رحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (57)

 

الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر!
جون قرنق والبَحْث عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير
[email protected]

أُطروحَة د. مَنصُور:
السَّلام ووُحدَة البِلاد: الفُرَص المُهدَرَة!

ثورة أكتوبر 1964

مع القمع الداخليِّ في الشمال، والانهيار الاقتصاديِّ في كُلِّ السُّودان، وتصاعُد حِدَّة الحرب في الجنوب، أدَّت تلك الظروف مجتمعة، إلى درجةٍ من السُّخط والغضب الشعبيِّ، لتندلع انتفاضة شعبيَّة، أطاحت بحُكم الجيش، وأفضت إلى تشكيل حكومة انتقاليَّة (1964-1965) للإشراف على انتقال السُّلطة مرَّة أخرى إلي حكومة منتخبة.

مؤتمر المائدة المُستديرة: ضياع فرصة أول مبادرة سلام سودانيَّة!

اختلفت حكومة أكتوبر(1964-1965) خاصّة في تشكيلها الأول، عن سّابقاتها، بأنها الوحيدة التي وضعت مُشّكلة الحرب والسلام على رأس أولوياتها. وبالرغم من أنها جاءت بأفكار جديدة وأولويات سليمة، إلا أنها افتقدت السيطرة المركزية القوية، ولذلك كان تفكّكها أمراً محتوماً. وفي أول محاولة سُّودانية جادة للبحث عن السلام، أفلحت حكومة أكتوبر في إقناع القيادات الجنوبية بالجلوس إلى طاولة التفاوض، فيما سمي “مؤتمر المائدة المُسّتديرة” (16-29 مارس 1965). لم يكن خطاب رئيس الوزراء (سر الختم الخليقة)، أمام المؤتمر، تقليدياً مكرراً، بل تضمن استعراضاً جديداً للأزمة، بصورة غير مسّبوقة، إذ وضع قضية الجنوب في سياقها التاريخيّ الصحيح.، وطالب القادة الجنوبيين بمنح الجنوب الحق لمُمارسة تقرير المصير بنفسه، عبر استفتاءٍ، ليُحدِّد أهله رغبتهم من بين ثلاثة خيارات: إمَّا الوحدة، أو الاتحاد الفدرالي، أو الانفصال. ولعلَّ في هذا الطلب المُبكِّر للاستفتاء، رداً شافياً لتساؤُلات العديد من السياسيين والمُراقبين، في شمال البلاد، حول موضوع “حق تقرير المصير”، ومَن أين أتى؟ رفضت جميع الأحزاب الشماليَّة فكرة إجراء استفتاءٍ عام، كما لم تقبل بالفيدراليَّة. قصارى ما كانت على استعداد للاستجابة إليه، هو: وضعٌ خاص يشمل قيام مجلس تشريعي للإقليم، ومجلس وزراء محلي، تقتصر صلاحياته على التعليم والصحة والزراعة. إذن، صرفتْ حكومات الشمال النظر نهائياً عن موضوع الفدراليَّة، الذي كان هو محور الحوار السياسي منذ يناير 1956، واستبدلته بمشروع دُستور 1968. تمَّ تقديم هذا المشروع بعد تأجيل “مؤتمر المائدة المستديرة”، الذي أكد فيه الجنوبيون تمسُّكهُم بمطالبهم الرئيسة.
