رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (21) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

منصور: الهم بالقضايا، والأبعاد الإنسانيَّة للحرب!

بعد انتهاء مُؤتمر أسمر وتكليفِهِ بأعباء العلاقات الخارجيَّة بالتجمُّع، قرَّر منصور الانتقال من نيروبي، مقرَّه السَّابق، إلى القاهرة وأسمرا، باعتبارِهِما المكانين اللذين أصبحا المِحورين الرَّئيسَين للنشاط الدبلوماسي للتجمُّع. بحُكم دراية منصور وخبرته في هذا المجال، لم يتطلبَ منه مثل هذا النشاط جهداً كبيراً، إذ كان مُنحصراً في التلاقي مع مُمثلي الدُّول والمُنظمات الطَّوعيَّة بهدف تنويرهم عن الأوضاع في السُّودان من وجهة نظر التجمُّع، أو الحوار معهم حول الدَّعم الذي يترجَّاه التجمُّع من جانبهم، أو السَّفر عبر العالم لأداء مهام تستلزم ذلك السَّفر. وبما أنَّ العمل الدبلوماسي بطبيعته عملٌ مساعد، في نظر منصور، اتجه تفكيره لتسخير نشاطه أيضاً في سُوحٍ أخرى. وكان أوَّل مجال لفت انتباهه، هو الحالة الإنسانيَّة المُزرية لمنطقة الشرق، وما يكابده إنسانها من شقاءٍ وما يتعرَّض له من جُوعٍ ومَسغَبَة، وإن لم تكُن تلك الأوضاع نتيجة مباشرة للحرب، خاصة وقد كان منصور مسئولاً عن الشُئون الإنسانيَّة بالتجمُّع. وقبل أن أتطرَّق لما بذله من جهدٍ لتوفير الإغاثة وتسهيل المُساعدات الإنسانيَّة في الشرق، من الجدير التنويه بأنَّ نوع هذا العمل ليس بجديدٍ على منصور، إذ كان له فيه دورٌ في جنوب السُّودان، ولو كان مُرتبطاً بالأبعاد الإنسانيَّة للحرب.

فمُنذُ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، بدا للمُجتمع الدَّولي أنَّ السُّودان يعيش وضعاً إنسانياً كارثياً لم يستطع الصَّمت أمامه، فوضعه محوراً لاهتمامه، والذي نال حقه في التعبير داخل الكُونغرس الأمريكي، كما لم يحدُث في أي مكان آخر. تبادُلٌ للرسائل بين مجلس الشيوخ والأمين العام للأمم المتحدة، بيريز دي كويلار يومئذٍ، قادت المُنظمة الأمميَّة عمليَّة إغاثة مُكثفة أُطلِقَ عليها “عملية قوس قُزح”، لتوصيل الإغاثة إلى الجنوب، في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة والحركة، على حدٍ سواء. فبحُكم موقعه كمستشار لرئيس الحركة الشعبية للعلاقات الخارجيَّة، التي تتضمَّن المساعدات الإنسانيَّة، كان منصور لصيقاً بهذا الملف، ولعب دوراً هاماً خاصة في نهاية ثمانينات القرن المنصرم. ففي مطلع يناير 1989، فرضت الولايات المتحدة ما يُطلق عليه “عقوبات بُرووك” Brooke Sanctions، والتي لا تسمح بمساعدة البلدان التي تخلَّفت عن السَّداد لأكثر من عامٍ واحد على القُرُوض المُقدَّمة بموجب اعتمادات المساعدة الأجنبيَّة. وعندما لم تدفع حكومة السُّودان المُتأخرات، لجأت وكالة المعونة الأمريكيَّة لاستحضار العُقُوبات الجزائيَّة التي تقضي بتقليص أنشطة برنامجها بشكلٍ كبير. ومع ذلك، لن يحظر هذا التقييد تمويل المساعدة الإنسانيَّة إذا قرَّر مدير الوكالة أنَّ توفيرها يخدم المصلحة الوطنيَّة.

