رحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (29) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

العودة إلى الخرطوم بعد طول غياب!

في آواخر عام 2004، كانت مفاوضات نيفاشا على وشك الانتهاء بعد التوقيع على البروتوكولات الستة، وتم تحديد التاسع من يناير 2005 للتوقيع على اتفافية السلام الشامل بنيروبي. وفي النصف الأول من نوفمبر 2004، جاء الزعيم الراحل جون قرنق في زيارة خاطفة إلى القاهرة لتنوير القيادة المصرية بهذه التطورات، راجياً أن يكون لمصر دورُّ في عملية السلام. كان منصور حينئذ ما زال مُقيماً في القاهرة، فاتفقنا أنا وياسر عرمان على ضرورة اللقاء مع د. جون لمناقشته في أمر تأسيس الحركة الشعبية في شمال السودان وما هي الخطوات اللازمة في هذا الخصوص. وعليه، اجتمعنا في لقاء مطول مع د. جون بجناحه في فندق حياة ريجنسي بمشاركة منصور وياسر ونيال دينق وإدوارد لينو ومحمد يوسف أحمد المصطفى وعمر فور، وعلي ميين (السكرتير الخاص وكاتم أسرار زعيم الحركة، والذي قضى نحبه معه في حادث الطائرة المشؤوم). خلص اللقاء إلى ضرورة وضع تصور لتحول الحركة إلى تنظيم سياسي يشمل كل السودان، بما في ذلك شمال البلاد، التي تختلف  طبيعته عن المناطق المحررة في الجنوب والمنطقتين، ولعل هذا الحوار هو ما قاد د. جون لطرح فكرة “القطاعين شمال وجنوب”. توصل الاجتماع أيضاً إلى ضرورة تنظيم ورشة عمل تعقد في نيوسايت، مقر قيادة الجيش الشعبي بشرق الإستوائية، لوفد المقدمة الذي سيذهب للخرطوم للقيام بالترتيب لقدوم زعيم الحركة للخرطوم، على أن يناقش هذا الأمر ضمن مداولات الورشة.

تم توقيع اتفاقية السلام الشامل في التاسع من يناير 2005، بنيروبي، وفي الفترة بين 26-29 مارس 2005، تم عقد ورشة عمل وفد المقدمة بنيوسايت، التي وصلناها عن طريق نيروبي-لوكوشوكيو. من ثم عدنا أدراجنا إلى نيروبي لتحملنا الطائرة الليبية من طراز البوينق 727، عن طريق الكفرة، إلى طرابلس، بعد إصرار القذافي على استضافة الوفد قبل ذهابه إلى الخرطوم بدون تقديم حيثيات موضوعية تستدعي هذه الزيارة التي لا معنى لها. الطريف في الأمر، أننا اكتشفنا لاحقاً أن هذه الدعوة المريبة كانت بتدبير مشترك بين المخابرات الليبية وجهاز الأمن السوداني، إذ كان من المخطط أن يصل الوفد نهاراً بعد أن تم الإعلان عنه بالتنسيق مع منظمي الاستقبال بالخرطوم، الذين أعدوا حشداً شعبياً لذلك الغرض. ولإجهاض هذا الإستقبال ولسحب أي رصيد شعبي من هذا النوع لصالح الحركة الشعبية، تم تعطيل وصول الوفد عمداً في الوقت المضروب ليحُط رحالنا أرض مطار الخرطوم (بعد 15 عاما بالنسبة ليَّ) الساعة الرابعة فجر يوم 4 أبريل 2005، وللمفارقة تم استقبالنا في صالة “الحجاج”!

