب رئيس البنك!

في 29 أغسطس 2011، كتبّت إلى ستيف كييزي موغويرا، كبير الاقتصّاديين ونائب رئيس البنك: “سلام من مدينة الكويت. لقد كان من دواعي سروري حقًا أن ألتقي بك في تونس في أوائل شهر يونيو الماضي خلال العرض الذي قدمته حول تحديات السّلام المُسّتدام في السُّودان بمقر البنك. كان من المُؤسِّف أنه لم يكن لدينا الوقت الكافي للتعرف على بعضّنا البعض أكثّر. منّذ ذلك الحين سافرت إلى الخرطوم وجوبا لجمع البيانات لمُهمتي، مع وُحدة الدول الهشة، بشّأن الاقتصاد السّياسي لجنوب السُّودان. قضيت ثلاثة أسابيع في البلاد وعدت إلى الكويت لكتابة مُسّودة تقريري، وآمل أن تكون قد أتيحت لك الفرصة لإلقاء نظرة عليه.
يواجه جنوب السُّودان أربعة تحديات شّاملة يتعين على الدولة الجديدة التعامل معها في وقتٍ واحد. أولاً، إن استدامة السّلام مع شمال السُّودان أمر بالغ الأهمية. كما تعلم، بعد مغادرتي تونس في مطلع يونيو الماضي اندلعت الحرب في جنوب كردفان، حيث خاض أكثر من 30 ألف مقاتل من المنطقة ، نضال التحرير مع الجنوبيين، وهم الآن مرتبطون بـ “الوحدات الأم” من الجيش الشّعبي في الجنوب. اتفاق السّلام الشّامل يلتزم الصّمت بشّأن مصِّيرهم لأن بروتوكول الترتيبات الأمنية للاتفاقية يخاطب الجيش الشّعبي ككتلة صمّاء بغض النظر مكوناته سواء من الشّمال أو الجنوب، بإستثناء وحدات القوات المُدمجة المُشتركة.
أوقفت الحرب الجارية عملية المُشّاورات السّياسية والشّعبية، كما أن هناكَ حاجةٌ مُلِّحة لإعادة النظر الترتيبات الأمنيّة في كل من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. هذا بصّرف النظر عن النقاط الساخنة القابلة للانفجار في أبيي (التي تقع في نفس المنطقة) وغيرها من النقاط الساخنة والمناطق المتنازع عليها على طول أكثر من 2000 كيلومتر من الحدود بين الشمال والجنوب. هذا أمر أسّاسي للأمن والجدوّى السّياسية للدولتين.
ثانياً، يتصدر تحدي بناء السّلام أولويات الدولة الجديدة الناشئة بعد أكثر من عقدين من الحرب المُدمرة. ينبغي تعزيز جهود المُصّالحة السّياسية والوطنية لتمكين حكومة جنوب السُّودان من توفير الأمن لمواطنيها. إن إصلاح قطاع الأمن ضروري، لا سيما تحويل الجيش الشعبي إلى جيش محترف وتقليص حجمه بما يتناسب مع عدد السكان والناتج المحلي الإجمالي. أدى اندماج الآلاف من “الجماعات المسلحة الأخرى” إلى تضخم صفوف الجيش الشعبي على عكس أهداف الإصلاح، وبسبب ضعف قدرة الشرطة، فإن الجيش الشعبي مُثقلٌ بتوفير الأمن العام للمواطنين في الدولة الوليدة.
ثالثاً، إنَّ تحدي بناء الدولة هائل. تفترض الحوكمة السياسية الجيدة التوافق السياسي بين القوى السياسية المتنافسة، وفتح المجال السياسي من قبل الحركة الشعبية كحزب حاكم، وشمول المُشاركة واللامركزية وانتقال السُّلطة إلى الولايات والمسّتويات المحلية للحكومة، ووضع الأساس لعملية دستور دائمة وشفافة وتشّاركيه لتجنب مآزق الدستور الانتقالي. تستدعي ضرورة الحوكمة الاقتصادية الرشيدة معالجة طبيعة الاقتصاد التي تعتمد على النفط لتفادي لعنة الموارد، والتخصيص المُسّتدام للموارد العامة (النفط) من خلال التركيز على القطاع الاجتماعي وتوفير الخدمات لشعب الجنوب المُتطلع، وملء فجوات العجز في القدرات البشرية والمؤسسية فيما يتعلق بإدارة الموارد النفطية والإدارة المالية العامة والاقتصاد الكلي. إن الفساد وتسييس الخدمات العامة، من خلال شبكات المحسوبية العرقية الراسخة، هما عقبتان رئيسيتان أمام الحكم الرشيد. إن الحفاظ على العلاقات الخارجية المتوازنة أمر أساسي لتدعيم عملية بناء الدولة. يحتاج المانحون إلى مراجعة نقدية لاستراتيجيات التدخل الخاصة بهم من خلال تنسّيق أكثر فاعلية، ومواءمة مع أولويات التنمية في جنوب السُّودان، والمزيد من الحوار التفاعلي، والتوصل إلى تفاهم مشترك، مع الحكومة. هناك توقعات كبيرة لدور البنك في دعم هذه الدولة الجديدة. تتجاوز هذه التوقعات المُسّاعدة المالية التي يتمتع البنك بوضعٍ جيد لتقديمها، بل تتعلق أكثر بالطموحات الناشئة عن كون البنك مؤسسة أفريقية ويمتلك نوع الخبرة التي يمكن أن تُسّهِم في بناء وازدهار الدولة الوليدة.
التحدي الرابع هو بناء دولة جنوب السُّودان ومؤسساتها. يفتقر جنوب السُّودان إلى رؤية مشتركة أو هوية مشتركة في أعقاب الانفصال عن الشمال، الذي شكل العدو الذي وحد جميع الجنوبيين على قلبِ رجلٍ واحد. فإذا كانت رؤية السُّودان الجديد للحركة الشّعبية لتحرير السُّودان، والتي دعت إلى إعادة هيكلة السُّودان بأكمله ليكون موطناً لكل السُّودانيين، لم تحدث على المستوى الوطني، فإن مهمةً مماثلة تنتظر الدولة الجديدة، وهي توحيد جنوب السُّودان في تنوعه المتعدد. من الضروري البحث عن بطاقة هوية لـ “جنسيات” جنوب السُّودان تتفوق على الارتباطات الضيقة، والشوفينية العرقية والولاءات البدائية”.

