رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (24) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

أفكار جديدة لمنصور:
وحدة المعلومات والبحوث السودانية (2)

في نهاية مارس 1998، أكملتُ ومحمَّد الأمين التوم المسودَّة النهائيَّة لوثيقة المشروع التي كلَّفنا منصور وصلاح بإعدادها، وقُمتُ بتسليمها لمنصور بُغية إبداء المُلاحظات عليها أو المُوافقة عليها، وعرضها على بعض الدَّاعمين المُحتملين. يبدو أنَّ هذه المُشاورات استغرقت بعض الوقت، فلم يعُد منصور لي بالرَّد إلا في 8 يوليو، إذ طلب مني أن أحضُر لمُقابلته في شقة الأستاذ صلاح بغرض الاتفاق على منهج تنفيذ خُطة العمل الخاصة بإنشاء “سيرو”، وتحديد المهام المُوكل لي القيام بها، والإطار الزمني لإنجازها. ذهبتُ إليهما في الموعد المضروب، ومع ذلك لم يُقدَّر للاجتماع أن يتم نسبة لظرفٍ طارئ تسبَّب في تأجيله. الطَّريف في الأمر، فاجأني الأستاذ صلاح بأنهما على وشك المُغادرة إلى الإمارات العربيَّة المتحدة في مهمَّة مُلِحَّة، مُقترحاً عليَّ أن ألتقيهما في أبو ظبي، وطلب من مساعده (عزت شديد) أن يقوم بترتيبات سفري. وبالفعل، وصلتُ إلى أبو ظبي في مساء 10 يوليو 1998، وأقَمتُ في استضافة صديقي الهادي الرَّشيد دياب في شقته، والذي دعا منصور وصلاح للعشاء. التقيتُّ بهما في صباح اليوم التالي، 11 يوليو، في فندق المريديان، الذي يمتلكه صديق د. منصور الشيخ نهيَّان بن مبارك بن محمد آل نُهيَّان وزير التعليم العالي، وكان لمنصور وصلاح أمرُ عملٍ ما معه. وللمُفارقة، لم نُوفَّق في عقد الاجتماع المُقرَّر للمرَّة الثانية بخُصُوص تأسيس “سيرو”، فقبل أن نشرع فيه، إذا بالأستاذ صلاح إدريس يعتذر عنه لتلبية دعوة “عشاء عمل” عاجلة من الشيخ فيصل بن خالد القاسمي، في الشارقة.

اقترح منصور وصلاح أن نُفردُ زمناً للاجتماع بعد وصولنا، الأمر الذي لم يُقيَّض له أن يتم للمرَّة الثالثة على التوالي، إذ أنَّ طرائف ذلك اليوم ظلت تترى تباعاً. اصطحبني الهادي الرَّشيد في سيارته من أبو ظبي إلى دُبي، بينما استقلَّ د. منصور وأستاذ صلاح وأستاذ جمال الوالي والمهندس عوض الكريم إدريس عربة أخرى، على أن نلتقي في فندق إنتركونتينتال، مكان دعوة العشاء. أوَّل الطرائف، كان اعتذار الشيخ خالد عن دعوة العشاء إثر تلقيه خبراً بقرار الطيِّب إجراء عملية ولادة قيصريَّة لزوجته بصورة عاجلة، فهرع الشيخ إلى المُستشفى. وبعد أن سجَّلنا للإقامة بالفندق واستلم كلٌ غُرفته، قرَّر الأستاذ صلاح أن نغادر إلى مطار دُبي للسَّفر في أقرب رحلة إلى لندن، حيث وصله خبرٌ بضرورة حُضُوره فوراً إلى العاصمة البريطانيَّة. ذهبنا أنا والهادي معهُم إلى المطار، بالرَّغم من أنه لا صلة لنا بالأمر، ونسبة لإلحاح د. منصور على مقعدٍ بالدرجة الأولى، قرَّروا الحجز في رحلة الخُطوط الجوية البريطانيَّة المغادرة في صباح اليوم التالي. بالطبع، في ظلِّ تلك الظروف، لم يتم الاجتماع الموعود، الذي أتيتُ من أجله، من القاهرة إلى أبوظبي إلى دُبَي. ولم يكن ذلك نهاية المطاف، فاعتذر الأستاذ صلاح مرَّة أخرى واقترح أن ألتقيه في جدَّة، بعد أن وجَّه بتغيير تذكرة عودتي لتكون أبو ظبي-جدة-القاهرة. مكثتُ قُرابة العشرة أيام في أبوظبي مع صديقي الهادي ريثما تكتمل إجراءات فيزا دُخُولي إلى المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، فوصلتُ جدَّة في يوم 22 يوليو 1998.

