رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (33) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

تنشيط مؤسسات الحركة

ذكرتُ في الحلقة السَّابقة، أنه بعد أن أطلع منصور على مُذكرتي الموسومة “أزمة قيادة” طلبتُ منه أن يستخدم مساعيه الحميدة (مع غيره من المهمومين وأصحاب النفوذ)، خاصَّة وأنه قد احتفظ بموقعه الاستشاري، لإقناع رئيس الحركة، سلفا كير، ليقوم بتفعيل المكتب السياسي والمجلس التنفيذي، والمؤسسات التي أصدر أمرَّ تشكيلها بنفسه. لا أجزِمُ، لكن يبدو أنَّ مساعي منصور الحميدة، وما صاحبها من ضُغُوطٍ من قيادات أساسيَّة في الحركة على سلفا كير قد أتت أُكلها، إذ أصدَرَ في مطلع عام 2007 قراراً بتشكيل “مجلس التحرير القومي الانتقالي”، عِوضاً عن المجلس التنفيذي، الذي أصلاً لم يُقيَّض له أن ينعقد منذ تشكيله في فبراير 2006. تمَّ تشكيل المجلس الانتقالي من سكرتيري الحركة في قطاعي الجنوب والشمال، إضافة إلى رُؤساء الحركة الشعبيَّة في الولايات الشماليَّة والجنوبيَّة، وأعضاء المجلس الوطني، وعددٌ من الوُزراء في الحكومة الاتحاديَّة. ومن ثمَّ، عقد مجلس التحرير القومي الانتقالي اجتماعه الأوَّل، برئاسة سلفا كير رئيس الحركة الشعبية، في مدينة ياي، جنوب السُّودان، خلال الفترة 8-12 فبراير 2007. وعلى وجه التحديد، تناول المجلس في مداولاته جُملة أمور، من أهمِّها: تحوُّل الحركة إلى تنظيم سياسي، تنفيذ اتفاقية السَّلام الشامل والشراكة مع حزب المُؤتمر الوطني، علاقة الحركة الشعبية مع القُوى السياسيَّة الأخرى ومشاركتها في عمليَّة السَّلام، ومراجعة أداء الحركة الشعبيَّة على كافة مستويات الحُكومة. فيما يخصُّ تحوُّل الحركة الشعبيَّة، قرَّر المجلس ما يلي: 1) تظل الحركة الشعبية لتحرير السُّودان حزباً سياسياً وطنياً مفتوحاً لجميع السُّودانيين، ومناصراً لمسيرة التحوُّل الدِّيمُقراطي، 2) يكون المقر الرئيس للحركة الشعبية بالخرطوم، 3) حثَّ الأمانة العامَّة المُؤقتة للشُروع في إعادة تنظيم الحركة الشعبيَّة من القاعدة الشعبيَّة إلى مستوى المؤتمر القومي، و4) عقد المُؤتمر الثاني للحركة الشعبيَّة بحُلول تشرين نوفمبر 2007، وإطلاق حملة الانتخابات العامَّة.

وإكمالاً لعمليَّة تفعيل مُؤسسات الحركة التفيذيَّة والتشريعيَّة، أصدر رئيس الحركة الشعبيَّة، الفريق أول سلفا كير ميارديت، في 10 يوليو 2007، قراراً بإضافة 15 شخصيَّة لعُضويَّة المكتب السياسي للحركة، وهُم: جاستن ياج، د. سامسون كواجي وزير الإعلام، بول ميوم أكيج وزير الشرطة والأمن، مايكل مكوي وزير الشئون القانونية، دانيال كودي أنجلو نائب والي جنوب كُردُفان، كوستي مانيبي وزير الشئون الإنسانية، د. لوكا منوجا وزير شئون رئاسة حكومة الجنوب، لوكا بيونق دينق وزير رئاسة حكومة الجنوب، اللواء كلمنت واني كونقا حاكم الاستوائية الوسطى، د. آن ايتو وزيرة الدولة بوزارة الزراعة الاتحادية، كوال اثيان وزير مالية حكومة الجنوب، دكتورة جيما نونو رئيسة اللجنة الاقتصادية بالمجلس الوطني، مدوت بيار يل حاكم شمال بحر الغزال، بروفيسور باري وانجي رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس التشريعي لجنوب السودان، ود. الواثق كمير. وبالرغم من هذا التعيين، إلا أنني لم أُدعَ، أو أُشارك في إي اجتماع لاحقٍ للمكتب السياسي، خاصة وأنَّ كُلَّ الفعل السياسي كان يحدُث في مجلس التحرير القومي، الذي كُنتُ مُشاركاً فيه بحُكم عُضويَّتي في المكتب السياسي، خاصة عملية التحضير للمُؤتمر القومي الثاني وإعداد الوثائق الضَّروريَّة: المنيفستو والدُستُور. كما أصدر الرئيس قراراً آخراً بإضافة 35 شخصيَّة إلى عُضويَّة المجلس الوطني الانتقالي للحركة الشعبيَّة، أبرزهم: دكتور لوال أشويل دينق وزير الدولة بوزارة الماليَّة الاتحاديَّة، إدوارد لينو، زايد عيسى زايد، د. محمد يوسف أحمد المصطفى وزير الدولة بوزارة العمل، أنجلينا تانج وزيرة الدولة بوزارة الطاقة، مناوا أليقو رئيس كتلة نواب الحركة الشعبيَّة بالمجلس الوطني، د. أحمد سعيد عبدالرحمن وإسماعيل خميس جلاب.