وختمت رسالتي إلى كبير اقتصاديي البنك، “كما ذكرت في العرض التقديمي الذي قدمته في شهر يونيو ، وأكدت في التقرير ، فإن التعاون الاقتصادي بين 12 مليون سُّوداني في الولايات العشر المجاورة في الشّمال والجنوب أمر حيوي لتحقيق الجدوى الاقتصادية لكل من جمهورية السُّودان وجمهورية جنوب السُّودان. في العرض الذي قدمته، أشرتُ أيضاً إلى التفاهم داخل دوائر كلٍ من حزب المؤتمر الوطني والحركة الشّعبية بشأن ضرورة بناءِ علاقاتٍ إستراتيجيةٍ ومنظمة ومؤسسية بين الكيانين المُسّتقلين. لقد أدخل النمساويون المفهوم المقنع ل “لاعتماد المتبادل” بين الجنوب والشمال في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. من خلال البناء على هذه الاعتمادات المتبادلة يمكن تحقيق السّلام المُسّتدام، الهدف الرئيس لاتفاقية السّلام الشّامل”.

ردَّ عليَّ كبير الاقتصاديين ونائب رئيس البنك برسالةٍ في نفسِ اليوم:
“عزيزي كمير. شكرًا جزيلاً على هذا المُلخص المفيد للغاية للتحديات التي تواجه البلدين التوأم، السُّودان وجنوب السُّودان. عند العودة إلى المقر الرئيسي (أنا في إجازة في الولايات المتحدة) سأقضي بعض الوقت في قراءة تقريرك المفصل للغاية والتعليق حسب الاقتضاء. في الواقع، يجب عليك أن تُخطط لإصداره كمنشّور للبنك في المُسّتقبل – كما فعلت وُحدة الدول الهشة من قبل. تسّيرُ خطط البنك الخاصة بالبلدين على قدم وساق، حتى مع تزايد التحديات اليومية لتحقيق الاستقرار في الجنوب. ومن المقرر عقد ورشةِ عملٍ للتحقق من تقييمات البنية التحتية من قبل بنك جنوب السُّودان في منتصف سبتمبر 2011، على الرغم من أن التعديل الوزاري قد يكون له آثار على ذلك. بالنسبة لشمال السُّودان، سيكون لاستكمال “أوراق إستراتيجية الحد من الفقر” أيضاً تداعيات على الدفع بالأمور إلى الأمام – إذ سيُصبِحُ المسّار المؤدي إلى تخفيف الديون أكثر وضُوحاً. مع تحياتي. ستيف ماغويرا”. للمعلومة، أوراق إستراتيجية الحد من الفقر (PRSPs) هي وثائق مطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي قبل أن يتم النظر في إعفاء بلد ما من ديونه ضمن مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC).

