رحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (44) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

البحث عن حوافز لترجيح خيار الوحدة: نيفاشا +!

بالرَّغم من أنَّ صفحة الانتخابات قد انطوت، كما بيَّنتُ في الحلقة السابقة، ظلَّت البلاد تعيش مناخاً سياسياً متأزماً، استقطاباً وتجاذُباً بين كافة القُوى السياسيَّة، ومُرشَّحٌ للتصعيد إن أضفنا إليه ملفات أكثر سخونة من استفتاءٍ على تقرير مصير الجنوب، والمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة، والأزمة فى دارفور. حقيقةً، هذا هو المشهد الذي كان يلحظه ويراه كل مُراقب حصيف ماثلاً أمام عينيه، ولا تستقيم معه أي مكابرة أو إنكار! وقد أسفر الاستقطاب عن وجهه فى كيل الاتهامات وتبادُلها بين القوى الرَّافضة لنتائج الانتخابات فى الشمال والمُؤتمر الوطني (وبين الأحزاب السياسيَّة الجنوبيَّة والحركة الشعبيَّة).

على كُلِّ حالٍ، كانت الأجواء تُنذِرُ بأنَّ خيار تصويت الجنوبيين لصالح الانفصال في الاستفتاء على حق تقرير المصير أصبح هو الأكثر ترجيحاً، فقد أضحت الكتابة واضحة على الحائط. في ظِلِّ هذه الأجواء. في منتصف سبتمبر 2010، دعاني د. لوال دينق من قيادات الحركة الشعبيَّة، ووزير النفط في حكومة الوحدة الوطنية حينئذٍ، للقاءٍ يجمعنا مع د. منصور في منزله. إن كان في الحركة اثنان فقط من القيادات الجنوبية يُؤمنا بوحدة السُّودان، لا أتردَّدُ في القول أنَّ أحدهُما جون قرنق والثاني لوال دينق، المُقرَّب من الزعيم الرَّاحل. بجانب أنَّ لوال أتي من بور، مسقط رأس د. جون، وبينهُما صلة قُربى، فهُما أيضاً قد تزاملا في سنوات الدراسة فوق الجامعية في جامعة أيوا حيث تحصَّلا على درجتي الدكتوراه، في الاقتصاد والاقتصاد الزراعي، على التوالي، في مطلع الثمانينيات. من ناحية، لوال هو أوَّل جنوبي أعرفه في حياتي، إذ دخلنا جامعة الخرطوم، كليَّة الاقتصاد، وتزاملانا في السَّكن بداخليَّة عطبرة (ب)، فنشأت بيننا صداقة استمرَّت لهذه اللحظة، ومن ناحية أخرى، هو صديقٌ لمنصور ويكِنُّ له حُباً واحتراماً لا يُدانيهما شكٌ، ولذا ما كان لوال دينق أن يُقدِم على هذه الخُطوة بدون مباركة من منصور.