ساد رأيٌ في أوساط الشماليين، يحمِّل الجنوبيين تبديد فرصة التصالُح التي وفَّرها لهُم الشمال، إذ أنَّ المفاوضين الجنوبيين آثروا الامتثال لمطالب حركة أنيانيا المتشدِّدة، بينما عجزوا عن تجاوز خلافاتهم الشّخصية والقبلية والسياسية، ممّا ألقي بظلالٍ كثيفة على المؤتمر، أعاقت الرؤّية عمّا هو أهمّ: وهو تحقيق السلام. يرى منصور أنّ حقيقة الأمر غير هذا، ففي تلك الأيام، كانت أذهان وأبصّار الساسة الشماليين–لا الجنوبيين- غائبة عن المؤتمر، وجميعها مشّدودة إلى الانتخابات الوشيكة. وفي إطار الإعداد لتلك الانتخابات، أضحت قضية الحرب في الجنوب محلاً للتنازع والتزيّد بين الأحزاب. فكان كلّ حزبٍ يتردّد في تقديم أيّ تنازلات للجنوب، خشّية أن يصبح ذلك سلاحاً في أيدي خصومه يستخدمونه ضده في الانتخابات. نتج عن ذلك الموقف أمران. أولهما: تشدّد الجنوبيين في رفع سقف مطالبهم، وثانيهما: سعي أحزاب الشمال الحثيث لكسب السياسيين الجنوبيين، ليس بهدف إنجاح المؤتمر، بل لضّمان وقوفهم معها في الانتخابات.
ومع الانهيار الفعليِّ لأعمال المُؤتمر، و“لجنة الإثني عشر” المنبثقة عنه بغرض متابعة ما خرج به من مقرَّرات محدودة، لم تَرْقَ لدرجة تشكيل أساسٍ لإقرار سلامٍ دائمٍ وعادل، صدرت شهادة وفاة أوَّل مبادرة سودانيَّة لتحقيق السَّلام، وانصرفت الأحزاب لما تجيد فعله: الانتخابات!
تميَّزت هذه الفترة (1965-1969) بتبدُّل الحُكومات الائتلافيَّة، وتبادُل رئاسة الوُزراء، وبالصِّراعات والانقسام المُستوطن داخل الأحزاب وفيما بينها، وعجزها المُزمن عن العمل سوياً، ولو لفترة معقولة من الزمن. تصاعدت وتيرة الحرب في الجنوب، وأطلق العنان لإرهابٍ فاق إرهاب عبود، خاصَّة خلال فترة الحُكومة الائتلافيَّة الأولى (أبريل 1965- يوليو 1966)، برئاسة المحجوب، الذي لم يرَ فيه الجنوبيون يومئذٍ إلَّا رمزاً للشرِّ.
أما الصادق المهدي، رئيس الوزراء (يوليو 1966- مايو 1967)، فبدلاً من أن يستدعي “مؤتمر المائدة المُسّتديرة”، بعد تلقيه لتقرير “لجنة الإثني عشر”، التي شكلها المؤتمر لترفع تقاريرها إليه، أثر عقد ما أسماه “مؤتمر عموم الأحزاب”، والذي قاطعته قوى سياسية مُعتّبرة من الشمال والجنوب، ولم يتوصّل إلى مخرجات، تصلح كأساس للإجماع حولها، حتى لو شاركت فيه كل الأحزاب الشمالية. إلا أنه، خلال، وبعد انتخابات الجمعية التأسيسية الثانية، في خضم حربهم المُقّدسة لصياغة دستور إسلامي يعزّز نفوذهم، ويقضي على معارضيهم اليساريين، عطفاً على حلِّ الحزب الشيوعيّ السُّودانيّ وطرد نوابه من البرلمان، في نوفمبر 1965، تناسى الجناح الإسلاموي في المؤسسة السياسية التقليدية بكلّ بساطة مشكلة السُّودان الأولي: الحرب في الجنوب. لم تستطع الأحزاب أن تتوحّد لفترةٍ كافيةٍ من الزمن حتى لإقرار الدستور الذي صاغوه، بغية إحكام قبضتها على مقاليد الحكم، فقادتْ صراعاتها لتشكيل المناخ الملائم لتدخُّل الجيش في 25 مايو1969، وإن كان هذه المرَّة دون دعوةٍ من أحد.