ثانياً: المؤتمر الإقليمي لأفريقيا حول بناء السلام والدولة

واّفقت إدارة وُحدة الدول الهشّة بالبنك على طلبّي، كما ذكرتُ أعلاه، بتمديد فترة الدراسة بعد أن كلفتني الوُحدة بالمشّاركة في المؤتمر الإقليمي لأفريقيا حول بِناء السّلام وبِناء الدولة. وعليه، تم تجديد عقد المُهِّمة الاستشّارية لشّهرين إضافيين تبدأ في الأول من أغسطس إلى 30 سبتمبر 2011، بما يُسّمح لي من الانتهاء من تقرير الدراسة، بجانب المُشاركة في هذا المؤتمر بعرض بعض استنتاجات دراسة الاقتصاد السّياسي لجنوب السُّودان. بعث لي أخصائي البرامج بالوُحدة، بازل جونز، بالدعوة للمؤتمر الذي سيُعّقد في أديس أبابا في الفترة من 7 إلى 9 سبتمبر 2011. نظمَّ المؤتمر بنك التنمية الأفريقي (AfDB) ومفوضّية الاتحاد الأفريقي (AUC) ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا (UNECA)، وذلك بهدف المسّاهمة في تشّكيل جدول أعمال “المنتدى الرفيع المُسّتوى الرابع، الذي سيُعّقد في بوسان بكوريا الجنوبية، في 29 نوفمبر 2011، مع تعزيز التعاون الأوسع في بِنّاء السّلام وبناء الدولة. شّارك في الاجتمّاع ما يَقرُبُ من 150 مُشّاركًاً يمثلون الحكومات والمنظمات الدولية والجهات المانحة والسّفارات والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية. وأيضاً شَّارك عشرة وزراء للمالية والتخطيط، بنشاط في المناقشات على مدار اليومين. وشمّلت هذه الدول تشّاد، وجُزر القمر، وجيبّوتي، وغينّيا، وغينيا بيسّاو، وسيراليون، والصومال، وجنوب، السُّودان، وتيمور الشرقية، وزيمبابوي.

شاركتُ في الجلسة الثالثة، ضمن مُجمل جلسات المؤتمر الأربع، في يوم 8 سبتمبر 2011، تحت عنوان “حالات قطريَّة: تجارب بناء السَّلام وبناء الدولة والدروس المستفادة”، مع مُشَّاِرِكين آخرين هُما: د. سامورا ماثيو كامارا، وزير المالية والتخطيط في سيراليون، والسيدة هيلينا ماريا جوس إيمبالو، وزيرة الاقتصاد والتخطيط والتكامل الإقليمي، في غينيا بيساو. ترأس هذه الجلسة السيد كوستي مُنيبي، أوَّل وزير للماليَّة والتخطيط الاقتصادي بدولة جنوب السُّودان بعد شهرين فقط من الانفصال في 9 يوليو 2011.
تحدث د. كامارا عن تجربة سيراليون بعد الحرب في تحديد الأسباب الاقتصادية للصراع، بما في ذلك عدم التمكين لبعض الشرائح الاجتماعيَّة، وضعف شبكات الأمان الاجتماعي، وسوء تقديم الخدمات، والإقصاء السياسي، بما في ذلك تحديات إعادة هذا الوضع إلى المسار الصحيح. لذلك، احتاجوا إلى إنشاء أنظمة لتنفيذ اتفاقات السَّلام ومن ثمَّ الحفاظ على السَّلام، إضافة إلى العمل على إعادة تأسيس سُلطة الدولة والحكم المحلي. ومن بين المعوقات هو تركيز المانحين على المساعدة الإنسانيَّة، بينما كانوا أقلَّ اهتماماً بأهداف التنمية طويلة الأجل. وهكذا، تحرَّكت الحكومة للنظر في محرِّكات النمو الاقتصادي والتنمية البشريَّة، بهدف إدارة الموارد الطبيعيَّة للبلاد إلى درجة عدم الحاجة إلى مانحين. وأضاف كامارا أن من أكبر التحديات التي تواجه الحكومة هي البطالة المُتفشية وسط الشباب والتي لا تزال تشكل خطراً كبيراً وتهديداً لبناء السلام.

والسيدة إمبالوف، بدأت بالكيفيَّة التي أضعف فيها الصراع السياسي لمؤسسات الدولة في غينيا بيساو، ممَّا أدَّى إلى الاتجار بالمُخدرات والجريمة المنظَّمة من بين أمورٍ أخرى. وأوضحت أنهم الآن على طريق الاستقرار بإستراتيجيَّة طموحة لتوطيد السَّلام وتوسيع طاقاتهم ورفع قدراتهم الداخليَّة.