وختام الطرائف مسكٌ، استقبلني في المطار بحرارة موفدٌ من قِبَل مكتب صلاح إدريس في جدَّة، بعد السَّماح لي بالإقامة لمدَّة أربعة أيام فقط، وتمَّت استضافتي بفندق البحر الأحمر الفخيم. قضيتُ ثلاث ليالي وكنتُ كُلَّ يوم أتلقى مكالمة من أحد موظفي مكتبه يُبلغني اعتذار الأستاذ صلاح لظُرُوفٍ قاهرة، فقرَّرت العودة إلي القاهرة بعد انتهاء مدَّة إقامتي، على أن نلتقي في وقتٍ آخر بالقاهر. وأثناء انتظاري لصلاح في جدَّة، كُنتُ أتحدَّثُ تلفونياً مع الصديقة الفنانة آمال طلسم في أبوظبي، حيث التقيتها خلال وجودي هناك، فأخبرتُها بنبأ قرار عودتي بعد عدم تمكُّني من لقاء صلاح وانتهاء صلاحيَّة إقامتي. فضحِكَت آمال شديداً، وقالت لي: “«صلاح عمل فيك زي ما عمل في الجِّقِر (المطرب المعروف واسمه الحقيقي محمَّد الحسن كرقلي!». بالطبع، طلبتُ منها أن توضِّح لي الأمر حتى أفهم معنى المُقارنة بين حال “الجِّقِر” وحالي. فحَكَت لي أنَّ الأستاذ صلاح سبق وأن قدَّم دعوة إلى “الجِّقِر” لزيارة جدَّة للاستجمام وتسجيل بعض الأغاني، حيث كان صلاح مالكاً لشركة فرسان للإنتاج الفني. قام مساعدوا صلاح بمكتبه في جدَّة باستقبال “الجِّقِر” بحفاوة، فاغدقوا عليه عطاءً وحُسنِ وِفادة ووفَّروا له إقامة طيِّبة ولم يبخلوا عليه بشيء. ومع ذلك، قضى “الجِّقِر” عدَّة أشهُر لم يتمكن خلالها من اللقاء بصلاح كفاحاً، فقرَّر ذات مرَّة أن يقوم بزيارة مكتبه لتقصِّي الأمر.. قابل مساعدو صلاح بالمكتب “الجِّقِر” باحترامٍ جمٍ وشرحوا له سفر صلاح المُستمر خارج جدَّة، وحتى في حالة عودته لا يستقر إلا لساعات فقط، أحياناً قبل أن يغادر مرَّة أخرى، وأنه بلا شك لا يتحاشى مقابلته. ردَّ عليهم “الجِّقِر” مبتسماً وهازراً، وبطريقته الساخرة وخفة دمه: «يا جماعة، سيِّدنا موسى كليم الله طلب مقابلة ربِّ العالمين فسُمِحَ له في 48 ساعة، أستاذ صلاح أربعة شهور ما أشوفه؟». لم يترك “الجِّقِر” للحُضُور مجالاً غير الضَّحِك بصورة هستيريَّة. ما كُنتُ يومذاك أعرف “الجِّقِر” أو التقيه إلا بعد سبع سنوات من سماعي لهذه القصَّة في جدَّة. فبعد عودتي للسُّودان في أبريل 2005، دعاني بعض الأصدقاء لحفلٍ يُقام كلَّ جُمعة من أمسيات رمضان في النادي الدَّولي بالخُرطوم شرق، حيث تُخصَّصُ الأمسية لأغاني الحقيبة، وكان من بين المُطربين المُشاركين: الفرجوني والجِّقِر وعاصم البنَّا وسميرة دُنيا. كانت تلك أوَّل مرَّة أرى فيها الجِّقر وهو جالس في الصَّف الأمامي، فرجوتُ صديقي عاصم أن يعرِّفني به. فقاداني عاصم إلى مكان جلوسه وعرَّفنني به، فجلستُ بجانبه ورويتُ له الحكاية كما سردتها أعلاه، فضَحِكَ شديداً بطريقته الدِّراميَّة حتى التفتت بعض الأنظار إلينا.

