رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (35) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة
الواثق كمير [email protected]
منصور: شُغل أكثر من موقع!
مستشار رئيس الجمهورية
إضافة إلى العمل السياسي في المكتب السياسي للحركة الشعبيَّة، ونشاطه بحُكم وضعه الاستشاري لرئيس الحركة، تسنَّم منصور موقعين آخرين مُهمَّين: كأحد مستشاري رئيس الجُمهُوريَّة، ورئيس مجلس إدارة شركة الصمغ العربي. قبل تشكيل حُكومة الوحدة الوطنيَّة بين المُؤتمر الوطني والحركة الشعبيَّة، شريكي الحُكم الانتقالي الرئيسَيْن، في النصف الثاني من سبتمبر 2005، توقع كثيرون أن يكون منصور واحداً من رجالات مرحلة ما بعد الاتفاق في السُّودان الجَّديد. وفي الواقع، كان هناك ثمَّة خبر متداولاً في حيِّزٍ ضيِّق عن أنَّ الرَّجُل سوف يكون مُرشَّح الحركة لمنصب وزير الخارجيَّة في هذه الحكومة. هذا التكهُّن لم يكُن صحيحاً، إذ أنَّ منصور، بواقعيَّته السياسيَّة، لا شكَّ كان مُدرِكاً أنَّ ترشيحه لن يجد القُبول من قيادات المُؤتمر الوطني، خاصَّة تلك العازمة على النُكُوص والتراجع عن اتفاقيَّة السَّلام الشامل، ناهيك عن الرَّئيس، الذي لم يُخفِ توجُّسه من منصور، ولو همساً. حقيقة الأمر، أنَّ رئيس الحركة، الفريق سلفا كير، وهو أيضاً مُلمٌ بما يتم تداوُله، هُو من رشَّح منصور لموقع مستشار رئيس الجُمهُوريَّة. لم يكُن للبشير خياراً غير إصدار مرسوم بتعيينه، ضمن مُرشَّحي الحركة للمناصب الاتحاديَّة المُختلفة، إذ لا يصِحُّ سياسياً للرئيس أن يرفُضَ طلب تعيين منصور في موقعٍ ضمن حصة الحركة الشعبيَّة، طالما لم يكن الترشيح لوزارة الخارجيَّة. وصدق رابح فيلالي، مراسل قناة ‘الحُرَّة’، الذي أجرى لقاءً صحفياً مع منصور في ضاحية نيفاشا، في أواخر عام 2004، والاتفاقيَّة على وشك التوقيع النهائي، فقال أنَّ الرئيس البشير «وقتها كان له رأيٌ مملوءٌ بتراكُمات الماضي الطويل والمُعقد في السُّودان حيث رفض الأمر بالمُطلق استناداً إلى خلفياتٍ شخصيَّة وإلى قصة الدبلوماسي الشمالي الذي انضمَّ إلى الجنوب، وأقسم بأغلظ الإيمان ألا يكون منصور وزيراً للخارجيَّة، طالما هو من يحكُم السُّودان».
وفي 27 ديسمبر 2007، تمَّ الانتهاء من ما كان يُعرفُ بأزمة شريكي اتفاق السلام الشامل، وأدَّى وزراء ومستشاري الحركة الشعبيَّة اليمين الدُّستُوريَّة أمام الرئيس البشير، إيذاناً بعودتهم إلى الحُكومة الاتحاديَّة بعد مقاطعة دامت نحو شهرين. حُلَّت الأزمة بتوافق الشريكين على مصفوفة حدَّدت تنفيذ بنود اتفاقيَّة السَّلام التي بسببها احتجَّت الحركة وسحبت وُزرائها من حُكومة الخُرطوم. وفي نفس الوقت، قامت الحركة الشعبيَّة بإجراء تعديلٍ كبير على تشكيلتها الوزاريَّة، فصدرت عدَّة مراسيم رئاسيَّة بتعيين وزراء بحُكومة الوحدة الوطنيَّة: باقان أموم لوزارة رئاسة مجلس الوزراء، دينق ألور لوزارة الخارجية، جيمس كوك ريو لوزارة التجارة الخارجية، فيليب طون ليك لوزارة النقل والطرق والجسور، كوستي مانيبي لوزارة الاستثمار، هارون رون لوال لوزارة الشئون الإنسانية وجورج بورينق نيامى لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. كما تمَّ تعيين ستة وزراء دولة، هُم: لوال اشويل لوال وزير دولة بوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، عبَّاس جمعة عبيدالله وزير دولة بوزارة الداخليَّة، ويك مامر كوال وزير دولة بوزارة العدل، أبوش أجوك أكو وزير دولة بوزارة الزراعة والغابات، بول مريال دوت وزير دولة بوزارة الصناعة وإسماعيل خميس جلاب وزير دولة بوزارة الثروة الحيوانية والسمكيَّة. وأيضاً، مع هذا التعديل في طاقم الحركة في الحكومة، طفح اسم منصور كوزير للخارجيَّة للمرَّة الثانية، وهو الأمر الذي لم يحدُث، إذ أنه بموجب أحد هذه المراسيم جرى تعيين ثلاثة مستشارين لرئيس الجُمهُوريَّة، بترشيحٍ من رئيس الحركة، وهُم: الدكتور منصور خالد، وليم اجال دينق واندرو ماكور.