كان العرض (PP) الذي قدمتُه بعنوان “بِناء السّلام والدولة في جنوب السُّودان: تهديد الاستمرارية الاقتصادية والسياسية للدولة، والدروس المُسّتفادة”، وبدأته بأن جنوب السُّودان يجابه نفس التحديات التي تواجهها الدول الهشة الأخرى الخارجة من النزاعات المسلحة:
 بِناء السّلام بعد عقودٍ من النزاعاتِ العرقية التي تم التلاعب بها سياسياً؛
 بِناء هوية ورؤّية مُشّتركة للأُمة الجديدة تُوحدها في تنوعاتها المُتّعددة؛
 بِناء الدولة: الشرعية والمسّاءلة والحوكمة السّياسية والاقتصّادية الجيّدة وحقوق الإنسان؛
 توفير عائد السّلام وتحقيق الوظائف الأساسية للدولة: الأمن والعدالة، وتقديم الخدمات، وتعبئة الإيرادات، وتسّهيل التنمية الاقتصادية وخلق فرص العمل.
ومع ذلك، فبالنسبة لجنوب السُّودان فإن التحدي الأساسي هو إدارة استدامة السّلام والعلاقات مع الشمال في ضّوء:
 حصل الجنوب على الاستقلال من خلال أحكام عملية اتفاق السّلام الشّامل، ومنح جنوب السُّودان حق تقرير المصّير؛
 السلام المُسّتدام هو الهدف الشّامل لاتفاقية السّلام الشّامل بغضِ النظرِ عن نتيجة الاستفتاء: الوحدة أو الانفصال؛
 التحديان الجسّيمان اللذّان يؤثّران على قابلية واستقرار الدولتين، وخاصة الدولة الجديدة في الجنوب، هما: 1) القضايا العالقة في اتفاقية السّلام الشّامل (المواطنة والقضايا ذات الصلة، والعملة والمصارف، والخدمة العامة، والترتيبات الأمنية ، والأمن القومي والاستخبارات، والمعاهدات الدولية والمسّائل القانونية، والديون، والنفط، والمياه الموارد وتوزيع الأصول والخصوم)، و2) ترتيبات ما بعد الانفصال (ترسيم الحدود، النزاع حول أبيي “كشّمير السُّودان”، جنوب كردفان والنيل الأزرق: فشّل المشّورة الشّعبية، والترتيبات الأمنية التي فرضتها اتفاقية السّلام الشّامل، ودارفور: فبالرغم من عدم وجود علاقة مباشرة مع اتفاقية السّلام الشّامل، إلا أن الصِّراع في دارفور له تأثير على السّلام المُسّتقبلي بين الشمال والجنوب).

وأهم الدروس المستفادة من تجربة اتفاقية السلام الشامل تشمل:
 يجب أن يأخذ تصميم اتفاقيات السَّلام في الاعتبار جميع الخيارات وعواقبها بالنسبة لاستيعاب مجموعات المصالح المختلفة والمُتنافسة (تجنب عرض اتفاق السلام الشامل لخيارات “الأسود/ الأبيض” المحدودة: الوحدة مقابل الانفصال)؛
 ضمان شُّمّول وإحاطة اتفاقيات السّلام (إنَّ افتراض أن الانفِصّال السِّلمي للجنوب هو الطريق المُختصر للسّلام، أفسّده تجدد الأعمال العدائية في جنوب كردفان والنيل الأزرق؛
 يجب تفصيل الترتيبات الأمنية مع الأخذ في الاعتبار الحقائق على الأرض وأصل المقاتلين (في السُّودان، والتي تسّتند أساساً في اتفاقية السّلام الشّامل إلى الجيوش المُتحّاربة على طول الانقسّام بين الشّمال والجنّوب)؛
 ينبغي عدم تجاهل الاعتمادات المُتبادلة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي بين المناطق الجغرافية المختلفة للدولة الهشة (لقد أهمّل شُركاء التنمية في جمهوريتي السُّودان وجنوب السُّودان مثل هذه الاعتمادات، ولم يولوا أي اهتمّام للتحول والتنمية الاقتصادية في منطقة “التمازج”؛

بالمشاركة في المؤتمر الإقليمي لأفريقيا حول بِناء السّلام وبِناء الدولة أُسّدلَّ الستار على مهمة دراسة الاقتصاد السّياسي لجنوب السُّودان التي كلفّتني بها وُحدة الدول الهشة ببنك التنمية الأفريقي، بعد أن اعتمدت إدارة البنك التقرير النهائي للدراسة. بجانب، قُبول توصية كبير الاقتصاديين بالبنك (التي وَرَدّتْ في رسالته لي أعلاه)، وقيام إدارة وُحدة الدول الهشة بطباعة التقرير النهائي للدراسة ونشّره في كتابٍ باللغتين الإنجليزية والفرنسية، بعد ترجمته، وهما اللغتان المُعتمدتان في البنك (“Perspectives on the Political Economy of South Sudan”, Fragile States Unit, African Development Bank, 001/2011).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.