بالرغم من هذه المواقف الطَّريفة كلها، إلا أنَّ صلاح إدريس كان متحمِّساً وجاداً في تنفيذ فكرة وحدة المعلومات والبُحُوث، لولا انشغاله بمهام متشعِّبة وتنقُّله الكثير من مكانٍ لآخر. لذلك، لا أخفي سراً بأنني قد تعلَّمتُ كثيراً من تجربتي في إنشاء “سيرو” عن صعوبة العمل الطَّوعي وما تلفَّه من عقباتٍ في توفير الدَّعم متعدِّد المصادر، من جهةِ، وربَّما الأكثر تعقيداً هي عمليَّة تنسيق الجُّهُود في سياق السَّعي لتنفيذ الفكرة وتحويلها إلى واقعٍ ملموس، من جهة أخرى! فظلَّت الفكرة حيَّة ومُتقدة في ذهني منصور وصلاح، بالرغم من انشغال منصور حينذاك بأعباء تكليفه كأمين للعلاقات الخارجيَّة بالتجمُّع في القاهرة، من ناحية، ومتابعته لوكالة السُّودان للعمل الإنساني التي أنشأها في أسمرا، من ناحية أخرى. كما كان يشغل منصور أمرُ البحث عن داعمين آخرين لـ“سيرو”، وعن أعضاء لمجلس الإدارة. كان منصور يُعوِّلُ، على وجه الخُصُوص، على دعمٍ من الأستاذ محمَّد فتحي إبراهيم “مو”، والأستاذ نوح سمارة الذي التقيته معه في شقته أكثر من مرَّة. نوح سمارة مواطن أمريكي، وُلد في إثيوبيا من أبٍ سوداني وأم إثيوبية، وهو مدير عام شركة “ورلد سبيس”، التي انطلق نشاطها بفكرةٍ جريئة تعتمد على بيع أجهزة راديو صغيرة في المناطق الريفيَّة تستقبل الإذاعات عبر الأقمار الصناعيَّة. ومن جانبٍ آخر، اتصل منصور بدكتور عبدالرحمن الطيِّب علي طه وفرانسيس دينق لينضمَّا إلى عُضوية مجلس الإدارة.