على كُلِّ حالٍ، بقي منصور في موقعه كمستشار لرئيس الجُمهُوريَّة طوال سنوات الانتقال الست، ولو أنني لا أظُنُّ أنه كان مرتاحاً في هذا المنصب، والذي لم يذكُره قط في مجلَّدات مذكراته الأربعة الصادرة في كتاب “شذراتٍ على، وهوامش على سيرة ذاتيَّة” (منصور2018، نفس المصدر). فابتداءً، لم يُخصَّص لمنصور مكتب في القصر الجُمهُوريَّة ليكون قريباً من الرئيس بحُكم المنطق، بل مُنِحَ مكتبٌ في مبني وزارة الحُكم الاتحادي، الذي كان يستضيف عدداً من الوُزراء ووزراء الدولة. استخدم منصور كُلَّ الحِيَل والأعذار لينفد بجلده من ذلك المبنى، والذي اعتبره لا يليق بموقعه، وعدَّه فعلاً مقصوداً لإبعاده من القصر، فظلَّ يباشر المهام المُوكلة له من منزله حتى يوليو 2011. لم أكُن أُلِحُّ على منصور بالسُّؤال عن انطباعه من العمل كمُستشارٍ للرئيس، فالخطاب من عنوانه بائن. فقد كُنتُ أُدرِكُ أنَّ مستشاري القصر ليست لهُم صلاحيات محدَّدة وواضحة، وأنه حينما كان يُطلبُ في مُهمَّة داخليَّة أو خارجيَّة، تأتيه التوجيهات عبر موظفي المراسم داخل القصر الجُمهُوري.
لم يكن منصور يلتقي برئيس الجُمهُوريَّة مباشرة، ربَّما باستثناء المناسبات العامَّة وفي تقديم التهاني بعيدي الفطر والأضحى. ومع ذلك، كان جُلَّ تواصُله وأغلب اتصالاته مع شيخ علي عُثمان، نائب رئيس الجُمهُوريَّة، والذي كان يستشير منصور في بعض المواضيع، ولعلَّ ذلك بسبب ما نشأ من علاقة “وُديَّة” بين على عثمان ود. جون خلال مفاوضات نيفاشا. ولم يُخفِ منصور علاقته الجيِّدة مع نائب الرئيس، ولو بطريقة غير مباشرة، في حوارٍ أداره معه الأستاذ سامي كُليب في برنامج “زيارة خاصة”، لقناة ‘الجزيرة’، في 12 يوليو 2007. فقد وجَّه مُقدِّم البرنامج سؤالاً إلى منصور مفاده: «ذكرت من قبل بأنَّ البعض بعد أن دُفِنَ الدكتور جون قرنق يسعى لدَفن الأستاذ علي عثمان محمَّد طه حياً.. من كنت تقصد؟».. وردَّ عليه منصور بالقول: «ليس هنالك داعي للتفصيل، لكن من الواضح جداً هنالك أشخاص معدودين لم يكونوا راضين بالاتفاقية مُطلقاً، وغير راغبين في تنفيذها ويعملون ضدَّها، وربما كان بعضاً منهم يعتبر الأستاذ علي عثمان “باع القضية” كما يفهمونها. وهؤُلاء لم يأخذوا في الاعتبار أنَّ الاتفاقية هذه حققت السَّلام لكُلِّ السُّودان، وحققت للجنوب وضعاً لم يتحقق له من قبل، من ناحية اللامركزي وحققت للجنوبيين مشاركة في الحكومة القومية بصورة لم تكن معروفة من قبل. هذه الاتفاقية