رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (47) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْث عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

مساعي الحصول على دعم جوبا لمشروع الاعتماد المتبادل

نوَّهتُ في الحلقة السَّابقة، إلى أن صياغة المُذكرة المفاهيميَّة قد شكَّل المسّار الأوَّل باتجاه تحقيق أهداف مبادرة فيينا. أمَّا في المسار الثاني، فلم يتوقف منصور ولوال في مسعاهما لنقل الرِّسالة إلى قيادة الحركة لكي تتبنى مشروع “فيينا IV” وتقديم كل ما يستدعيه من دعم. وبالفعل، نجح منصور ولوال في حثِّ رئيس الحركة الشعبيَّة، ورئيس حُكومة الجنوب، لعقد اجتماعٍ مُصغَّر في جوبا مُنتصف يناير 2011، للتأمُّل في مصير الحركة في الشمال والعلاقات المُحتملة بين الدَّولة الوليدة في الجنوب ودولة السُّودان في الشمال. ترأس الاجتماع سلفا كير، وضمَّ د. منصور وباقان أموم ولوال دينق ونيال دينق ودينق ألور وياسر عرمان. لم أتمكَّن من حُضُور الاجتماع نسبة لمُغادرتي إلى الكويت في ذلك الوقت. ومع ذلك، أطلعني لوال دينق، في رسالة بتاريخ 23 يناير 2011، على تلخيصه لمُداولات ونتائج الاجتماع فيما يتعلق بالهدفين اللذين تضمَّنهُما جدول الأجندة: وضع الحركة في الشمال، والعلاقات المستقبليَّة بين البلدين.

ذكر لي لوال في رسالته، وهي من أربع نقاط، أنه سيقوم بنسخها إلى لوكا بيونق بغرض إشراكِه فيما خرج به من انطباع عن لقائه مع “الرجل الكبير” The Big Boss، وبالطبع يقصُد سلفا كير:
• أولاً: يُنظر إلى التعايُش السِّلمي بين الدولتين السُّودانيتين المُستقلتين على أنه نقطة انطلاق إستراتيجيَّة لصياغة سياسة الحركة الشعبيَّة بعد الاستفتاء، وإنشاء دولة جنوب السُّودان. هذا، بدوره، يتطلب سلسلة من الخُطوات والإجراءات الضَّروريَّة لتحقيقها. وكان من بين هذه الضرورات المُلحَّة، تقوية وتعزيز قطاع الشمال للحركة الشعبيَّة ليُصبح حزباً سياسياً كاملاً في شمال السُّودان. من ناحية أخرى، فإنّ هذا يستدعي توفير الموارد الماليَّة على الفور وليس بعد نهاية الفترة الانتقاليَّة. كان ينبغي أن تبدأ هذه العمليَّة، في رأيي، بمجرَّد عودتنا إلى الخُرطوم، في أبريل 2005. فبالإضافة إلى الأموال التي تقدِّمها الأمانة العامة للحركة وحكومة جنوب السُّودان، كان هناك اقتراحٌ جيِّد من الأمين العام لإيجاد أدوات/مصادر استثماريَّة يُمكن من خلالها توفير موارد تمويل مُستدامة للحركة الشعبيَّة في الشمال، حتى لا يتم اتهامها بتلقي التمويل من دولة أجنبيَّة، مثل جنوب السُّودان. لديَّ بعض الأفكار في هذا الصَّدد وأعتزمُ عدم انتظار أي “أوامر عسكرية بالتقدُّم”!
• ثانياً: سوف نحتاج للتعجيل بعمليَّة التعميق الفكري لِمُبادرة الاعتماد المُتبادل من خلال آليَّة سلسلة اجتماعات فيينا. لا داعي إلى انتظار أي تعليمات، فإنه من واجبنا أن نتولى زمام القيادة، فلدينا الموارد لتحقيق الأشياء.
• ثالثاً: الحاجة إلى رسالة واضحة من قيادة الحركة، خاصة من رئيسها، للشعب السُّوداني في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ: “الطلاق السِّلمّي”، والإجراءات التقشُّفيَّة التي اتخذتها الحكومة في الخُرطوم مُؤخراً. أعتقد أنَّ العناصر الرئيسيَّة لمثل هذه الرسالة تتطلب مسحاً شاملاً للتحديات الرئيسيَّة التي تواجه كل من الحركة الشعبيَّة والمُؤتمر الوطني، من جهة، والجنوب والشمال، من جهةٍ أخرى.
• ورابعاً: تمَّ التطرُّق بإيجازٍ إلى دروس التجربة من فترة ما قبل الفترة الانتقاليَّة لعام 2005، ولكن لم يكُن هناك أي تجاوُبٍ جِدِّي. أنا شخصِّياً، أعتقدُ أنَّ هذه النقطة ستحتاج إلى تفصيلٍ أكثر، وإلا فمن المُحّتمل أن نرتكب نفس الأخطاء.

