رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (28) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

منصور في القاهرة: حضور وحيوية ونشاط

قبل إكمالي العمل الموكل لي في مشروع “سيرو” (الحلقات 23، 24، 25)، في النصف الثاني من يوليو 1999، كنت متابعاً لمنصور وإنشغاله بموضوع المبادرة الليبية-المصرية، حيث كان يستضيف في شقته اجتماعات لجنة الشئون الخارجية للتجمع الوطني الديمقراطي التي كان يرأسها هو، بجانب عضويته في هيئة قيادة التجمع. فقد اتخذت هيئة القيادة، في اجتماع لها بأسمرا ثلاثة قرارات هامة، وذلك قبل إطلاق المبادرة المشتركة رسمياً. أول هذه القررات هو الدعوة إلى تضمين التجمع في مبادرة الإيقاد لتحقيق شمول المشاركة، وثانيهما هو مناشدة شركاء الإيقاد لضم الدول العربية والأفريقية المهتمة بالنزاع، وثالثهما الترحيب بالمبادرات المُقدمة من ليبيا ومصر للتوسط في حل النزاع. كانت المناقشات تدور حول التحضير للزيارة المرتقبة إلى ليبيا استجابة لدعوة موجهة إلى هيئة قيادة التجمع من العميد القذافي الرئيس الليبي. بجانب الاجتماعات الرسمية للجنة، كان منصور كعادته يدعوني للمشاركة في جلسات عصف ذهني حول الموضوع يساعد في بلورة موقف التجمع من المُقترحات الليبية للسلام. فقد حضرتُّ اجتماعاً على هذه الشاكلة فى شقته منصور دعا له د. إبراهيم الأمين، ود. شريف حرير، والسفير عبد الماجد الأحمدي (الذي كان سفيراً سابقاً في ليبيا)، ود. عثمان فضل من الجامعة الأمريكية.

وبالفعل، بعد الإنتهاء من التحضيرات، سافر كل أعضاء هيئة القيادة والمكتب التنفيذي للتجمع إلى طرابلس في نهاية يوليو 1999، برئاسة مولانا الميرغني. احتوت المقترحات الليبية على ثلاث نقاط: الوقف الشامل لإطلاق النار، إنهاء الحملات الصحفية المتبادلة، وتكوين لجنة تفاوض للإعداد لملتقى للسلام يضُم الحكومة والمعارضة. يقول منصور في هذا الشأن “ومع ترحيبها بالوساطة الليبية، أبدت هيئة القيادة تحفظاً في موضوع وقف إطلاق النار لنفس الأسباب التي رفضته به الحركة في اجتماعات الإيقاد. وبالطبع ساورت الحركة الشكوك أن الحكومة، بعد فشلها في تحقيق تلك الغاية في اجتماعات الإيقاد، أخذت تسعى لنقل الموضوع إلى الملعب الليبي، عساها أن تُحمِل التجمع والحركة على ابتلاع الطُعم والسنارة معاً. أوصت هيئة القيادة، إلى جانب ذلك، بالتنسيق بين المبادرة الجديدة ومبادرة الإيقاد، خشية أن تؤدي المبادرة الليبية إلى إجهاض مساعي الإيقاد، مما سيخلق، بدون ضرورة لذلك، صراعاً عربياً أفريقياً. وبعد أيام من لقاء طرابلس التقى الرئيس مبارك مع العميد القذافي في مرسى مطروح (2 أغسطس) للاتفاق على توحيد جهود البلدين حول السلام في السودان” (منصور 2003، نفس المصدر، ص 845). ولكن، لم تأت الرياح بما تشتهي سفن المبادرة الليبية-المصرية المشتركة. ففي اجتماع رؤساء دول الإيقاد في القمة السابعة للمنظمة، تقرر أن “يستمر إعلان المباديء هو الأساس الفعال لحل الأزمة في السودان، ويظلُّ أيضاً الأساس لتحقيق مصالحة وطنية من شأنها أن تُمهد الطريق لإنهاء الصراع في الجنوب”. وثمة قرار آخر يقول “تُرحب قمة الإيقاد بأي مبادرات تقوم بها دول أخرى لتحقيقلامصالحة وطنية في السودان على أساس المباديء الواردة في إعلان المباديء والتي قبلها الطرفان”. لا شك، أن هذا القرار كان جديراً بأن يفتح كوة للتنسيق بين المبادرتين، إلا أن مصر كانت تُصر على رفض منح الجنوب تقرير المصير، ولم تكن راضية أن يكون إعلان مباديء الإيقاد أساساً للتنسيق. وهكذا، أُسدلًّ الستار على المبادرة الليبية-المصرية المشتركة، وواصلت الحركة الشعبية التفاوض مع الحكومة وفق مبادرة الإيقاد، والانتقال إلى بروتوكول مشاكوس ومن ثمَّ اتفاقية السلام الشامل.