فقام د. منصور بالسَّفر إلى واشنطون لحثِّها على الضَّرورة المُلحَّة لمُواصلة تقديم المُساعدات، نسبة للأوضاع الإنسانيَّة الكارثيَّة، فالتقى بجُوليا تافت، مديرة مكتب “المُساعدة الخارجيَّة في حالات الكوارث”، لمناقشة مشكلة المُساعدات لجنوب السودان (وفي حقيقة الأمر كان منصور قد بدأ اتصالاته معها في جنيف، في يونيو 1986، مع بداية تسلُّمها لهذا المنصب، عندما كان نائباً لرئيس اللجنة الدوليَّة للبيئة والتنمية). بعد اللقاء مع تافت في واشنطون، صرَّح منصور لصحيفة ‘نيويورك تايمز’، في يناير 1989، بقوله: «نحتاج إلى مزيدٍ من مساهمة الولايات المتحدة في جُهُود الإغاثة»، مضيفاً،  أنه «يجب على الولايات المتحدة أن تلعب دوراً أكثر نشاطاً في عمليَّة السَّلام بين الشمال والجنوب». تسبَّبت تصريحات منصور في حرجٍ لوزارة الخارجيَّة، ممَّا حدا بناطقها الرَّسمي بالتعليق بأنَّ: «الوزراء لها اتصالات مع ممثلي الجيش الشعبي لفترة طويلة»، لكن بدون أن يذكُر نُدرة تلك الاتصالات، مُطمئناً الصَّحفيين بأنه لم يتم أي تغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه السُّودان. بينما أكد موظفو وزارة الخارجيَّة أنهم بصدد نقل المزيد من الغذاء إلى جنوب السُّودان، لكنهم قلقين من أن مثل هذه العمليَّة قد تخاطر باستعداء حُكومة السُّودان. على كُلِّ حالٍ، منذ لقاء منصور مع جوليا تافت، تصاعد الأمر داخل المُؤسَّسات الأمريكيَّة المعنيَّة بأمر المساعدات الإنسانيَّة، وتحسَّنت قنوات الاتصال مع الحركة الشعبية.(J. Burr & Robert Collins, Requiem for the Sudan: War, Drought, and Disaster Relief, 1995, Routledge, New York, p. 162).

وفي هذا السياق، لمنصور رواية ينتقد فيها سياسة وسُلوك حُكومات الخُرطوم، حتى المُنتخبة منها، في التعامُل مع الأبعاد الإنسانيَّة للحرب في المناطق المُتأثرة بها في جنوب وغرب وجنوب شرق السُّودان. ففي أواخر 1986، قرَّرت حُكومة السيِّد الصَّادق المهدي إبعاد رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السُّودان، والمُمثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، ونستون براتلي، وإعلانه شخصاً غير مرغوب فيه في البلاد. ويُعد منصور براتلي من أميز موظفي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وما جاء به إلى السودان إلا إنجازه المشهود له إبان عمله في كمبوديا. السَّبب وراء طرده من البلاد هُو ما اعتبرته حُكومة الخرطوم خطيئة ارتكبها براتلي باجتماعه مع قياداتٍ من الحركة الشعبيَّة بأديس أبابا في فبراير 1986، بغرض الاتفاق على وسائل إيصال الإغاثة إلى الجنوب، في ظِلِّ تعثُّر عمليَّة “قوس قزح”. للمُفارقة، فقد كان منصور، بجانب لام أكول، مُشاركاً في ذلك الاجتماع، والذي رأت فيه الحكومة يومذاك “اجتماعاً مع الخوارج”، وأنَّ ما توصَّلوا إليه من ترتيباتٍ يُمثل تهديداً للسِّيادة الوطنيَّة. ويخلُص منصور إلى أنَّ رئيس الوزراء يبدو وكأنه: «لم يكن منزعجاً بمُعاناة الشعب الذي كان يحكُمه في الجنوب، بنفس القدر الذي انزعج به المُجتمع الدَّولي. وليس أبلغ تعبيراً عن عدم اكتراث رئيس الوزراء بمُعاناة أهل الجنوب من تصريحه الذي قال فيه: “إن رفض قرنق السَّماح لجُهُود الإغاثة بالمرور عبر الخرطوم لا يقود إلا إلى قتل شعبه”، وكأنَّ رئيس الوزراء “صاحب السيادة” على كُلِّ شعب السُّودان قد تخلى بذلك التصريح عن قطاعٍ من هذا الشعب الذي يسود ليُصبح “شعب قرنق”. فات على رئيس الوزراء أيضاً مغزى التعبير “قوس قزح”، فدلالة التعبير هو أنَّ هناك مشروعاً إغاثياً إنسانياً تندرج تحته جماعات مختلفة الألوان» (منصور 2013، نفس المصدر، ص 795).