كان لوال قلقاً على مستقبل وحدة البلاد، ممَّا دفعه للمُبادرة بفكرة، طرحها لنا في الاجتماع، تعبر عن حرصه على بقاء السُّودان مُوحَّداً. تتلخص مبادرة لوال في ضرورة تكوين مجموعة صغيرة مختارة من المُهتمين، والمهمومين بقضيَّة وحدة البلاد، من كُتَّاب الرَّأي والإعلاميين. تهدف هذه المجموعة إلى التفاكُر حول سُبُل تحقيق “الوحدة الجاذبة”، بتوفير حوافز تدفع الجنوبيين للتصويت لصالح الوحدة في الاستفتاء المُرتقب، تحت عنوان عريض “نيفاشا +”. بعد نقاشاتٍ ومشاورات، تمَّ الاتفاق على قائمة أوليَّة من الأسماء: السر سيد أحمد، محجوب محمد صالح، الطيب حاج عطيَّة، الطيب زين العابدين، كمال الجزولي، فيصل محمد صالح، محمد لطيف. قدَّم د. لوال الدعوة لهذه المجموعة لأوَّل اجتماع، في شكل “عشاء عمل”، بدار النفط التابع للوزارة، في مساء 23 سبتمبر 2010. ومن خلال عصفٍ ذهني وتبادُلٍ للأراء حول المُبادرة، اتفق الجميع على أنه لم يفُت الأوان بعد على العمل من أجل الوحدة، وأنه يجب بذل كل جهد ممكن على جميع المستويات الشخصيَّة والحزبيَّة والإقليميَّة وغيرها للتأثير على نتيجة الاستفتاء في 9 يناير 2011، أو المساعدة في خلق بيئة مُواتية للاستقرار. وعليه، تمَّ تقديم بعض الخُطوات الضَّروريَّة في طريق تنفيذ الفكرة، ومن ضمنها: 1) التواصُل مع أعضاء مجلس التحرير القومي للحركة الشعبية، وهو أعلى سُلطة يمكنها اتخاذ قرار بشأن موضوع الوحدة/الانفصال، 2) تحديد اجتماعين خلال هذا أسبوع، أولهُما مع د. منصور، على أن يقوم محمَّد لطيف بالتنسيق لهذا الاجتماع. أمَّا الاجتماع الثاني فمع لوكا بيونق، وزير رئاسة مجلس الوزراء، ووَعَدَ الأستاذ محجوب محمد صالح بالسَّعي لتحديد موعِدٍ معه، 3) لتحسين وزيادة وتيرة الاتصال بين أعضاء المجموعة، أُقتُرح استخدام رسائل الإيميل، بشكلٍ مُوسَّع، على الرغم من أنَّ الاجتماعات الفعليَّة ستكون مطلوبة من وقتٍ لآخر، 4) الاتصال بوزير الإعلام ومعرفة ما إذا كانت البروتوكولات المُوقعة مع وزارة إعلام حُكومة جنوب السُّودان يمكن استخدامها لتوجيه بعض الرَّسائل، وكسر هيمنة صوت الانفصاليين على موجات الأثير، 5) تنظيم اجتماع مع مدير مركز “إيبوني للدراسات” بجوبا، ولوال دينق من مُؤسسيه، لنفس الغرض، 6) الحاجة إلى جمع بعض الوثائق حول اتفاقيَّة السَّلام الشامل، وبعض أقوال الزعيم الرَّاحل، د. جون قرنق، لاستخدامها في هذا المسعى، 7) من المُفيد أن يستخدم أعضاء المجموعة الوسائل الإعلاميَّة المُتاحة لهُم لبث وجهات النظر (خاصة باللغة الإنجليزيَّة) لضمان الفرص العادلة للنقاش حول كلا خياري الوحدة/الانفصال والحاجة إلى الاستقرار ممَّا يسلط الضوء على ولايات “التمازج” العشر، و8) اختيار الأستاذ السر سيد أحمد ليكون مُقرِّراً للاجتماع ومركزاً للاتصال. السر صَحَفِيٌ مرموق مُهتمٌ بشئون الطاقة وعلاقتها بالسياسة، وقد كتب العديد من المقالات حول الموضوع، ونشر كتاباً بعنوان: “سنوات النفط في السودان: رحلة البحث عن الشرعيَّة والاستقرار الاقتصادي”، 2013، دار مَدَارِك للنشر، الخرطوم). قدَّم د. منصور الكتاب، وقال على حد تعبيره: «مؤلف هذا الكتاب باحث وقاف مُتمهِّل لا يورد واقعة إلا ويتبعها بدليل، ولا يُصدرُ حُكماً إلا ويُلحقه بإثبات. إحترام الكاتب لعقل قارئه خلة عرفتها عن السر سيد أحمد منذ عقود من الزمان خلون.. باختياره لموضوع النفط، تناول الكاتب مادة شديدة الالتهاب، ولهيب النفط لا يتوقف عند احتراقه لتوليد الحرارة، بل يمتد ليشمل حتى السياسة والاقتصاد».

اللقاء مع نائب رئيس الجمهورية: عسى ولعلًّ!