كان منصور يجلس على كرسي مكتبته، أو على طربيزة السفرة، من الساعة التاسعة صباحاً إلى ما بعد العاشرة مساء، وهو بكامل هندامه وكأنه ذاهب في مهمة أو إلى اجتماع رسمي، إلا بالطبع عند استقباله لضيوفه. بجانب حسن هارون، الذي كان يدير كل شئون البيت بتوجيهات منصور، أيضاً كان برفقته أغلب ساعات اليوم الصديق عمر عبد الرحمن (عمر فور)، ساعده الأيمن في أمور الطباعة والتوزيع ومراجعة اللغة والآيات القرآنية، فعمر خريج جامعة الأزهر الشريف، كما لهما قصص طريفة سأذكر بعضاً منها. كان منصور يستعين بعمر عندما يُريد الاستشهاد بآية قرآنية، أو حديث نبوي، حتى من بعض الأشعار، خاصة الشعر الجاهلي، رغم إلمام منصور بهذه الدروب. من الطرائف، أن منصور اتصل ذات يوم تلفونياً على عمر من نيويورك في وقت متأخر من الليل ليسأله عن آية ما، استجاب عمر ولكنه قال له بأنه نائمُّ، فرد عليه منصور “ومالو لو نائم، محتاج تقوم تولع نور وتفتح مصحف، من فوق سريرك وتحت بطانيتك تقول ليَّ الآية والسورة والجزء وواصل نومك! ده هسه محتاج لكل الكلام الدار بيني وبينك ده؟ مش كنت وريتني الآية ورجعت نمت!”. وفي مرة، كان عمر فور معه في شقته، فسأله عن آية في صور الأنفال، فقال له عمر، بطريقته المُغيظة أحياناً: “يا دكتور ياهو مصحفك جنبك، ما تفتحو وبس!”، فرد عليه منصور “ليه أضيع وقتي واتعب نفسي وأنت قاعد؟ ما تفتح خشمك بس والآية بتطلع منك زي كلامك ده معاي!”. طرفتان آخرتان بين منصور وعمر فور، أولاهما: في تلك الأيام كان منصور عاكفاً على كتابه “قصة بلدين”، الذي صدر في 2003، وفي أثناء ما كان عمر يقوم بالطباعة قال له “والله يا دكتور كلامك ده أزرط من الأول”، فرد عليه منصور بعبارته الشهيرة “يا حيوان ما لقيت كلمة أحسن من أزرط دي!”. أما الطرفة الثانية، في ذات يوم قال منصور لعمر “رئيسك وصل القاهرة”، فسأله عمر بتعجُّب “دكتور جون هنا!!”، فرد عليه “يا حيوان د. جون ده رئيسي أنا، أنت رئيسك ياسر”. وثمة طرفة أخرى كنت أنا طرفاً فيها. فى الأيام الأولى للمعرفة بينهما، طلب منصور من عمر أن يأتي له على أن يترك ما كلفه به مع بواب العمارة ويذهب لحاله، فقلت مازحاً لعمر “يا أخي زول يقول ليك ما تطلع لي، وخلي الحاجة مع البواب، تاني تمشي ليه!”. ردَّ عمر “يا دكتور قدِّم السبت تلقى الأحد”، فضحكت وواصلت مزاحي معه، فقلت له “يا عمر، منصور ما عنده أحد وأيامه كلها سبت!”. لم يفارق عمر د. منصور بل ظل قريباً له في القاهرة وأسمرا والخرطوم وجوبا، وكان فخوراً بأن يكون مصاحباً ورفيقاً لمنصور، ومن لا يفتخر بمعرفة منصور؟

