رحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (40) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

الأربعاء، 31 مارس 2021

مانيفستو الحركة الشعبية: مُساهمة منصور

ذكرتُ في الحلقة السابقة (39)، أنني أشركتُ معي، ليس أعضاء لجنة الصِّياغة فقط، في الإطلاع على المُسودَّة “صِفر” للمانيفستو، بل كوكبة من المُهتمين خارج أسوار الحركة الشعبيَّة، ملتمِّساً رأيهم ووجهات نظرهم. ساهم الجميع في إبداء المُلاحظات، ولو بدرجاتٍ متفاوتة، إلَّا أنَّ منصور فقد “فاق كل قصيد”، وقدَّمَ لي مساهمات مُقتضبة جيِّدة السَّبك حول أربعة موضوعات هامَّة لصياغة المانيفستو. ففي 7 أبريل 2008، وصلتني رسالة إيميل منه تحتوى على أربعة ملفات تناولت القضايا التالية: معاني ودلالات اتفاقيَّة السَّلام الشامل، والبيئة، والفساد، والعلاقات الخارجيَّة السُّودانيَّة. في مُقدِّمة وثيقة المنفيستو، وفي معرضِ استعراضي لمحطات التطوُّر السياسي للحركة الشعبيَّة، منذ نشأتها، كان لِزاماً عليَّ أن أُشيرُ إلى موقع اتفاقيَّة السَّلام الشامل في هذا التطوُّر، فلم أجد أجود من سُطور منصور في وصف الاتفاقيَّة من ناحيتي المعاني والدِّلالات، على حدٍ سواء. فمنصور يرى أنَّ اتفاقيَّة السَّلام الشامل، مقارنة بالاتفاقيَّات الأخرى، هي الاتفاقيَّة الأكثر تفصيلاً للحلِّ السِّلمي للنزاعات المُسلحة منذ استقلال البلاد في عام 1956، ليس فقط في محتوياتها التفصيليَّة، ولكن أيضاً في طُرُق التنفيذ المُعقَّدة. على الرَّغم من أنَّ الاتفاقيَّة أقل بكثير من قمَّة طموحات الحركة لسُودانٍ جديد، فإنَّ ما يُميِّزُها عن باقي الاتفاقيَّات السَّابقة، هو الاعتراف (بروتوكول مشاكوس) أولاً، بالأسباب الجذريَّة للصِّراع ، وثانياً، بأنَّ تلك الأسباب تتجاوز جنوب السُّودان. فالأنظمة السُّلطويَّة، كما كان الحال في السُّودان قبل إبرام الاتفاق، لا تشطب نفسها على طاولة المفاوضات هكذا، وتختفي من الوجود. مع ذلك، فإن البنية التحتيَّة المُؤسَّسيَّة والقانونيَّة للتغيير والتحوُّل منصوصٌ عليها بوضوح في اتفاقيَّة السَّلام الشامل، وخاصة في وثيقة الحُقوق (الأولى على الإطلاق في التاريخ الدُّستوري للسُّودان)، واستقلال القضاء، والتداوُل السِّلمي للسُّلطة من خلال انتخاباتٍ حُرَّة ونزيهة، وتقرير المصير لأهل جنوب السُّودان وأبيي، والمشورة الشعبيَّة يمارسها أهل جبال النوبة والنيل الأزرق. لذلك، تلتزم الحركة الشعبيَّة بتنفيذ اتفاقيَّة السَّلام الشامل نصَّاً وروحاً.