تواصلت عمليَّة تنشيط مؤسسات الحركة، إذ تمَّ الاجتماع الثاني في نهاية يوليو، ثمَّ الثالث في 15 أغسطس 2007، والذي أصدر عدداً من القرارات في هذا الاتجاه. فقد وجَّه المجلس الأمانة العامَّة لاتخاذ خُطواتٍ تدفع بعملية التظيم وبناء هياكل الحركة، وأهمها: 1) مواصلة حملة إعادة التنظيم الحاليَّة للحركة، وخاصة عمليَّة التعبئة والتجنيد وتسجيل العُضويَّة، وتكثيف هذه الحملة، ومراجعة وتحسين منهجيات وطرائق التعبئة العامَّة والتسجيل، 2) إتمام عقد المُؤتمرات وتشكيل هياكل الحركة الشعبية من “البوما” إلى مستوى الولاية بحُلول فبراير 2008، 3) تعيين رئيس الحركة لجنة برئاسة الأمين العام للتحضير لعقد المُؤتمر الوطني الثاني للحركة الشعبيَّة، قبل نهاية الرُبع الأول من عام 2008، (سآتي لاحقاً لإلقاء بعض الأضواء على هذا المُؤتمر وما صاحبته من إجراءات تنظيميَّة، وتداعياته على مستقبل الحركة، في الحلقات القادمة)، 4) زيادة الدعم المعنوي والمادي لقطاع الشمال بالحركة من أجل استمرار حملة التعبئة وبناء الحركة الشعبية في الشمال. وبالرغم من العقبات التنظيمية واللوجستيَّة، تمكنت الأمانة العامة للحركة من الإيفاء بالمواعيد المضروبة لعمليَّة عقد المُؤتمر القومي الثاني في مايو 2008، 5) اعتماد الخطوات الإيجابية التي اتخذها رئيس الحركة بتعيينه لثلاثة نواب له، وتوسيع كُلٍ من المكتب السياسي ومجلس التحرير القومي، و6) الترحيب بتعيين ياسر عرمان وآن إيتو كنائبين للأمين العام للحركة لقطاعي الشمال والجنوب، على التوالي.

في الردِّ على المتشككين في الرؤية والاتفاقية

مُنذُ عودتنا إلى الخُرطوم بعد التوقيع على اتفاقيَّة السَّلام الشامل، واجهنا تحدِّي مخاطبة المتشكِّكين في، والمُتوجِّسين من الحركة الشعبيَّة، والحاجة إلى تعريف وتفصيل رُؤية “السُّودان الجديد”، التي يكتنفها الغُموض في ظنِّ الكثيرين. ومن جهةٍ أخرى، حَظِيَت الاتفاقيَّة، الموسومة بـ“الثنائيَّة”، بمعارضة بعض القُوى السياسيَّة، حتى تلك التي كانت مُنضوية في تحالف التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، ممَّا كان أيضاً يستدعي وضع النقاط فوق حروف الاتفاقية. شاركتُ في “المؤتمر العام لاتحاد الكُتاب السُّودانيين”، 19 سبتمبر 2006، بتقديم ورقة بعنوان: “السودان الجديد: نحو بناء دولة المُواطنة السُّودانيَّة”. عقَّب عليها كثيرون من بين مُؤيِّدٍ لرُؤية “السُّودان الجديد” ومُضيفاً إليها، أو مُنتقد لها بموضوعيَّة، بينما رفضها البعض مبدئياً وكليَّة. ذلك بجانب من فضَّلوا إشباع رغبات ذاتيَّة فطرحوا أسئلة (ظنوا أنها مُحرجة) على شاكلة: هل توافق على زواج ابنتك من “جنوبي”؟ ولماذا أراد جون قرنق أن يحتسى القهوة في “المتمَّة”؟ وهذا عرض “بره الزفة”.