ضم وفد مقدمة الحركة الشعبية مائة وسبعة عضواً برئاسة جيمس واني إيقا، السكرتير العام للحركة، ونيهال دينق نيهال كرئيس لوفد الحركة بالخرطوم المسؤول المباشر للتواصل مع الحكومة والشريك في الحكم. تم توزيع أعضاء الوفد إلى وفود فرعية، أولها لجنوب السودان، وثانيها لجنوب كردفان والنيل الأزرق (المنطقتين)، وما سماه رئيس الحركة وفد “باقي شمال السودان”، ولهذا الوفد الفرعي قصة. أصل الحكاية أنه حينما تم التفاوض بين الحركة والحكومة حول طبيعة ومهام وتشكيلة وفد المقدمة، كان وفد النظام مُصراً على أن يكون وفد المقدمة محصوراً فقط في جنوب السودان. ذلك، بينما كان د. جون متمسكاً بقومية الحركة التي يقودها، وحضورها في كل أنحاء البلاد، مُلحاً على ضرورة أن يكون هناك وفداً ل”المنطقتين”، ووفدأ آخراً لباقي ولايات شمال السودان “الجغرافي”. فرضخ المؤتمر الوطني للأمر، فوافق على وفد فرعي ل “باقي الشمال”، وضعني د. جون على رأسه، وضم كُلٍّ من: محمد سعيد بازرعة، كمال الوسيلة، محمد أحمد عمر (الحبوب)، عبد المنعم رحمة، الهادي الرشيد دياب، بشير بكار.

ومع أن منصور، بالطبع، كان ضمن بعثة المقدمة، إلا أنه أدرك بحدسه، ومن مخزون خبرته وتجربته في عالم السياسة، أن تلك الرحلة البئيسة إلى ليبيا لا جدوى لها ولا تخدِمُّ غرضاً، ولم يكن د. جون أن يقبل أن يذهب أعضاء وفد مقدمته إلى هناك لولا إلحاح القذافي الذي لايمكن أن يُنكر د. جون أفضاله على الحركة الشعبية منذ بدايات تأسيسها في أواخر سِني حكم جعفر نميري. لذلك فضلَّ منصور البقاء في القاهرة، التي عاد إليها من نيروبي، على أن يعود منها إلى الخرطوم، والتي لم تطأها قدماه منذ عقدين من الزمان. وصل منصور إلى الخرطوم مساء يوم الجمعة، الموافق 29 أبريل 2005، وبرفقته ساعده الأيمن الصديق عبد الملك عبد الباقي، وكنت من مستقبليه في مطار الخرطوم، برفقة الصديقين ياسر عرمان، والهادي دياب. أنا والهادي كنا نقيم سوياً فندق الهلتون وأنضمَّ إلينا منصور، الذي ظل مقيماً به لفترة طويلة حتى إكتملت صيانة بيته بشرق الخرطوم، فانتقل إليه لاحقاً في أواخر 2005. كان جناح منصور بالفندق هو بمثابة المقر الرئيس لاجتماعات أغلب قيادات الحركة الشعبية، خاصة قبل قُدوم رئيس الحركة الشعبية إلى الخرطوم، وكل من يحمِلُّ هماً أو لديه مشكلة يلجأ إلى الدكتور الذي يستمع جيداً ويُبدي تجاوباً مرضيا، حتى لو كان الأمر المطروح خارج نطاق صلاحياته. وبعد وصول د. جون في 8 يوليو 2005، وأدائه القسم في اليوم التالي، نائباً أول لرئيس الجمهورية، ارتفعت وتيرة نشاط الحركة، خاصة بعد إصداره لقرارات هامة تتعلق بتنظيم الحركة وبناء هياكلها في “باقي” شمال السودان.

أول قرار مِفصليُّ اتخذه رئيس الحركة الشعبية، خلال الأيام القلائل التي قضاها في الخرطوم، بأن تنتظم الحركة الشعبية لتحرير السودان هيكلياً في قطاعين: قطاع الجنوب، ويضم الولايات الجنوبية إضافة الى المناطق “الإنتقالية” الثلاث، جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي، وقطاع الشمال الذي يضم ولايات الشمال الثماني عشر. وقد اتخذ د. جون هذا القرار على خلفية ما أجريناه معه من حوارات سابقة، أشرت إليها في في مقدمة هذه الحلقة، حول ضرورة وضع تصور لإعادة هيكلة الحركة في سياق تحولها إلى حركة سياسية. ومع ذلك، فإن أملت ظروف الحركة الموضوعية لتنظيم الحركة في قطاعين، فقد أثبتت مُقبِل الأيام أن القرار لم يكن موفقاً إن كانت الحركة حقيقة تسعى لبناء حركة شعبية موحدة على طول وعرض السودان. فترتبت على هذا الهيكل التظيمي، الذي قسم عضوية الحركة مناطقياً، من جهة، وباعتماد معيار السلاح لتحديد أوزان عناصر هذه العضوية، من جهة أخرى. فظل العمل التنظيمي، طوال الفترة الانتقالية، يعاني من مشاكل التنسيق وتحديد اختصاصات كل من القطاعين، والعلاقات مع “السكرتارية القومية” (التي أنشئت مُتأخراً)، بما في ذلك التمثيل غير المتكافئ لقطاع الشمال في هياكل القيادة،