في أحد الاجتماعات اللاحقة للمجموعة، اقترح محمد لطيف التواصُل مع نائب رئيس الجُمهورية، علي عُثمان محمَّد طه (شيخ علي)، بصفته مهندس اتفاقيَّة السَّلام الشامل عسى ولعلَّ أن يدفع بالأمر إلى الأمام. وبالفعل، رتَّب محمَّد لطيف لقاء جمعني بمولانا أحمد هارون، والي جنوب كُردُفان يومئذٍ، والذي تربطه صلة وثيقة بشيخ علي، بجانب أنه من أنصار الوحدة. تمَّ ذلك اللقاء بمكتب محمَّد لطيف في مقر صحيفة ‘الأخبار’، التي كان يترأس تحريرها في شمبات بالخُرطوم بحري. عرضتُ على مولانا جوهر المسعى الذي نقوم يه وأملنا في دعم نائب رئيس الجمهوريَّة له، فرحَّب بالفكرة وأنه سيشرع فوراً في ترتيب اجتماع معه في غُضُون أيامٍ قليلة. وافقت المجموعة على اللقاء المُقترح مع ابداء ملاحظة أنّ مُقابلة كل المجموعة للسيد النائب قد لا تكون عمليَّة، بل من الأفضل أن أكون ممثل المجموعة في هذا اللقاء. وبالفعل، في منتصف أكتوبر 2010، وبعد ثلاثة أيام فقط من لقائي معه جاء مولانا مساءً إلى منزلي، في قاردن سيتي، وأخذني إلى منزل شيخ علي بحي الرِّياض، وهو يقود سيارته بنفسه. قابلنا النائب بترحاب، ولم أجد صُعُوبة في عرض الموضوع له، خاصة وهو يعرف تفاصيل الاتفاقيَّة ومأزق “الوحدة الجاذبة”، فكان ردُّه إيجابياً وأنه سيتناول الأمر بجديَّة وسيعمل على استمالة الرئيس له. ومن جانبٍ آخر، أعلن نيَّته في الاتصال بالنائب الأوَّل، الفريق سلفا كير، للتشاوُر معه، وأنه أيضاً من المُهم من جانبنا المثابرة في اقناع قيادات الحركة الشعبيَّة في هذا الصَّدد. حدثت طرفةٌ قبل بداية الاجتماع، وبعد أن تمَّت استضافتنا داخل المنزل في صالون كبير فخيم الأثاث، وجلستُ بجانب مولانا أحمد هارون على أريكة مُريحة في انتظار المُضيف، شيخ علي. لاحظتُ أنَّ الصالون عبارة عن عدَّة جلسات، كل واحدة في مساحة فسيحة، يُحيط بها عددٌ من الكراسي والأرائك وفي وسطها تربيزة من الخشب المهوقني، وضِعت على سطحها عددٌ من منافض رماد السجاير (طفَّايات) من الكريستال مختلفة الأحجام. التفتُّ يميني إلى أحمد هارون وسألته مازحاً: «يا مولانا، لا أظُنُّ أنَّ ضيوف شيخ علي من المُدخنين، وباين أنو الطفايات دي تستخدم لوضع نوى التمر (حصى البلح)، الذي يُقدَّم لهُم!». ارتسمت ابتسامة عريضة في وجه مولانا، وكان ردٌّه: «إنت يا دكتور رباطابي؟»، فضحكتُ وقلتُ له: «لا ما رباطابي، لكن لساني طويل بس!».

توقعت مجموعة دار النفط خيراً من هذا الاجتماع وما أبداه نائب رئيس الجُمهُورية فيما يلي المُضي قُدُماً في موضوع “نيفاشا +”، عسى ولعلَّ، ولو من الصعب أو ربما المستحيل، أن يستجيب المُصوِّتين من الجنوبيين في الاستفتاء. كُنتُ قد أجَّلتُ سفري للكويت، حيث أُقيم مع أسرتي، الذي كان مُقرَّراً في الأسبوع الأوَّل من أكتوبر 2010، بسبب مواعيد الاجتماع مع النائب، فغادرتُ الخرطوم في منتصف أكتوبر. ومع ذلك، ظللتُ أتواصلُ مع الصَّديق السر سيد أحمد، منسِّق المجموعة، حتى أكون على إلمامٍ بما قد يطرأ من مستجدات وتطوُّرات، بعد لقاء شيخ علي، في أمر الدَّفع إلى الأمام بمبادرة المجموعة. وفي 9 نوفمبر 2010، ردَّ عليَّ السر بهذه الرسالة: «لم يُعقد أي اجتماع للمجموعة باستثناء التحرُّكات هُنا وهُناك، على طول الخُطوط المُتفق عليها. أبرز ما فعله مولانا أحمد هارون في الاتصال بمالك عقار الذي سافر إلى جوبا لاستخدام مساعيه الحميدة. ومن هُناك اتصل بمولانا ليُخبره أنه حقق اختراقاً ويريد الضرب على الحديد وهو ساخن حتى يتمكَّن من اقناع شيخ علي للحُضُور إلى جوبا، وهو ما حَدَثَ بالفعل، ولعلك قد سمعت بذلك. كان الاجتماع مثمراً، وبمشاركة د. رياك مشار، وكانت “نيفاشا +” مِحور الحديث». وبالرغم من أنَّ رسالة السِّر حملت خبراً يدعو للسَّعادة، مما كان يعني أنَّ اجتماعنا مع نائب رئيس الجُمهُوريَّة قد خلّف أثراً، ولكن كان لي رأيٌ آخر. فقُمتُ بالرد فوراً: «عزيزي السر. شكرا جزيلاً على ردِّك السريع! تابعتُ الاجتماع الذى جرى في جوبا قبل أسبوعين، وكُنتُ متفائلاً بعض الشيء عندما رأيتُ أحمد هارون يرافق علي عُثمان، وبحُضُور مالك (الذي بادر بالدعوة إلى الاجتماع)، ورياك مشار. ولذلك، ظننتُ أنَّ الاجتماع ركَّز بالفعل على مناقشة اقتراح “نيفاشا +”، إلا أنه لم يحدُث، أو يصدُر شيء في هذا الشأن من الاجتماع سوى تهدئة أجواء التوتر بين شريكي الحُكم، إضافة إلى استئناف عمل اللجان المشتركة بينهما، وانعقاد مُؤسَّسة الرئاسة. فحقيقة، لم أحصل على أدنى دليل على إحراز أي تقدُّم في هذه القضيَّة. على العكس من ذلك، فقد بقيت جميع تصريحات قيادة الحركة كما هي، حتى رياك الذي سبق له التصريحات الإيجابيَّة حول الوحدة، عاد إلى الحديث بقُوَّة عن حتميَّة الانفصال! فما هي المُؤشِّرات التي تحمِلُك على الاعتقاد بأنَّ الحركة قد اشترت الفكرة!». فقد كان من الواضح أنَّ أجندة الاجتماع دارت حول القضايا العالقة لاتفاقيَّة السَّلام الشامل، ممَّا يعني أن نتيجة الاستفتاء كانت محسومةٌ مُسبقاً.