مع ذلك، كتبتُ ورقة بعنوان: “الصَّادق المهدي: من يدعو للاستقطاب؟”، نُشِرَت في صحيفة ‘الصَّحافة’، في 5 مقالات متوالية، في الأسبوع الأول من ديسمبر 2006، في الرَّد على تعقيب السيِّد الإمام على الورقة، الذي قدَّمه في جلسة “إفادات القوى السياسيَّة” ضمن فعاليات المُؤتمر العام لاتحاد الكُتَّاب السُّودانيين، والذي نشرته صحيفة ‘أخبار اليوم’ في عددها الصادر بتاريخ 22/9/2006. ولعلَّ حكمة اختياري للرد تحديداً على السيِّد الصَّادق هي أنَّ تعقيبه قد صادف هوىً في نفوس الدَّاعين للانفصال، من الشمال كانوا أم من الجنوب، حتى أنَّ الغمَّ الذي أصاب الطيِّب مصطفى “جرَّاء قراءة مداخلة د. بشير البكري على ورقة الأكاديمي الشيوعي الواثق كمير حول مشروع السُّودان الجديد خاصة حول علاقة الحركة الشعبية بالدين والشريعة” (الانتباهة، 28/9/06) قد زال عنه في اليوم التالي حين قرأ “ملخصاً لمداخلة الصَّادق المهدي الذي قال في مشروع السُّودان الجديد وورقة كمير أكثر ممَّا قال مالك في الخمر، بالرغم من أنَّ الرَّجُل لم يقُل كُلَّ ما يعلم أو كُلَّ ما ينبغي أن يُقال”. (الانتباهة، 28/9/06) فهل أضحى السيِّد الصَّادق المهدي من اليائسين في وحدة السُّودان ومن الدَّاعين للانفصال، ولو بمواربة وعلى استحياء؟!

للإجابة على هذا السؤال، اتَّبعت المقالات منهجاً يقوم على تحديد القضايا التي اختارها السيَّد الصَّادق بعناية وانتقائيَّة بعد انتزاعها من سياق مشروع “السُّودان الجديد” كما استعرضته الورقة، فأصبح كمن أمعن النظر في الشجرة فتاهت عنه الغابة! فلا غضاضة في أن يختلف السيِّد الصَّادق مع مشروع “السودان الجديد”، بل هذا متوقعٌ ومطلوب، ولكن الموضوعيَّة تستدعي مقاربة المشروع كحزمة متكاملة من المبادئ الأساسيَّة، أو بالمقابل طرح فكرٍ مُغاير أو مشروع جديد لإدارة التنوُّع والتعدُّد في السُّودان يحفظ له وحدته ويعامل كُل أهله كمُواطنين متساوين في الحُقوق والواجبات. وذلك بدلاً من الاكتفاء بوصم المشروع وتصويره في جُملة واحدة بأنه “كان اشتراكياً ماركسياً في عهد التحالف مع مانقستو هايليمريم، وصار في ظِلِّ تحالفاته الجديدة علمانياً، أنجلوفونياً، أفريقانيا”، كما جاء بالحرف في ملاحظاته المكتوبة، بدون تحليلٍ موضوعي أو تقديم البراهين والأدلَّة المقنعة. كما استخدم السيِّد الصَّادق لغة عنيفة وأسلوبٌ جاف تراوحت تعبيراته بين “يا هذا” (ويقصد الواثق كمير) و“حدية” و“قطعية” و“استقطاب سياسي حاد”، فهو يرى، كما جاء في هذه المُلاحظات أنَّ “ما ورد من تصوير للسُّودان الجديد في الورقة فإنه مشروع استقطاب جديد”! فمن هو، يا ترى، الذي يدعو للاستقطاب ويروج له؟ هذا هو السؤال الذي أجبتُ عليه في المقالات الخمس.