كما نوهت في مقدمة هذه الحلقة، بجانب النشاط السياسي والدبلوماسي، أيضاً وفرت القاهرة لمنصور الفرصة لمتابعة الأعمال الفكرية والأدبية، ولا تفوته فرصة اقتناء الكُتب من معرض الكتاب الدولي السنوي، بل وينقب عن الكتب القديمة في الأزبكية ومن مكتبات الأزهر ومن الأكشاك حول سور جامعة الأزهر. كان منصور دوماً يلتقي بالشعراء والفنانين والمطربين السودانيين والمصريين، على حد سواء، فلم يخل بيته من هؤلاء طيلة سنوات إقامته في مصر (1998-2004). فقد كنت دوماً متواصلاً معه ومتصلاً به أحضرُّ جلساته مع صحاب مشتركين وآخرين هو من عرفني عليهم. كان من من زواره من السياسيين والمفكرين ورجال الأعمال من أمثال د. ميلاد حنا والأستاذ محمد فائق ولطفي الخولي، ونجيب ساويرس وحلمي الشعراوي. وكان يزوره من الكتاب والصحفيين ورجال الأعمال السودانيين المقيمين في مصر: د. عثمان فضل، وفضل الله محمد، والباقر أحمد عبد الله، صلاح إدريس، وحسن عجباني، وحسن قنجاري، وإسماعيل الفاضل المهدي، والسفير عبد الله الحسن، وجمال الوالي، وعصمت حسن زلفو، ومحمد محمد خير. أيضا، كان منصور يستضيف من العابرين أمثال: الطيب صالح، وصلاح أحمد محمد صالح، ومو إبراهيم، ونوح سمارة، ود. عبد الرحمن الطيب علي طه، وشرحبيل أحمد وفرانسيس دينق الذي أدهش الحضور بإرتدائه للجلابية.

أسهبتُّ في الحلقتين 26 و27 في عشقِّ منصور للفن والغناء، وأُلقي قليلاً من الضوء في السطور القادمة على مناسبات الطرب التي عشتها مع منصور في القاهرة. إبتداءً، كان منصور يستضيف، في جلسات هادئة للطرب، خاصته من الصحاب، عدداً من المطربين والمطربات، من بينهم محمد وردي والفرجوني وعاصم البنا وحسين شندي وسمية حسن وسميرة دنيا وزبيدة الإنقاذ وسلمى العسل. وكنا نذهب سوياً للفنانة المطربة حنان بلو بلو التي كانت تستضيفنا في شقتها الصغيرة، في روكسي بمصر الجديدة، برحابة وأريحيه، تغمرنا بكرم الضيافة وتطربنا بأغاني التراث والبنات. وفي يوم جُمعة في آواخر عام 2003، كان منصور قد دعا الأديب الراحل الطيب صالح إلى الغداء معه وطلب مني أن أذهب إلى حي الزمالك لأُحضره من أحد الفنادق، وللمفارقة، أني أصلاً كنت سأزور منصور إذ كان مقيما معه في ذلك الوقت ابن خاله، سامي مصطفى الصاوي، وهو صديق قديم ليَّ منذ أن عملت مؤقتاً في مصلحة الثقافة، ومن ثمَّ ابتعثته المصلحة، كما ابتعثتني جامعة الخرطوم، إلى الدراسات العليا بإنجلترا، فالتقينا مجددا هناك. بالفعل، قُدت سيارتي صوب عنوان الفندق وكانت تلك هي المرة الأولى التي التقي فيها الأديب القامة كفاحاً، فأسرني بتواضعه وبقصصه الممتعة طوال الرحلة من الزمالك إلى روكسي. لم كنت أعلمُّ أن منصور قد أعدَّ له مفاجأة بدعوته للمطربة الصديقة سلمى العسل (الآن تقيم بأمريكا)، التي قامت الصديقة المشتركة فادية قدم الخير بتقديم الدعوة لها. سعِّد الطيب صالح كثيراً بالتطريب وأداء سلمى لأُغنيات التراث بصوت ينفُذ إلى العقل والقلب معاً، وأكال الثناء الصادق على المطربة، ولسانه يلهج بالشكر ونحن في طريق عودتنا إلى الفندق.