أما مساهمات منصور الثلاث الأخرى كانت حول قضايا له فيها باعٌ كبير، إمَّا بخبرة عمليَّة أو تجربة مهنيَّة، فوضعتُها كما هي في نصِّ المانيفستو في الفصل المتعلِّق بتفصيل الملامح الرئيسيَّة لمجتمع “السودان الجديد”، الذي تسعى الحركة الشعبيَّة لإقامته، في السياسة والاقتصاد والثقافة. فقد عمل منصور في مجال السياسة الخارجيَّة كوزيرٍ مُتميِّزٍ، من جهةٍ، كما كان مستشاراً سياسياً لزعيم الحركة، خاصَّة في سُوح الشئون الخارجيَّة، من جهةٍ أخرى. كان لمنصور رأيٌ ثابت أنه منذ الاستقلال، كانت السياسة الخارجيَّة السُّودانيَّة، إلى حدٍ كبير، تستهدي إمَّا بالميول الأيديولوجيَّة للنُخبة الحاكمة أو الجماعات النشطة سياسياً (القوميون العرب، والشيوعيون، والإسلاميون أخيراً). نتيجة لذلك، قُلِّصت المصلحة الوطنيَّة إلى مصلحة سُودانيَّة ضيِّقة الأفق: دولة عربيَّة أو إسلاميَّة أو دولة مُنحازة سياسياً. وعليه، فإنَّ المصلحة الوطنية للسُّودان – على نطاقه الواسع – أُدرِجَت في أجندة خارجيَّة أوسع، دون إيلاء الاعتبار الواجب للمصلحة الوطنيَّة الحقيقيَّة. لذلك، سعت الحركة الشعبيَّة إلى تضمين اتفاق السَّلام الشامل فصلاً كاملاً عن السياسة الخارجيَّة، وذلك على الرَّغم من أنَّ الاتفاقيَّة كانت مُوجَّهة أساساً لمعالجة القضايا والسياسات الداخليَّة. في الواقع، فإنَّ السياسة الخارجيَّة هي بمثابة خدمة للمصلحة الوطنيَّة، فمن الضَّروري إذن أن يكون لدينا رُؤية واضحة حول ماهيَّة هذا “الأمَّة”، وبالتالي تعريف ماهيَّة مصالحها الوطنيَّة العليا. فبعد أن حدَّدت كيف يمكن للسُّودانيين أن يعيشوا معاً كمواطنين في بلدٍ واحد، ذهبت الاتفاقيَّة إلى أبعد من ذلك بتحديد كيف يمكنهم العيش بشكلٍ جماعي مع العالم: احترام القانون الدَّولي، وتعزيز حُقوق الإنسان في المحافل الدوليَّة والإقليميَّة، والتعاوُن الكامل مع المُنظمات الدوليَّة والإقليميَّة، ومُراعاة حُسن الجِوار، ومكافحة الإرهاب.

أشرتُ في الحلقتين 10 و11، من سلسلة هذه المقالات، أنَّ منصور يُعَدُّ من الخُبراء المرموقين في مجال البيئة، وقد تسنَّم موقِعاً أُممياً رفيعاً كنائبٍ رئيس للجنة الدوليَّة للبيئة والتنمية، بينما أنشأ مركز لدراسات وبحوث البيئة والتنمية، في نيروبي بكينيا. ولذا، شكَّلت مُساهمته حول البيئة مرجعي الأساس في صياغة سياسة إدارة البيئة في منيفستو الحركة الشعبيَّة. فمنصور يُشدِّدُ على أنَّ الاستخدام الجائر للموارد الطبيعيَّة يُشكِّل تهديداً خطيراً للبيئة الطبيعيَّة، خاصة في المناطق الريفيَّة، بطريقة تُؤدي إلى الانهيار التام للاقتصاد الرِّيفي. إلى جانب ذلك، فإنَّ تدهور البيئة هو السبب وراء النزاعات على المراعي الهامشيَّة في جميع أنحاء السُّودان، وخاصة في جنوب وغرب السُّودان. وكما لو أنَّ المُعاناة التي لا توصف، والخسائر البشريَّة، لم تكن كافية، فإنَّ الحرب أيضاً كان لها أثرها على البيئة: تدمير الحياة البريَّة والمناطق المحميَّة والحيوانات المُهدَّدة بالانقراض. فالسياسة البيئيَّة في “السُّودان الجديد” تقوم على مفهوم السَّلام المُستدام والتنمية، الذي يُركز على الاستخدام العقلاني والعادل للموارد الطبيعيَّة دون المَساس بحُقوق الأجيال القادمة. يقول منصور: «كما أنَّ التنقيب عن البترول، على الرغم من الفوائد الاقتصاديَّة التي حققها، جاء مع مشاكله البيئيَّة: تلوُّث الأرض والمياه، وإزالة الغابات، وانسكاب النفط على الأراضي الهشة. وكذلك، فعل التحضُّر العشوائي في المُدُن الرئيسة، ولا سيَّما العاصمة القوميَّة، ممَّا أدَّى إلى زيادة التحميل على المرافق القائمة ومشاكل إدارة النفايات التي لم يتم حلها». تُعالج رُؤية “السودان الجديد” مشكلة إعادة تأهيل، والحفاظ على البيئة في السُّودان والتي تتعرَّض لتدهوُر حاد تتجلى مظاهره في إزالة الغابات، والتصحُّر، وحديثاً التلوُّث البيئي، خصوصاً الناجم عن صناعة النفط. وستُستخلص الدُّرُوس من المحاولات السابقة في السُّودان ودُول الجوار التي تتشابه معه في أوضاعها البيئيَّة، كما أنه من الحتمي مشاركة كل المُتأثرين بهذا التدهوُر في عمليات اتخاذ القرار حتى يتم الخُروج برؤية مستقبليَّة لاستراتيجيات تنموية “صديقة للبيئة”.