ونشر منصور سلسة مقالات، حول تقييم حصيلة عامين لاتفاقيَّة السَّلام الشامل، بعد أشهُرٍ قليلة، سأتطرَّقُ لها في السُّطور التالية، أشار منصور إلى ورقتي حول رُؤية السُّودان الجديد، وخاطب فيها ما وجَّهه السيد الإمام من نقدٍ حاد للاتفاقية وطييعتها “الثنائية”. فعلى حدِّ تعبيره: «هناك بحثٌ للدكتور الواثق كمير، وهو واحد من أكثر مثقفي الشمال (إن جاز لنا تصنيف مثقفي السُّودان حسب منابتهم الجُغرافيَّة) الذين كان الراحل يستوريهم الرأي، تحليلٌ جيد لأطروحات قرنق حول السُّودان الجديد (بحث مُقدَّم لمُؤتمر اتحاد الكُتاب السُّودانيين). ذهب د. الواثق في استبحاثه الجيد، والذي ما فتئ كل واحد يقرأ فيه ما يهوى قراءته، الي التمييز بين الحركة الشعبية كتنظيم، وبين رؤية قرنق للسُّودان الجديد بحُسبانها إطاراً نظرياً لبناء دولة المواطنة في وطنٍ بمثل تنوُّع وتعدُّد السُّودان (ديني، عرقي، ثقافي، لغوي)، كما هو آليَّة لادارة الصِّراعات الناجمة عن ذلك التنوُّع. فكرة السُّودان الجديد ليست نظرية سياسيَّة، فالنظريات السياسيَّة هي طائفة متكاملة من الافكار تُثبت ببرهان. ولعلَّ الذي تحقق في اتفاقيَّة السَّلام الشامل، من بين كل تجارب الحُكم في السُّودان، هو النموذج الأقرب لما كان الرَّاحل يتمناه، بصرف النظر عمن حققه».

بعد مقالاته عن أصول ومآلات اتفاق السلام بُعيَد توقيعه، التي نشرها مُبكراً في 2005، في صحيفة ‘الرأي العام’، يقول منصور أنه آثر «الصوم عن الكتابة في الصحف السيارة، والحديث في المنابر العامة، حول القضايا الوطنية رغم مناشدات الأقربين الذين توهموا أن في الصمت كلاماً.. للمناشدين نقول أننا لم نَصطَمْ عن الحديث إمساكاً عن القول، أو نجفل عن القلم زُهداً في الكتابة. لذلك أسباب أخريات، فيهن الخصيص الذي لا شأن للناس به، ومنهُن ما هو خاص لا نَكْفَ عن الإفضاء به، وما هو عام ومن حق الناس أن يعرفوه». هذه هي الكلمات التي صدر بها منصور سلسلة مقالاته الخمس وعشرين، والتي نُشرت في حلقاتٍ متتالية في نفس الصَّحيفة، خلال فبراير- مارس 2007، تحت عنوان: “عامان من السلام: حساب الربح والخسارة!”. فسبب عام لصمت منصور في العامين الأولين، هُو أنه كان يسعى لتقديم تقويم موضوعي حول سُودان ما بعد السَّلام، والذي لن يكون تقييماً موضوعياً لتجربة السَّلام الشامل بدون ترك تلك التجربة تتجاوز شهور التسنين، بل سِنِي الفطام عن التجربة الشُمُوليَّة.

يقول منصور إن الذي حَمَلهُ علي الكتابة بغد كل هذا التأبي هو «الجهل البالغ، أو الاستهانة التي جاوزت الحد، تجاه ما قضت به اتفاقية السلام الشامل، كان ذلك في مبناها ومعناها، أو في روحها ونصوصها، بل وتجاوزت تلك الاستهانة حُدُود الدُستور وهُو القانون الأعلى في البلاد». فقد كلن يُؤرِّقه ما يُنشرُ علي صفحات الصحف من تعليقات وتصريحات وأحكام قاطعة حول أحداث ووقائع ذات صلة لصيقة بتلك الاتفاقية دون أن تكون الاتفاقية نفسها ونصوصها هي المرجعيَّة ونقطة الاستدلال، يأبه كاتبوها لنقطة الاستدلال. ومن جهة أخرى، بعض زُعماء المعارضة، حتى من المتحالفين مع الحركة في التجمع، ينتهشون الاتفاقية حرفاً حرفاً في ذات الوقت الذي يُذكِّرون فيه الناس بتأييدهم للسَّلام الذي جاءت به، ولا يكون ذلك التأييد إلا في جُملٍ اعتراضيَّة، لا تورد، في ظنِّ منصور، إلا لمُجرَّد إبراء الذمَّة.

تعليق 1
  1. Hassan baker Kokomo meadi يقول

    نحو سودان يسع الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.