أما طرب منصور الكبير فقد تجلي في مناسبتين لهما صلة بزواج صديقي بروفيسور محمد الأمين التوم، الذي يكن لن منصور مودة خاصة، فالمناسبة الأولى هي حفل الزفاف، والمناسبة الثانية هي حفلة صغيرة أقامها صلاح إدريس على شرف الزواج. فقد قُمتَّ، ومعي الأصدقاء الهادي الرشيد والأستاذتان آمال شيبون وسلمى السيد، والصديق محمود عز الدين، بتنظيم حفل زفاف محمد الأمين ونوال جحا بفندق أطلس، شارع جامعة الدول العربية، صدع فيه بالغاء الفنان سيف الجامعة ومطرب شاب آخر. ازدان الحفل بقامات سامقة من الأصدقاء، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، فكان حضوراً: د. على التوم، والأستاذ التجاني الطيب، والأستاذ طه إبراهيم (جربوع)، والفريق عبد الرحمن سعيد، ود. فاروق محمد إبراهيم، ود. إبراهيم النور، والصديقان محمد خالد وتوفيق عباس الضوي. كان منصور وعلي التوم وطه جربوع نجوم الحفل بلا منازع فاستلموا المجال واحتلوا حلبة الرقص وعسكروا. لم أُشاهد منصور قط من قبل وهو طرِّبُّ وفي قمة الانتشاء، بل ورقص مع العروس والعريس على مدى أغنية كاملة و”كسرتِها”، ولو أنه “أشتر”، وتعني فنياً مفارقة الإيقاع. كُثرُّ لم يشاهدوا منصور وهو يرقص، فحتى سامي الصاوي ابن خاله المقرب له قال لي “والله ما شفت منصور يرقص، بس ببشر”. احتفظ بشريط فيديو الحفل كاملاً حتى هذه اللحظة، وبالرغم من أنني تحدثت إلى منصور عنه لكن لم تتح فرصة أن أنسخه له ليشاهد نفسه وهو في قمة الطرب. كما ذكرت في الحلقة 23 من هذه السلسة، منصور هو من عرفًّني ومعي محمد الأمين بصلاح إدريس، عندما طلبا منا إعداد مقترح مشروع “سيرو”. ولعدم تمكنه من حضور ليلة الزفاف، تكرم صلاح بإقامة حفل صغير، في شقته بالجيزة على كورنيش النيل، دعا من الخرطوم حسين شندي ليغني ومحمدية للعزف بالكمنجة، بينما كان هو عازف العود طوال الحفل. كانت اخوات العروس وصديقاتها من المدعويين، وأصدقاء العروسين وصحاب منصور وصلاح أذكُر منهم: محمود عز الدين وكمال حسن بخيت وجمال الوالي وصلاح قاضي وعبد الله ود القبائل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.