أمَّا المساهمة الرَّابعة، فقد كان منصور مهتماً بموضوع الفساد، وأنه ينبغي أن يُشارُ إليه في مانيفستو الحركة الشعبيَّة، لا سيَّما أنَّ منصور كان حينئذٍ في صراعٍ بخُصُوص هذه القضيَّة في داخل شركة الصَّمغ العربي، وهو الملف الذي قاد إلى تنحيته بعد عام ونيف من تاريخ مُداخلته حول الفساد لغرض المنفيستو. فعلى حدِّ تعبير منصور، أنه «سيكون من المستحيل تلبية احتياجات الناس، ناهيك عن القضاء على الفقر، إذا سُمح للفساد الاقتصادي بالانتشار. إنَّ رئيسي الحركة الشعبية الرَّاحل، والحالي جعلا من محاربة الفساد عقيدة راسخة. كما تعهَّد مجلس التحرير القومي الانتقالي (المادة 16 (2)) بأن: “تسن الدولة القوانين وتُنشئ المُؤسسات للقضاء على الفساد ومنع إساءة استخدام السلطة وضمان النزاهة في الحياة العامة”. وهذا، على المستوى القومي، ما زال وعداً خاوياً. ومع ذلك، واصلت المستويات العُليا من الحركة الشعبية، جنباً إلى جنب مع رئيسها، إصدار إعلانات وتمرير قرارات تُنذر تنامي الفساد، وتحذر من ممارساته، وتدعو إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لكبح جماحه. لا يزال الفساد بجميع أشكاله منتشراً، وسوف يتكثَّف إذا فشلنا في تعزيز السُّلوك النموذجي بين القادة، وغرس القيم الأخلاقيَّة الأساسيَّة، وثقافة الصِّدق في حكوماتنا».

مؤتمر الفُرص المُهدَّرة

ذكرتُ في خاتمة الحلقة (39)، أنَّ المُؤتمر القومي الثاني، مايو 2008، أنهى أعماله بعد أجازة وثيقتي مانيفستو ودُستور الحركة بالإجماع، وبحفاوةٍ بالغة، ومع ذلك أغفلت اللجنة المنظمة وسكرتارية الحركة المواضيع الهامَّة والقضايا الرئيسة، التي قدَّمتها “لجنة تحديد البرامج والنشاطات”، كما تجاهلت شعار المُؤتمر الذي خرجت به اللجنة. فقد خاب ظنَّ المُؤتمرين في أجندة المُؤتمر ونتائجه. فبرغم نجاحه في حسم مسألة قيادة الحركة بصورة وُديَّة وديمقراطيَّة، والحفاظ على وحدة الحركة وتماسُك قيادتها، وبالرغم من المُصادقة على رُؤية “السُّودان الجديد”، إلَّا أنَّ هذه الرُّؤية لم يتم تفصيلها في أي إستراتيجيات أو سياسات أو برامج يسترشد بها العمل السياسي اليومي، ويقوم عليها المانيفستو أو البرنامج الانتخابي للحركة. فلم تُعرض على المُؤتمرين أي أوراق أو وثائق لمناقشتها والحوار حولها، فيما عدا مُسودَّتي الدُّستور والمانيفستو، كما أنَّ هذه البرامج والسياسات المنتظرة لم تُطرح للتداول، ولا حتى في أعقاب المُؤتمر. من ناحية أخرى، أخفق المُؤتمر في الاهتمام بـ“التجديد التنظيمي”، من حيث تعزيز هياكل الحركة الشعبيَّة ومُؤسَّساتها بما يتناسب مع الواقع السياسي الجديد في مرحلة ما بعد اتفاق السَّلام الشامل. فالهيكل التنظيمي القطاعي (قطاع الجنوب وقطاع الشمال)، في ضوء الثغرات التنظيميَّة وأوجه القُصُور الملحوظة، خاصة مشاكل التنسيق وتحديد اختصاصات كُلٌ من القطاعين، والعلاقات مع “السكرتارية القوميَّة” (التي أنشئت حديثاً)، والقرار بشأنها، بما في ذلك التمثيل غير المتكافئ لقطاع الشمال في هياكل القيادة، كان يستوجب الاهتمام الفوري والقرار بشأنها.