المكتب السياسي للحركة: رسائل مع منصور!

أمَّا د. منصور، فقد أرسل لي رسالة، صنفها بـ“السرية للغاية”، في 10 فبراير 2011، مُكوَّنة من خمس فقرات، ذكرَ فيها:
• أولاً: نحنُ نستعدُّ للذهاب إلى جوبا لحُضُور اجتماع لمدَّة ثلاثة أيام للمكتب السياسي للحركة. جدول أعمال الاجتماع محدود ولكنه ثقيل العيار: i) توقعات الحركة الشعبية بعد الاستفتاء، ii) الحوار بين الجنوب والجنوب، iii) القضايا العالقة بعد الاستفتاء، iv) مستقبل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان.
• ثانياً: النبأ السَّار هُو أنَّ المُبادرة لعقد الاجتماع جاءت من سلفا كير وليس من “المُحرِّضين” من السُّودانيين الجُدُد. كان اهتمامي مُنصباً في الآتي: i. يجب على الحركة أن تضع شروط التوافُق السياسي مع الأحزاب الجنوبيَّة، حتى لا يتم الاستيلاء على الحركة من قبل الآخرين، ii. يجب وضع إجراءات ما بعد الاستفتاء بطريقةٍ تمهد الطريق لنسخةٍ مختلفةٍ من الوحدة على أسُسٍ جديدة، iii. فيما يتعلق بطريقة تفكير الحركة الشعبية (القطاع الشمالي)، فإنَّ أسلوب تفكير سلفا هو الأكثر واقعيَّة، وهو التأكد من أنَّ المُؤتمر الوطني يضَّمن كل الحريَّة اللازمة للقطاع للعمل بدون مُعوِّقات، مع تزويده (من قبل الحركة الأم) بالإمكانيات اللازمة لمُواصلة نشاطه السياسي.
• ثالثاً: إنَّ المعنى فيما ورد في “1 (i)” أعلاه، كما أوضحتُ لك ذات مرَّة، هو التنقيب في أذهان الرِّفاق الذين يبدو أنهم يعتقدون أنَّ كل شيءٍ على ما يرام منذ أن تمَّ تجاوُز يوم النصر (9 يناير 2011) بسلام، بينما تقرير المصير يبدأ في الأيام التالية لذلك. سترى بعض آرائي حول هذا الموضوع في الفُصُول الثلاثة من الكتاب التي ستتلقاه قريباً (كان منصور حينئذٍ عاكفاً على مشَّروع كتاب جديد، باللغة الإنجليزيَّة، يتضمَّن مراجعة نقديَّة لمسيرة الحركة الشعبيَّة، والذي كان يبعث لي بمُسودَّات فُصُوله للمُراجعة والتدقيق. للمُفارقة، استغرق منصور في الكتابة لسنوات، إذ لم يصدُر الكتاب إلا في 2015 بعنوان: (The Paradox of Two Sudans: The CPA and the Road to Partition، “تناقُض السُّودانيَن: اتفاقيَّة السَّلام الشامل والطريق نحو التقسيم”، والذي سأتعرَّض له في الحلقات الأخيرة من هذه السلسلة). إذا لم يتم الالتفات لذلك، فإنَّ جنوب السُّودان سوف يسلُك طريق الكونغو، وسيكون هذا أيضاً هو التحدِّي الحقيقي للسياسيِّين الجنوبيِّين الذين يستعدون لتقاسُم الغنائم.
• رابعاً: فيما يتعلق بالفقرة “1 iii”، فقد حان الوقت الآن للمُضِيِّ قُدُماً في مشروع فيينا. أنا ولوال نفكر الآن في عقد “فييناIV” في جوبا بهدف: 1) تفّعِيل الأفكار التي اتفقنا عليها والقاضية بإشراك وسائل الإعلام في العمليَّة بطريقةً مستدامة وذات مغزى، و2) توحيد الجهود والتنسيق بين الأطراف المختلفة في مشروع التمازج بهدف بلورة خُطة عمل مع وضع علامات مرجعيَّة محدَّدة يتم تحقيقها ضمن جداول زمنيَّة محدَّدة.
• وخامساً: قبل يومين، قُمتُ بتنظيم مأدُبة عشاء في المنزل لثابو امبيكي مع عددٍ من الأكاديميين المُهتمين بالحوار حول تداعيات الاستفتاء على شمال السُّودان. امبيكي، كما قد تتوقع، كان مذهولاً تماماً من سُلوك الطبقة السياسيَّة الشماليَّة. كما ذكرتُ في فصول الكتاب، فإنَّ هذه الطبقة لم تتوقف عن خوضِ معارك الأمس، ولا تزال غافلةً عن مشاكل اليوم، ناهيك عن تحديات الغد. ولا حتى الهزَّات السياسيَّة، والتي هزَّت المنطقة من تونس إلى اليمن، كانت كافية لتوعيتهم ببزوغ أجيالٍ جديدة ذات تطلُّعاتٍ وآمالٍ وتقاليد سياسيَّة مختلفة. لقد كان منعشاً جداً أن أكون مُحاطاً بزُملائك: عطا بطحاني، صفوت فانوس، حسبو عبَّاس، الفاتح شاع الدين، إضافة إلى: نبيل أديب، أنيس حجَّار، نيهال دينق ، لوال، وياسر. وختم منصور مذكرته بطلبه مني الإسراع في صياغة مسودَّة المذكرة المفاهيميَّة لاجتماع “فيينا IV”.