اتفاقيَّة الحُكم الذاتي للجنوب: فرصة سلام نادرة، صنعها وأهدرها نميري:

إحدى الفرضيَّات الرئيسة لأطروحة منصور، أنَّ ما يدَّعيه السَّاسة المدنيون، بأنَّ تدخُّل الجيش في السياسية لم يتح لهُم فسحة كافية للحُكم، إذ نجحت ثلاثة انقلابات في الاستيلاء على السُّلطة بين 1958 و1989، ليس بواهٍ فحسب، بل هو خداعٌ للنفس. ففي الواقع، فكلما تدخل الجيش لأخذ الحكم عنوة، كان ذلك يتمّ دوماً إمّا بناء علي دعوة الزعماء المنتخبين، أو ومباركتهم له، أو نتيجة لصراعات ومكّايدات الحكومات الائتلافية. وهكذا، يعتبر منصور أن الأحزاب هي المسئول ا‌لأول عن تسييس الجيش بإقحامه في حرب أهلية دوافعها سياسية متجذّرة، حيناً بدعوى وضع حدّ لهذه الحرب (1969 و1989)، وتارّةً بحثّ الجيش من قبل الأحزاب السياسية الأيديولوجية لاستلام السلطة (الشيوعيون والناصريون في 1969، والبعثيون في عددٍ من المحاولات الانقلابية خلال فترات الحكم المدني). إنّ فشل الأحزاب الشمالية في مخاطبة، والتعامل مع، النزاع الدّامي في ريف السُّودان، خاصّةً في الجنوب، وترك المُهمة على عاتق الجيش، يعدّ في حد ّ ذاته تسييساً للجيش.
عاملان مُتلازمان، ضمن دوافع أخرى، يعزو لهُما منصور انقلاب 25 مايو 1969. أولهُما: هو انتشار الثقافة العسكريَّة في المنطقة كلها، في ذلك الوقت، ولو بأردية أيديولوجيَّة مختلفة، وثانيهما: هيمنة هوس الحزب الواحد في جنوب القارة، كما في شمالها، باستثناء حالاتٍ قليلة. لقد ساد يومها، أنَّ توحيد الأوعية السياسيَّة في حزبٍ واحدٍ، هو الوسيلة المُثلى لبناء الوطن والحفاظ على وحدته. ولا شكَّ أنَّ شرائح كبيرة من النخب السُّودانية كانت تتطلع إلى نجاح مثل الذي حققه جمال عبدالناصر في مصر، وربَّما كان هذا هو حلم كلّ الذين ناصروا العسكر في استيلائهم على الحُكم في كلِّ العالم العربي. مع ذلك، فمن المُهم هنا، أنَّ منصور لا يخفي كونه ضمن بعض النُخب في الحُكم، ولو بالوكالة، التي داعبتها الأحلام لتحقيق نقلة نوعيَّة في السياسة السودانيَّة، على نفس النهج. بل، يُقرُّ منصور بأنَّ تلك الأحلام «تحوَّلت إلى كوابيس مُفزعة للأمَّة كلها». بل ويزيد، بأنَّ عوامل الضَّعف في شخصيَّة نميري ما كان لتصل إلى الحدِّ المأساوي، الذي وصلت إليه، “لولا سعينا لمأسسة الطغيان”. فبصرف النظر عن الظروف الموضوعية التي حدت بنا للتحالف مع نميري، وبصرف النظر أيضاً عن الإنجازات التي تحققت في عهده، إلا أنَّ السُّلطات التي منحها الدُستور للرئيس، وضعف التنظيم السياسي في استغلال الكوابح التي توفرت في نفس الدُّستور للحدِّ من سوء استغلال تلك السُّلطات، جعلت من نميري صنماً، “يسدن عليه من يسدن”.