وكالة السُّودان للعمل الإنساني في شرق السُّودان

أمَّا في شرق السُّودان، فقد كان، على حدِّ تعبير منصور، أكثر ما حزَّ في قلبه في المنطقة التي كانت المُعارضة تُطلق عليها اسم “الأراضي المُحرَّرة” الفقر المُدقع وتفشي مرض السُل الفتاك، ولذلك عُرفت تلك المنطقة بـ“مثلث السُل”، لأنها المنطقة التي تشهد أعلى نسبة للمصابين بذلك الدَّاء الوبيل في السُّودان. ولعلم منصور بعدم قُدرة التجمُّع على تمويل العمل الإنساني بحُكم إنفاقه لأغلب ما يتوفر له من مالٍ على العمل السياسي والدبلوماسي المُساند، قام بمبادرة إنشاء مُؤسَّسة طوعيَّة للعمل الإنساني، وعمل على تسجيلها رسمياً بحسب قوانين البلد المُضيف، إريتريا. مُتحدثاً لنفسه، يقول منصور: «من غير اللائق أن ننعت منطقة في الشرق بـ“المنطقة المُحرَّرة” في الوقت الذي نعجز فيه عن الإيفاء لأهلها، على الأقل، بواحدة من متطلبات التحرير، أوليس من أدبيات السياسة أنَّ أوَّل ما يُحرَّر منه الإنسان هو الجوع والجهل والمرض؟».. سمَّى منصور مُؤسَّسته الطوعيَّة “وكالة السودان للعون الإنساني”، مع حرصه على تكوين مجلس للأُمناء يضُمُّ رجالاً ونساءً لهُم المقدرة على، والرغبة في دعم المُنظمة. فضمَّت هذه الكوكبة المُناضلة الرَّاحلة فاطمة أحمد إبراهيم، والسيدة الراحلة جوزفين ديم، والدكتور علي نور الجليل.

بجانب هؤُلاء، لم يفُت على منصور إزجاء الشُكر، حتى لا يكون ظالماً لآخرين، ما كان للوكالة أن تحقق ما حققته لولاهُم. ومنهم، أولاً الفريق الذي عمل بجانبه دون كللٍ أو ملل: عبدالملك عبدالباقي (ضابط البحريَّة السُّودانيَّة المُتقاعد، والذي سمَّى مولوده الأوَّل “منصور”)، وعصمت علي إبراهيم ومساعدوهم المُباشرون وغير المُباشرين، مثل معتز الفَحَل وعمر عبدالرحمن (المشهور بعُمَر فور)، وشيخ سيف اليزل ود. مانوير. أنجزت الوكالة كثيرٌ من مشاريع الإغاثة تحت الإشراف المُباشر لمنصور، الذي نجح في استقطاب التمويل وتوفير المُعينات اللازمة من الدول والمنظمات الدَّوليَّة والإقليميَّة. فعن طريق علاقات منصور الممتدة، جاءت إلى أراضي البجة في شمال شرق السودان “لجنة الإغاثة الدولية”  International Rescue Committee (IRC)، التي كان منسق نشاطاتها د. صلاح الأمين. هدفت المنظمة إلى بناء قدرات المجتمعات المحلية في مجالات الصحة والتعليم والبيطرة وتمكين المرأة، ورفع قدرات الإدارة المدنية في المنطقة. بالفعل، عملت اللجنة الدولية في بناء ودعم المراكز الصحية والمدارس، وتم وضع منهج بلغة “البداويت” لتدريس التلاميذ عبر لغتهم الأم، مما تسبب في إشكال لمكتب المنظمة والتي هددتها السلطات بإغلاق مقرها في السودان.