لم أكن مرتاحاً لرسالة منصور، التي عجِزتُ عن فكِّ بعض طلاسِمّها، خاصة وأنه لم يُشِر بطريقةٍ واضحة إلى وضع مشروع مبادرة فيينا من أجندة اجتماع المكتب السِّياسي للحركة، بل اكتفي فقط بإيراد تفاهُمه مع لوال دينق (الذي لم يكن عُضواً فيه) حول الموضوع. في رسالة، بتاريخ 13 فبراير 2811، أشركتُ لوال في انطباعي عن رسالة منصور الصَّامتة تماماً بشأن عمليَّة فيينا في اجتماع المكتب السياسي المُرتقب، وأنني سأرُدُّ عليه طالباً التوضيح. ففي 14 فبراير، بعثتُ برسالتي إلى منصور شكرتُه فيها على مُذكِرته جزيلاً، وقلتُ له:
«على الرغم من أنني توقعتُ أن تُرسل إلي المُلخص الموعود للاجتماع الذي عقدته في جوبا مع الرئيس سلفا منذ 3 أسابيع! ومع ذلك، سوف أُطلِعُك على بعض المُلاحظات:
أولاً: لستُ متأكداً ممَّا إذا كُنتُ قد فهمتُ إشارتُك إلى “المُحرِّضين من “السُّودانيين الجُدُد“ فيما يتعلق بمن هُم، وأهميَّة من جاء بالفعل بمُبادرة اجتماع المكتب السياسي؟ فأنا أفترضُ أنه من الضَّروري ومن المنطقي أن ينعقد المكتب السياسي بعد إعلان نتائج الاستفتاء، بغضِّ النظر عن من هُم الدُّعاة لهذا الاجتماع! في الواقع، بخُصُوص هذه الدعوة تنُصُّ المادة 20 (1) من دُستور الحركة الشعبيَّة على أن: “اجتماعات المكتب السياسي يجب أن يدعو الرئيس بمبادرةٍ منه، أو بناءً على توصية من الأمين العام إلى الرئيس، أو بناءً على طلب كتابي إليه بما لا يقل عن ثلث أعضاء المكتب”.
ثانياً: فيما يتعلق بشروط التوافق السياسي في الجنوب، أتفق معك في أنَّ الحركة يجب أن تُمسِك بزمام المُبادرة في وضع تلك الشُروط. ومع ذلك، يجب أن يسترشد مسَّعى الحركة في هذا الصدد بمبدأين: 1) للتوفيق الفعال والصَّادق بين الآراء والمصالح السياسيَّة المتضاربة لمختلف الأحزاب والتنظيمات (بما في ذلك المتمرِّدين المُسلحين والمُستقلين الذين خسروا الانتخابات)، و2) يجب على الحركة أن تضع نفسها في مكان المجموعات السياسيَّة في الشمال (بما في ذلك قواعدها هي نفسها)، وتجنب إتباع خُطى المُؤتمر الوطني، الذي لا يرسم وحده شروط التسوية فحسْب، بل يسعى أيضاً إلى فرضها من جانبٍ واحد، وهذه وصفة جاهزة لمضاعفة التوتر والصراع.
