من أندر الفعاليَّات التي أستطيع أن أشهد باطمئنان على نجاحها، كوني شاركت فيها شخصيَّاً، ورأيت، مثل الشَّمس، هذا النَّجاح الذي تكللت به في كلِّ لحظاتها، الورشة، لا «المفاوضات غير الرَّسميَّة» كما أطلق عليها خطأ، والتي جرت، الأسبوع الماضي، بفندق بالم أفريكا بجوبا، حول «علاقة الدِّين بالدَّولة»، بين ممثلين للحكومة الإنتقاليَّة، وممثلين للحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان – شمال/ عبد العزيز الحلو، بمشاركة واسعة من مساعدي الطرفين، ومن خبراء وطنيِّين وأجانب، فضلاً، بطبيعة الحال، عن الوسطاء والميسِّرين، مجموعة السِّياسات والقانون الدَّولي العام، المركز الأفريقي للحلول البنَّاءَة للنزاعات، ومستشاري شركاء التَّنمية.
استغرقتنا كثافة هذا الحوار طوال نهارات الأيَّام من 29 أكتوبر إلى الأوَّل من نوفمبر 2020م. ورغم الشُّقَّة التي بدت، للوهلة الأولى، واسعة، والسُّخونة التي وسمت غالب المناقشات، إلا أن روح الاحترام المتبادل، مع الرَّغبة الصَّادقة في التَّقارب، وفي الوصول إلى منطقة وسطى، هو ما ساد، في نهاية المطاف، وطغى، لدرجة أن رئيس مجمع الفقه الإسلامي الجَّديد نفسه أبدى استعداداً مبدئيَّا للموافقة على استخدام مصطلح «العلمانيَّة» في التَّقرير الختامي، وإنْ بشروط جديدة، قبل أن يتمَّ الاتِّفاق على تغليب مفهوم «فصل الدِّين عن الدَّولة». ولعلَّ مِمَّا ساعد على سيادة ذلك الرُّوح المستوى الرَّفيع للمشـاركات، والمداخلات، والأطروحات، والنَّمـاذج التي اتَّسـمت بتَّنوُّع المصـادر، وعمق التَّناول، والموضوعيَّة.
في النِّهاية أمكن للطرفين، بفضل حنكة المُيسِّرين، وجهد الخبراء، التَّوصُّل إلى صيغة من أندر صيغ التَّوافق، فحصدت الإجماع بالفعل، ولم يتبقَّ سوى التَّداعي إلى جلسة ختاميَّة لوضع حبَّة الكرز الأخيرة على كعكة الميلاد!
لكن في تلك اللحظة .. في تلك اللحظة، بالذَّات، ظهر الفريق أوَّل شمس الدِّين كبَّاشي الذي ظلَّ غائباً عن الورشة طوال أيَّام انعقادها، ولم يشارك في مناقشاتها، ولا مرَّة واحدة، ظهر ليعلن لجميع المشاركين، وفي مقدِّمتهم «مَلَكِيَّة» الحكومة الانتقاليَّة، رفْضه «العسكريَّ» الصَّارم لصيغة «الفصل بين الدِّين والدَّولة»، طالباً تبديلها بصيغة «علاقة الدِّين بالدَّولة!»، وهي صيغة لا معنى لها بطبيعة الحال، ورفْضه، بالتَِّالي، لكلِّ التَّفاهمات المحدَّدة التي وُفِّقت الورشة لإنجازها، رغم أنه كان قد أبدى، خارجها، ترحيبه بمخرجاتها! كما وأنه لم يكن مطلوباً منه قبولها أو رفضها، وإنما عرضها، فحسب، على الحكومة في الخرطوم للنَّظر في وزنها، والتَّقرير بشأنها!
على أيَّة حال «حَدَسَ ما حَدَسْ»! فصدرت، على الفور، وعن حق، ردود الفعل المستنكرة، بل والغاضبة، من الأطراف جميعاً، وهم يرون ثمار جهدهم تداس بالأقدام، خصوصاً إعلان أكثر من قيادي في الحركة الشَّعبيَّة عن أنهم، إزاء عدم الجِّدِّيَّة هذا، مستعدُّون حتَّى للعودة إلى المربع الأوَّل، مربَّع ما قبل اتِّفاق حمـدوك ـ الحـلو بأديس أبابا، و .. لا تعليق!