كان منصور متابعاً لكلِّ محطات عملية السلام منذ إعلان الرئيس نميري لنواياه في التوصل للحلّ السِّلميّ في 9 يونيو 1969، بالرغم من إقامته يوم ذاك خارج البلاد. وقد أشار أبيل الير، في كتابه ،”جنوب السُّودان: التمادي في نقض العهود” ( الخرطوم، 1998)، إلي دور منصور المباشر في بعض المهام، حينما كان مندوباً للسُّودان في الأمم المتحدة، ممّا لم يمكنه من المُشّاركة في المراحل الأولى من الإعداد للمباحثات. بيد أنه ، بحكم موقعه لاحقاً كوزير للخارجية (أكتوبر 1971)، شارك في اللقاء التحضيري بين مبعوثي الحكومة و”حركة تحرير جنوب السُّودان”، بحضور مندوبي “مؤتمر كنائس عموم أفريقيا” و”مجلس الكنائس العالمي”، في نوفمبر 1971 بأديس أبابا، بغرض استكشاف مواقف الطرفين، والتعبير عن رغبتهما المتبادلة في تحقيق السلام. انتهي اللقاء باتفاق الجانبين على الشروع فوراً في للمفاوضات في ذلك الاجتماع التمهيدي ، عقد في 20 يناير 1972 بأديس أبابا. أنصف أبيل ألير د.منصور بكلماتٍ طيبات ، وزكّاه بها لعضوية وفد التفاوض، فوصفه بأنه “واسع الإطلاع، ومفكر غزير المعرفة، ويمتاز ببصيرةٍ عملية، ولم يكن غريباً على مشكلة الجنوب. ومما يُؤثر عنه عيبه على الشماليين حصولهم على الاستقلال بالخديعة، إشارة منه لتنكرهم للوعد الذي قطعوه للجنوبيين بمنحهم حكماً فيدرالياً، إذا ما أيدوا قرار الاستقلال. وكان رجلاً قويّ العارضة، واسع الثقافة، يسّبق جيله بسنواتٍ عدة”. وبالطبع، كان منصور عضواً فاعلاً في الوفد الحكومي للمفاوضات الرسمية، 12-27 فبراير 1972، التـي انتهت إلـــى ما أطلــق عليه فيمـا بعد اتفـــاق أديس أبابـاAddis Ababa Accord . بل وقع منصور نيابةً عن حكومة السُّودان، مع أنه لم يكن رئيساً لوفد المفاوضات الذي ترأسه السياسي الجنوبي أبيل الير، بصفته نائب رئيس الجمهورية، بناءً على طلب وفد حركة استقلال جنوب السُّودان. تحسّر منصور لهذا الطلب لأنه، في نظره، كشّف عن ضيّق في رحابةِ الصبر من قبل الجنوبيين، وضيق أفق سياسة المفاوضات. وبكلّ المقاييس، فأبيل الير زعيم قوميّ، كما أنه من أعمدة المجتمع الجنوبي.
هكذا، وفي اتسّاق مع أطروحة منصور، بينما عجز الحكم النيابي الثاني (1965-1969) عن المضيّ قدماً على طريق حكومة أكتوبر بإعطاء الأولويَّة لوقف الحرب وحلِّ قضية الجنوب، سار نميري في هذا الطريق وبذلك نجح في ترتيب الأولويَّات. تمثلت النقاط الجوهريَّة في الاتفاق في بنود قانون الحكم الذاتي لجنوب السودان، لعام 1972، الذي أقرَّ تشكيل الإقليم الجنوبي، على أن يتولى إدارته مجلس تنفيذي عالي، تشرف عليه جمعيَّة تشريعيَّة إقليميَّة (مجلس شعبٍ إقليمي)، تتمتع بصلاحيات واسعة للإشراف على كُل جوانب الإدارة، باستثناء ما يدخل في حيِّز سُلطات المركز. وبحكم موقعه التنفيذي، ساهم منصور فيما اتُّخذ من خُطُواتٍ مُتقدِّمة في إعادة بناء الإقليم الجنوبي باستنفار المُجتمع الدَّولي، الذي لم يبخل بالعون. فقد أعطت وزارة الخارجيَّة مهمَّة تعمير الجنوب أولوية قبل الاتفاق بكثير، إذ عُقد الرَّأي على أنَّ أي اتفاق لا تصحبه خُطة لإعادة بناء الجنوب وتأهيله، وتوطين اللاجئين والنازحين من أهله، سيُمنَّى بالفشل.
في شهادته لنُكُوص نميري المتدرِّج عن أحكام الاتفاق، يري منصور أنَّ تفكيك اتفاق أديس أبابا، لم يكُن نتاجاً لتخطيط نميري وحدَهُ، فقد كان له أيضاً مُحَرِّضُون ومُسانِدُون. فقد كانت القُوى السياسيَّة التي أقصاها نميري عن الحُكم في عام 1969، لا تُخفي مُعارضتها لاتفاقٍ خوَّل للجنوبيين سُلطاتٍ كتلك التي نصَّ عليها اتفاق أديس أبابا. لا غرابة، إذن، في أن تمارس هذه القُوى، بعد المُصالحة مع نظام مايو (1969-1985)، الضغوط على نميري، لدفعه إلى إلغاء الاتفاق بحُجَّة أنه يُذيبُ الهُويَّة العربيَّة الإسلاميَّة، ويُعرِّض السِّيادة الوطنية للخطر. ويذهب منصور أكثر من ذلك ليدمغ موقف هذه القُوى، حول اتفاقٍ يُنهي الحرب، بأنه كان يفتقر إلي أدنى درجات الوطنيَّة، سواءً كان هذا الموقف صادرٌ عن شُعُورٍ بالامتعاض الشديد، لأنَّ الاتفاق اعتمد على قرارات “لجنة الاثني عشر” التي عجزت الأحزاب عن تنفيذها، أو بسبب عداء للنظام، رغم عودتهم للمشاركة فيه. حقاً، كانت المُمارسات الدِّيمُقراطيَّة الوليدة في الجنوب (مجلس تشريعي إقليمي مُنتخب، ومجلس تنفيذي عالي)، والحُريَّات السياسيَّة النسبيَّة، مصدر التخريب والتعطيل من المُؤسسة السياسيَّة الشماليَّة، باللجوء لمناورات الأحزاب وأساليبها المعهودة في الاستقطاب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.