ثالثاً: فيما يتعلق بـ“2 iii”، من رسالتك حول قطاع الشمال، فإنه ينبغي للمُؤتمر الوطني أن يفتح المجال السياسي بنفس القدر، وأن يضمن حُريَّة العمل للقوى السياسيَّة الأخرى، ولا سيَّما بقيَّة الحركة الشعبيَّة في الشمال، بالإضافة إلى قواعد الحركة في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق. لكن السؤال هو: كيف نضع هذا المطلب في موضع التنفيذ؟ أعتقد أنه يجب على رئيس الحركة أن يقترح عقد اجتماعٍ مع قيادة المُؤتمر الوطني والرئيس نفسه، وقيادة الحركة في الشمال لمناقشة الضَّمانات والإجراءات المطلوبة، والتوصُّل إلى تفاهُمٍ مُشترك.
رابعاً: أتفق معك تماماً في أن “يوم النصر”، ا يناير 2011، ليس بنهاية القصَّة، بل هو اليوم الذي تبدأ فيه التحديات الحقيقيَّة، فهي ما زالت تنتظرنا في مرحلة ما بعد الاستفتاء.
خامساً: كما أنه من المهم عدم إلقاء اللوم على السياسيين الجنوبيين من الأحزاب الأخرى فقط، ومحاسبتهم وحدهم على خطايا ورذائل السياسة في الجنوب، مع إعفاء الحركة الشعبيَّة من مسئوليتها في إعداد الدَّولة الجديدة لمسّتقبلٍ مشّرقٍ. لقد طال انتظار الحركة الشعبيَّة، التي تتمتع بسيطرةٍ شبه كاملة على الجنوب، لتوضيح كيف ستعمل على تحقيق أهداف: “إعادة هيكلة السلطة” و“الحُكم الديمُقراطي وحقوق الإنسان” و“التنمية المُتكافئة والمُستدامة”. السُؤال ذو الصلة هو: كيف يمكن للحركة أن تتصدَّى للحُكم الديمُقراطي المدني دون إخضاع الجيش الشعبي رسمياً للسُّلطة المدنيَّة، من خلال التأكُّد من أن رئيس حكومة جنوب السُّودان مدني وليس قائداً بالزي الرَّسمي للجيش الشعبي لتحرير السُّودان؟ (إن محاولة الانقلاب الفاشلة مؤخراً نذيرٌ بأزمة وشيكة).
وأخيراً، فيما يتعلق بـ“3 iii”، من رسالتك، ما كُنتُ قد فهمته أن مبادرة فيينا ستُدار من قبل مراكز البحوث الثلاثة – “الترويكا”. إنَّ الخبرة والدُروس المُستفادة من “فيينا III”، قد تعلَّمنا منها ضرورة الحاجة إلى تنسيق واتفاق أفضل على تقسيم العمل المُتصل بالإعداد والتحضير. لا أعرف متى وكيف ستقوم بذلك. ومع ذلك، فقد بدأتُ، ومعي عبدالله حمدوك، في صياغة المذكِّرة المفاهيميَّة لاجتماع “فيينا IV”، بما في ذلك الأسماء المقترحة للمُشاركة».

في نفس اليوم، 14 فبراير 2011، تلقيتُ رسالة مُقتضبة من لوال دينق أثنى فيها على ردِّي على منصور، آملاً في استجابته لرسالتي. وأضاف لوال أنه قد تحدَّث إلى منصور في الليلة الماضية، والذي وَعَدَ بأنه سيتواصل معي بشأن مُنتدى “فيينا الرابع”.

في الحلقات القادمة، سأتطرَّقُ إلى ما تمَّ بذله من جُهُودٍ للحُصُول على موافقة حُكومة الوحدة الوطنيَّة، من جهة، والشُرُوع في الإعداد للاجتماع المُزمع، من جهة أخرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.