إضافة إلى أن منصور تحصل، من خلال علاقات رئيس التجمُّع، مولانا الميرغني، على دعمٍ عربي وإسلامي، خاصة لهمشكوريب والنيل الأزرق وجبال النوبة، وفي مناطق قرورة وعيتربة. كما أسهم د. منصور مبكراً في فكرة تفعيل منظمات المُجتمع المدني، خاصه في شرق السُّودان وتعاونها مع منظمات الإغاثة العالميَّة، كالصليب الأحمر الدولي ومنظمة محفظة السَّامري بأمريكا. من جهة أخرى، استخدم منصور شبكة علاقاته المُمتدَّة مستنداً بشخصياتٍ لا علاقة لها بالسُّودان، فلم يبخلوا بمدِّ يد العون للوكالة، ومن ضمنهم: الرئيس أوباسانجو من نيجيريا، والرئيس بول كاقامي من رُواندا، ورجُلُ الأعمال المصري نجيب ساويرس. ومن بينهم أيضاً منظمة محفظة السَّامري في الولايات المتحدة التي رافق ياسر عرمان مبعوثها في تجواله بشرق السُّودان. ويذكُر منصور بهذه المناسبة قصَّة مُؤثرة رواها له الشيخ سليمان علي بيتاي عند لقائه بهذا المبعوث، الذي أحاط الشيخ بأنَّ المُؤسَّسة التي يمثلها مُؤسَّسة نصرانيَّة، فما كان للشيخ إلا أن يقول له: «الخيِّرون في الدُّنيا يُعاونون بعضهم البعض في عمل الخير أياً كانت دياناتهم، أمَّا في الآخرة فالحساب عند رب العباد». يرى منصور في هذه القصة درساً في التكافل الإنساني لا يدركه من ضاقت مَواعينِهم، خاصة “الخطباء الإلكترونيين في منابر المدن الذين يلعنون كل ما أُتيحت لهم فُرصة ابن وطنهم غير المسلم حتى وإن تطوَّع لعلاج للمريض المسُلِمِّ أو تعليم المُسلِمِّ الجاهل؟”.

إن كان هذا هو الجانب المُضيء من القمر، فللقمر أيضاً جانبٌ مُظلم. فمنصور يُشيرُ إلى صراعٌ خفي، خلال الأعوام الخمسة التي عاشتها الوكالة، لإجهاض ذلك العمل الإنساني من داخل التجمُّع. فمن جانب، طالب المسئول عن لجنة الشئون الإنسانية بالتجمُّع بتسليم الوكالة لتكون مقراً للجنة دون سُؤال عَمَّن أنشأ ذلك المقر أو أثثه، ومَن يُسهم في توفير إيجاره ورواتب العاملين فيه، وما هي مصادر تمويل نشاطه. ومن جانبٍ آخر، يقول منصور في أسى: «آلمني كثيراً مسلك بعض القائمين بأمر مُؤسَّسة إنسانيَّة أنشأها حزبٌ حليف كان يحظى بدعمٍ كاملٍ من الدولة المُضيفة (قُوَّات التحالُف). ففي جميع أنحاء العالم، يتبارى الناس في عمل الخير دوماً ولا يتناطحون، إلا بين السُّودانيين، حتى وإن كانوا في مهجر. صحبُنا أولئك أخذوا يتهامسون كهمس أخفاف الإبل حول مصدر المال الذي جاءت به الوكالة، ونوع الأثاث الذي أثِّثت به مكاتبها، وكأنَّ ذلك المال قد أُغتُصب من حقٍ لهُم، حتى لو أُنفق في غير ما قُصِدَ منه».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.