في هذا السياق، فإنَّ الوحدويين من الجنوبيين والشماليين (إثنياً وجغرافياً)، كانت تدور في رُؤُوسهم العديد من الأسئلة التي تبحث عن إجابات، بينما تعوزهُم الحيلة في التصدِّي لأسئلة الأصدقاء والأعداء، على حدٍ سواء، والتي لا ينقطع سيلها حول مواضيع الوحدة والانفصال وتقرير المصير والاستفتاء، مما جعل جُلُّهم يتشكَّك ويرتاب، بل وبات مقتنعاً، في سعي بعض قيادات الحركة نحو انفصال الجنوب والتدبير له من وراء ظُهُورِهِم وخارج أطُر المُؤسَّسات الدُّستوريَّة للحركة، ودون أدنى واعز سياسي أو أخلاقي. وللمُفارقة، فإنَّ بعض القيادات تبرِّر السَّعي للانفصال وتُعزيه لفشل المُؤتمر الوطني لجعل الوحدة “جاذبة” وكأنَّ الحركة لم تكُن منذ البداية تشُكُّ في الأجندة الخفيَّة والنوايا الانفصاليَّة للحزب الحاكم. فهل هذا الاشتباه هو السبب في تغيير مسار الحركة وموقفها من وحدة البلاد؟ إن كان الحال كذلك، فلماذا الآن وليس من الوهلة الأولى؟ وما زاد “الطين بلَّة” وعمل على ترسيخ هواجس وتوجُّسات “الشماليين” بالحركة هو طبيعة تمثيلهم في قيادة الحركة وفى الجهاز التنفيذي، خاصة في الحُكومة الاتحاديَّة. وبعد إكمال البناء التنظيمي لقطاع الشمال، في مرحلته الأولى، كان من المأمول أن يتيح المُؤتمر العام الثاني للحركة الفرصة للقطاع وللشماليين تمثيلاً حقيقياً في المُؤسَّسات القياديَّة ومشاركة فاعلة في صياغة استراتيجيات وبرامج وسياسات الحركة، خاصة فيما يتصل بالتوفيق بين هدفي الوحدة وحق تقرير المصير. ولكن، تحوَّل المُؤتمر إلى مظاهرة سياسيَّة، إذ لم تتجاوز أعماله إجازة وثيقتي المانيفستو والدُّستور، ولم يحظ الشماليون إلا بتمثيل باهت في ظِلِّ هجمة ملحوظة ضدَّ قطاع الشمال، فاستحقَّ المُؤتمر بجدارة وصف “مؤتمر الفرصة المُهدرة”. لذلك، كنتُ أُحثُّ على المُثابرة في المُطالبة بانعقاد مجلس التحرير القومي للحوار الجاد والصريح حول موقف الحركة من الاستفتاء على حق تقرير المصير، ومن وحدة البلاد. فإن كان العَصْفُ الفكري قد طال آفاق المستقبل لجنوب السُّودان في مرحلة ما بعد 2011 وتنظيم العديد من الندوات والمُنتديات لهذا الغرض في أكثر من منبر داخل وخارج البلاد، فمن المُجدي أيضاً الشُرُوع في حوارٍ عميق ونقاش صريح حول حاضر الحركة الشعبيَّة وسيناريوهات المستقبل.

عقب المؤتمر العام الثاني مباشرة (يونيو 2008) عزمتُ على كتابة مذكرة ضافية في هذا الخُصُوص بعثتُ بها إلى رئيس الحركة، وأعضاء المكتب السياسي، وقيادات أخرى، لم تجد أي صدىً أو استجابة من القيادة، بل كانت سبباً لاشتباكٍ نشأ بيني وبين منصور، وياسر عرمان، حول مضمون وهدف المُذكِّرة، سأتعرَّض له بالتفصيل في الحلقة القادمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.