وبذلك، توقفت عمليَّة الشُرُوع في إنفاذ خُطة العمل الخاصة بتأسيس “سيرو”، حتى قرَّر صلاح ومنصور أن يُطلِقا صافرة إعادة بث الحياة في إجراءات الإنشاء والتأسيس. فالتقيتُ بهما في الأسبوع الأخير من مارس 1999 واتفقنا على المهام المُوكلة لي بشأن تأسيس “سيرو” وفقاً لخُطة العمل التي سبق وأن أجازاها، وعلى عقد العمل الخاص بي. ففي 9 أبريل 1999، تَسلمتُ خطاباً مكتوباً من د. منصور وموضوعه: “إنشاء وُحدة المعلومات والبحوث السُّودانيَّة في مصر”، يخاطبني فيه بصفته رئيس الوُحدة (SIRU Chairman). يقول منصور: «بالإشارة إلى المناقشات التي أجريتها مع السيِّد صلاح وشخصي كمديرين للشركة المذكورة أعلاه، أودُّ أن أؤكد تعيينك كمستشارٍ بحسب الشُرُوط المُتفق عليها للقيام بجميع الأعمال التمهيديَّة لإنشاء مكتب “سيرو” في القاهرة. لإنجاز هذه المهمَّة، يُصرَّح لك بموجب هذا التفويض، ضمن الميزانيَّة المحدَّدة وخطة العمل المُتفق عليها، بإجراء اتصالاتٍ مع المحامين والمُورِّدين والمُؤسَّسات الحكومية، فضلاً عن المُؤسَّسات التي قد ترغب في التعاوُن البحثي. ومع ذلك، ينبغي أن لا تُوقع الاتفاقات مع المُؤسَّسات التي تمس الأنشطة طويلة الأجل لـ“سيرو” إلا بعد التشاور الواجب مع المديرين». وكان منصور وصلاح قد طلبا مني أن أواصل في العمل كمُنسِّق للمشروع، بعد فراغي من العمليات اللازمة لتأسيس الوُحدة. شكرتهُما على العرض واعتذرتُ بسبب حُصُولي على وظيفة أخصائي برامج بالمركز الكندي لبُحُوث التنمية الدوليَّة، المكتب الإقليمي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ومقرُّه في القاهرة. فتوافقنا على أن أُكمل عمليَّة الإنشاء خلال أربعة أشهرُ، أبريل-سبتمبر 1999، إذ أني سأُباشر عملي الجديد في أول نوفمبر، مع الوعد بترشيح شخص مُؤهَّل ومقتدر لموقع “منسق المشروع”، المعني بتنفيذ برامج ونشاطات “سيرو” في المعلومات والبُحُوث. وهذا هو بالفعل ما كنت قد فكرت فيه قبل البدء في مهمَّة التأسيس.

الأعمال التمهيدية لإنشاء مكتب “سيرو” في القاهرة، التي كلفني بالقيام بها د. منصور وأستاذ صلاح، بحسب خطاب تعييني في 9 أبريل 1999. تكونت من ثلاث مهام. أولهما: متابعة إجراءات تسجيل الوُحدة وفق متطلبلت القانون المصري، وثانيهما: البدء في تأسيس المكتب من أثاثات وأجهزة، وثالثهما: الشروع في الإتصال بالمراكز المتخصصة في بناء بنوك المعلومات، على أن تتم هذه الخطوات في إطار خطة العمل المطروحة في المقترح الذي أعددناه منذ أواخر مارس 1998. استدعى تنفيذ بعض هذه الخطوات الاستعانة بخبير في المعلومات والتكنولوجيا للمساعدة في ثلاث مهام، 1) تقيم المعلومات المتوفرة للمركز الأفريقي للبحوث والبيئة (وهو المركز الذي أسسه منصور في نيروبي 1992-1998، وأشرت إليه في الحلقة 11) بغرض تحديد المعلومات المطلوب تحصيلها، 2) القيام بزيارة والتفاوض مع مركز يعمل في مجال بناء قواعد المعلومات في جنوب أفريقيا، بغرض تحديد طبيعة ونطاق التعاون في بناء بنك معلومات “سيرو”، و3) تحديد الاحتياجات من المعدات والبرامج الضرورية لبناء قاعدة المعلومات.

وقمت بإعداد ميزانية تقديرية، لتغطية تكلفة هذه النشاطات التمهيدية، كواحد من واجباتي، والتي شملت مرتب المنسق، ومكافأة مستشار المعلومات والتكنولوجيا، وتكلفة السفر (من فينكس والقاهرة إلى جوهانسبرج) والإعاشة، والاتصالات. ومن جانب آخر، كانت هناك منصرفات أخرى لعمليات التأسيس، ومن ضمنها: أجهزة الكمبيوتر والطابعات والماسح الضوئي، وأثاثات المكتب والتجهيزات والتوصيلات. وفوق ذلك كله، قام السيد صلاح إدريس بشراء شقة كلفت مائة ألف دولار أمريكي، ونسبة لعدم التسجيل الرسمي ل “سيرو” بعد ظل المقر بإسمه، وقدرنا له 6400 جنيه مصري كإيجار شهري لأغراض الميزانية. ومن جانب آخر، شرعتُّ في إجراء الاتصالات مع الجهات المعنية بغرض معرفة إجراءات التسجيل والمستندات المطلوبة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.