أيضاً حققت للمُؤتمر الوطني الشرعيَّة، بمعنى أن المُؤتمر الوطني كان لديه علاقات لا تستطيع أن تقول أنها طيِّبة مع كثيرٍ من دول الجِوار، كثيرٌ من الدُّول الغربيَّة، وكثير من الدُّول الأفريقيَّة، ولكن أهمَّ من ذلك كله مع المُعارضة التي حملت السلاح ممثلة في الحركة الشعبيَّة، والمعارضة الأخرى التي ظلت تطالب باقتلاع هذا النظام من جُذوره. هذه الاتفاقيَّة حققت اعترافاً من الجميع بالنظام باعتباره حكومة أمر واقع وبإعطائها الشرعية، مع أن الامتحان يكون في النهاية بالعودة للناس. أفتكر العناصر التي لم تدرك هذه الحقيقة، هي العناصر الغير راضية عن ما حققته الاتفاقيَّة لكل الأطراف». حقيقة الأمر، أنه في ذلك الوقت قد قامت حملة انتقادات حادَّة مُوجَّهة ضدَّ علي عُثمان وكل قيادات المُؤتمر الوطني المُشاركين في وفد مفاوضات السَّلام، بل وأُبعِدَ أغلبهم من المواقع القياديَّة التنفيذيَّة. فهؤُلاء هُم الذين كانت لهُم علاقة طيِّبة مع منصور، وتعاونوا معه في مشاريع مُشتركة، خاصة فيما يلي قضيَّتي السَّلام والعلاقة المستقبليَّة مع جنوب السُّودان، والتي سأتطرَّق إلى بعض منها في الحلقات القادمة.
لم يكن الرئيس البشير يعبأ كثيراً بمستشاريه، أو يُعطِهيم التقدير المُستحق، فطوال سنوات الانتقال السِت لم يتِم تكليف منصور بِملفٍ ساخنٍ أو قضيَّة هامَّة على الصعيد القومي. فكان أوَّل تكليف طُلِبَ منه القُبول به، كان إعداد خطاب رئيس الجُمهُوريَّة بمناسبة العيد الخمسين لاستقلال البلاد من الحُكم الاستعماري، عام 2006. ومن المهام الأخرى، التي علِمتُها من مدير مكتبه ومرافقه لعقدٍ من الزمان، عبدالملك عبدالباقي، أنه في الشهر التالي تمَّ تكليفه بدعوة رُؤساء وملوك دول شمال أفريقيا، الذي انعقد في الخرطوم، 29 مارس 2006، والتي اقتضت سفره إلى تونس والمغرب وليبيا وموريتاتيا والجزائر. ومن مهامه الخارجيَّة، وليس بصفته فقط كمستشار لرئيس الجُمهُوريَّة، بل أيضاً كمبعوث شخصي لرئيس حُكومة الجنوب، ترأُسه لوفدٍ لزيارة دولة الإمارات العربيَّة المتحدة، في نهاية مارس 2009. ضمَّ الوفد: د. جون لوك، وزير الطاقة والتعدين، ديفيد دينق، وزير الطرق والنقل، دانييل واني، وكيل الوزارة، أركانجلو اوكوانج أولير، وكيل وزارة الطاقة والتعدين، وأحمد جعفر أحمد عبدالكريم، سفير السُّودان لدى الدولة. كما قام منصور، بصفته مستشاراً لرئيس الجُمهُوريَّة، بعدَّة زيارات إلى إيطاليا طوال فترة الانتقال، 2005-2011.