على كُلَّ حالًّ، ففي نهاية الأسبوع الأول من يوليو 2005، أصدر رئيس الحركة الشعبية، د. جون قرنق دي مبيور، قراراً يقضي بتعيين الكوماندر عبد العزيز آدم الحلو ليكون رئيساً للجنة مشكلة من أربعة وعشرين عضواً لتتولى أمر تنظيم الحركة في شمال السودان. ضمت عضوية اللجنة من القياديين بالحركة: عبد العزيز الحلو، ياسر جعفر، محمد أحمد الحبوب، رمضان حسن نمر، محمد سعيد بازرعة، وليد حامد، الطاهر إدريس، عبد الباقي مختار، حماد آدم، دينق قوج، ملونق مجوك، رمضان محمد عبد الله، جيمس مودي، كيجي رومان، إلهام مالك، أويل ميون، ريجينا رتشارد، ين ماثيو، اشاي دينق، اقوك ماكور، عمر فور، سليمان قور، ابولو ايول، اغوستينو مدوت. للمفارقة، كانت اجتماعات هذه اللجنة تنعقد تحت ظلال الأشجار وعلى الهواء الطلق في الباحة الخلفية لفندق القرين فيلدج، بقاردن سيتي، بري، حيث كان بعض أعضاء اللجنة يقيمون به. لم يكن قرار رئيس الحركة يتولي القائد عبد العزيز الحلو قيادة عملية تنظيم الحركة في شمال السودان خبطِّ عشواء، بل كان بناءاً على استشارات على مستوى القيادة وما وصل إليه من مقترحات. فقد أملى عليَّ وضعي على رأس الوفد الفرعي ل”باقي الشمال”، كما وضحت أعلاه، أن أقوم بإعداد تقرير مُفصلًّ عن مهمة ونشاطات الوفد. قدم التقرير عرضاً لما قام به الوفد من نشاطات، وأوصى بالإجراءات التي من شأنها خدمة هدفه الرئيس في التأسيس لتنظيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في شمال البلاد، بعد إقرار الهيكل التنظيمي القائم على قطاعين. كُنت قد أرسلت هذا التقرير (من 3500 كلمة) إلى رئيس الحركة، في 23 مايو 2005، والذي كانت توصيته الأساسية: تشكيل لجنة تسيير برئاسة قيادي متمرس سياسياً على دراية بالعمل السياسي في الشمال (يُنصح بالقائد عبد العزيز آدم الحلو بشدة). وستتألف اللجنة من قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان وأعضاء / أنصار الحركة الشعبية في الشمال، (وقد تم بالفعل إعداد قائمة أولية بالأسماء المقرحة). وأضافت التوصية، أنه ينبغي على اللجنة أن تعقد اجتماعها الأول على أساس عاجل بهدف أساسي هو تطوير برنامج عمل لبدء العمل ، وتحديد النشاطات، ووضع الهياكل والمؤسسات التنظيمية المناسبة ، وجميع أنشطة المتابعة المطلوبة ، بما في ذلك تعبئة الموارد المادية والبشرية. وهذه هي المواضيع التي خضعت للنقاش تحت ظلال الأشجار، والتي إن بخلت في توفير الغطاء من الشمس نقلنا قضايا النقاش إلى جناح د. منصور بفندق الهلتون، كما نوهت سابقاً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.