عُدتُ من الكويت إلى الخُرطوم في منتصف نوفمبر 2010، وقد بات من المُؤكد أن مبادرة لوال دينق لن ترى النور، فقد أصبحت الأجواء مُعبَّأة بالدَّعوة الصريحة للانفصال وحث الجنوبيين للتصويت لصالح الانفصال، والاستفتاء على بُعد أقل من شهرين، والترويج لذلك من قِبَلِ القيادات الوسيطة للحركة، وبقيَّة القُوى السياسيَّة الجنوبيَّة. حقاً، لا ضِرار، فلقد جاءت المبادرة متأخرة. على هذه الخلفيَّة، في 21 نوفمبر 2010، تقدَّم لوال بطرحٍ جديد، جوهره أنه بات من المُهم واقعياً إلادراك بأنَّ نقمة الانفصال قد تتحوَّل إلى نِعمة إن نجحت الدولتان في خلق علاقات تقوم على استغلال القواسم التاريخيَّة المُشتركة في إطار اتحاد لدولتين مستقلتين. هكذا، كان عنوان ورقة لوال: “الاعتماد المتبادل من أجل السَّلام المُستدام: البحث عن ترتيباتٍ مُؤسَّسيَّة في السُّودان بعد الاستفتاء”، والتي كانت بمثابة نقلة من محطة التأثير على نتيجة الاستفتاء إلى مرحلة ما بعد الانفصال. إذن، التحدِّي الماثل هو تحديد هذا “الاعتماد المتبادل” في هذه المجالات، وبناء إجماع حولها داخل المُجتمع السياسي السُّوداني في الشمال والجنوب، وتحديد أنسب الترتيبات المُؤسَّسيَّة لتعظيم المنافع المتبادلة بينهم، وذلك على ثلاثة مستويات حرجة – الكُلِّي والمُتوسط والجُزئي (macro, meso and micro-levels). على سبيل المثال، سيكون تنسيق العلاقات الخارجيَّة والمصالح الاقتصاديَّة داخل المُؤسَّسات الإقليميَّة والدوليَّة مثالاً جيداً لتعظيم الاعتماد المُتبادل سياسياً واقتصادياً، على المستوى الكُلي، بينما يتم التعامُل مع قضايا الترتيبات الأمنيَّة ومياه النيل والتراث المُشترك، على المستوى المُتوسط. أمَّا على المستوى الجُزئي، فسيتم تعزيز آليَّة التنسيق الحالية في ولايات التمازُج.

جاءت ورقة لوال في سياق مبادرة أُطلق عليها “مبادرة فيينا” ((Vienna Process، على خلفيَّة مؤتمر تمَّ عقده في فيينا، عاصمة النمسا، حول “تحديات استفتاء جنوب السُّودان”، في 9 يناير 2011، واعترافاً بترتيبات ما بعد الاستفتاء الجارية بتسهيل من لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المُستوى AUHIP (برئاسة ثابو امبيكي). سأتناول عملية فيينا بتفاصيل أوفى في الحلقات القادمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.