منصور: رئيس مجلس إدارة شركة الصمغ العربي
خلال الفترة الانتقاليَّة التي أعقبت اتفاقيَّة السَّلام الشامل، تسنَّم منصور أيضا موقعاً آخر كرئيس لمجلس إدارة شركة الصمغ العربي، في أواخر عام 2005. وبالرغم من أنَّ منصور من المختصين في الزراعة أو شأن الصمغ العربي بالتحديد، إلا أنه ظلَّ مهموماً بأمور البيئة والتنمية، وبحزام التمازُج، على وجه الخُصُوص، فضلاً عن اهتمامه بـ“السياسات” أكثر من ممارسة “السياسة” التقليديَّة (الحلقتان 10 و11). جاء منصور لشركة الصمغ العربي، لسوء حظه، في ظروفٍ سيئة كانت تعيشها الشركة، في ظِلِّ السيد عبدالحميد موسى كاشا، رئيس مجلس إدارة الشركة يومئذٍ. ففي حوارٍ منشورٍ في موقع ‘سودانيز أون لاين’، وضح المدير التنفيذي للشركة، المهندس حسن سعد، وضع الشركة المالي والفساد المستشري، فيما يخص التعامُل من بعض شركات الصَّادر الخاصة (خاصة شركة نيفاشا)، الأمر الذي دفعه في نهاية الأمر إلى تقديم استقالته. عزا مدير الشركة الاستقالة إلى أنه كتب تقريرًا بخُصُوص مثل هذه الإجراءات الفاسدة، والتي ستعرِّض الشركة للإفلاس، وأنه رفعه لرئيس مجلس الإدارة الذي تحوَّل من كاشا للدكتور منصور خالد. ويضيف أنَّ المجلس ناقش التقرير واعتمده المجلس، بل وقرَّر اتخاذ إجراءاتٍ قانونيَّة ضدَّ من تسبَّبوا في هذا الفساد. لكنه، يقول، على حدِّ تعبيره: «وظللتُ منتظرًا هذا الإجراء الذي لم يتم إلى أن غادرتُ الشركة مستقيلاً، بحُسبان أنَّ مجلس الإدارة غير جاد في محاربة الفساد، وقلتُ لمنصور خالد: لم أعُد أحتمل هذا الهوان» (سودانيز أون لاين، 6 أكتوبر 2012).
وبغضِّ النظر عن صحَّة رواية المدير التنفيذي السابق، من عدمها، فما علمتُهُ من مصادر موثوقة، كانت شاهدة كفاحاً على الأحداث، أنَّ من أولويات مهامه فور توليه رئاسة مجلس الإدارة كانت متابعة ملف الفساد. فقام بتشكيل لجنة من قانونيين أفذاذ، على رأسهم الأستاذ محمد إبراهيم خليل، ومعاونة المحامين: عمر شُمينة وأمين مكي مدني والتيجاني الكارب، وتوصَّلت إلى نتائج رفعها منصور، بدوره، إلى نائب الرئيس، علي عُثمان، الذي كان متابعاً لملف الشركة. للمُفارقة، اختيار هذه الثلة من المحامين، بغضِّ النظر عن جودة تقريرهم، تسبَّبوا في اتهام منصور نفسه بالفساد، من قِبَلِ المُعترضين أصلاً على وجود منصور في هذا المنصب. وذلك، نسبة للمُكافأة الماليَّة مرتفعة التكلفة التي طالب بها المُحامون نظير جهدهم، واعتمدها منصور، ليتهمه المُناوؤن بتبديد أموال الشركة. أبدينا له، شخصي وياسر عرمان، عن عدم ارتياحنا لقُبوله التكليف بعملٍ تنفيذي وإدارة مُؤسَّسة تعاني من صراعات لوبيهات الحزب الحاكم ومجموعات المصالح المتضاربة، وتداخُلات جهاز الأمن. ومع ذلك، فقد كان منصور يُعِدُّ الصمغ العربي مورداً استراتيجياً لا يلقى العناية المطلوبة وأنه يطمحُ في إصلاح الشركة المعنيَّة بأمر إنتاجه وتصنيعه وتسويقه، ممَّا يدفع بعجلة الاقتصاد الكلي إلى الأمام. وفي الواقع، بجانب متابعة موضوع التحقيق في الفساد، عكف منصور على الإطلاع على أغلب الوثائق المتاحة حول إنتاج، وتصنيع، وتسويق، وتمويل عمليات، الصمغ العربي. كما سعى في تلك الفترة أيضاً للاستماع إلى والتشاوُر مع، والاستهداء برأى، المسئولين عن هذه المناشط والعاملين عليها، أو الذين باشروا المسئولية عنها في الماضي. ولعلَّ من أهم مشاوراته كانت تلك التي دارت مع ممثلي المُنتجين (كُردُفان، دارفور، أعالي النيل)، والتي رغم أنها كانت مع ممثلي المُنتجين في أكبر مناطق الإنتاج. وبعد القراءة والتشاور والاستماع، توصَّل منصور إلى نتيجة واحدة، مفادها، على حد قوله، أن: «شركة الصمغ العربي في وضعٍ لا يسُر، وبحُكم دورها المركزي في مجال إنتاج وتسويق ذلك المُنتج، فإنَّ وضع القطاع بمُجمله لا يبهج».