رحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (19) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

منصور: لاعبٌ رئيس في مُؤتمر القضايا المصيريَّة

بعد دعوة د. جون بضرورة عقد اجتماع رفيع المستوى في أكتوبر 1994، اتفقت قيادة التجمُّع على تشكيل لجنة تحضيريَّة، تمَّ تكليفها بالإعداد والترتيب لانعقاد المُؤتمر الأوَّل للتجمُّع، في فبراير 1995. تكوَّنت اللجنة بتمثيلٍ لكُلِّ فصائل التجمُّع، وضمَّت في عُضويتها: صديق بولاد ونجيب الخير، وكان رئيساً لها (حزب الأمة) وأبو الحسن فرح (الاتحادي الديمقراطي) رئيساً مناوباً، الشفيع خضر وحمودة فتح الرحمن (الحزب الشيوعي) مقرراً للجنة، فاروق أحمد آدم ومعتصم حاكم (الاتحادي الدِّيمُقراطي، وسليمان بخيت (الحركة الشعبية). اتفقت اللجنة عند بداية اجتماعاتها على منهج للعمل من شقين: أولهُما، التعرف على رُؤى القُوى السِّياسيَّة للتجمُّع التي تُقدَّم عبر مندوبيها في اللجنة التحضيريَّة، أو التي تصل من القُوى الأخرى غير المُشاركة في اللجنة. والشق الثاني، استكتاب الشخصيَّات الوطنيَّة والقوميَّة المُتخصِّصة، وهو الأمر الذي لعب فيه د. منصور دوراً محورياً. فبالرغم من عدم عُضويَّته في اللجنة، فقد قام منصور بمجهود جبَّار في هذا الجانب، موظفاً شبكة علاقاته المُتشعِّبة من أهل الرِأي السديد وأصحاب المهنة والخبرة والتجربة في كُلِّ قضايا ومشاريع مُقرَّرات المُؤتمر المُرتقب وتكليفهم بإعداد الأوراق، كُلٌ في مجال تخصُّصه، إن كانت في العلاقات الخارجيَّة، الاقتصاد، الدُّستور، ونظام الحُكم. ففي مجال إعداد الدُّستور، مثلاً، استعان منصور بالأستاذ فاروق أبوعيسى ومعه كوكبة من القانونيين. أمَّا إعداد البرنامج الاقتصادي للمرحلة القادمة، فقد تكرَّم بالنُّصح فيه الأستاذان علي عبدالقادر وعبدالرحمن الطيِّب علي طه، وذلك رغم أنَّ بعض أحزاب التجمُّع كانت ترى أن يُتْرَك الأمر إلى حين استرداد السُّلطة. وفَّرت المُساهمات التي قدَّمها هؤلاء المُهتمون والمهمومين بقضايا الوطن في إعداد مُسودَّات مُقرَّرات مُؤتمر القضايا المصيرية. فقد تحوَّلت اللجنة التحضيريَّة إلى اللَّجنة السِّياسيَّة في أسمرا إبان انعقاد المُؤتمر. وتمَّ توسيعها بانضمام الشفيع خضر، من الحزب الشيوعي، والواثق كمير، من الشخصيات الوطنيَّة، وحسن بندي، من القيادة الشرعيَّة، وتركزت مُهمَّتها في مراجعة ما تمَّ إعداده في القاهرة.

بالرغم من انشغال منصور بالسِّياسات، والجانب البرامجي للتجمُّع، إلا أنه ببصيرته السِّياسيَّة لم يفُت عليه إدراك ما يحفل به التحالُف من تناقضاتٍ تحمل بين طيَّاتها مفاهيم تقليديَّة راسخة للهُويَّة السُّودانيَّة، وانعكاسها على إدارة شأن التنظيم نفسه وقُدرته على التماسُك. فقد لاحظ منصور أنَّ تفريق السِّياسيين الشماليين العَفَوي بين السُّودانيين على أساس موطنهم الإقليمي، شمال-جنوب، ظلَّ ساكناً في عُقُولهم حتى في أوساط التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، المُمثل لقُوى التغيير. مثلاً، كان للحركة ثلاثة ممثلين في هيئة قيادة التجمُّع، هُم: جون قرنق باعتباره رئيسٌ لتنظيم عُضو في التحالُف، وذلك بنصِّ دُستور التجمُّع نفسه، وكان دينق ألور الممثل الثاني للحركة، بينما كان منصور أيضاً عُضوٌ بالهيئة بحُكم شغله موقع أمين الشئون الخارجيَّة للتجمُّع. وحينما أصبح فاقان أموم (الجنوبي) أميناً عاماً للتجمُّع كبديلٍ لفاروق أبوعيسى، وبنجامين برنابا (الجنوبي أيضاً) كأمين للعلاقات الخارجيَّة، اقترح د. جون اسم منصور كممثل للحركة في هيئة القيادة بدلاً عن دينق ألور. في الوقت نفسه، كان قرنق يُشارك في هيئة القيادة بصفتين: صفته رئيساً لأحد الأحزاب المُشاركة في التجمُّع، وصفته قائداً عسكرياً للجبهة الشرقيَّة. قُوبل هذا الاقتراع باعتراضٍ من ممثل الحزب الشيوعي في هيئة القيادة، لما في وجود أربعة مُمثلين للحركة في هيئة القيادة من ترجيحٍ لكفَّة تنظيم واحد، بالرغم من أنَّ قرارات هيئة القيادة كانت تصدُر بالتوافُق. بينما الحقيقة، أنَّ هناك ثلاثة أو أربعة من الشيوعيين كانوا أعضاء في هيئة القيادة كممثلين لواجهاتٍ مختلفة (التيجاني الطيِّب عن الحزب، وهاشم محمَّد أحمد عن التجمُّع النقابي، وفاطمة أحمد إبراهيم عن المرأة)، وفي ظنِّ الكثيرين – على حدِّ تعبير د. منصور أن: «فاروق أبوعيسى كان أيضاً من تلك العُصبة – وهو أمرٌ ما فتئ أبوعيسى يُنكره – استغرب الكثيرون موقف الحزب الشيوعي». وفي مواجهة ذلك الموقف، أخطر د. جون هيئة القيادة أنه سيتنازل عن مقعدة في الهيئة لمنصور، إن أصرَّ الحزب الشيوعي على رأيه. واسترسل قرنق بأنَّ لمنصور دوراً مهماً مُمكن أن يقوم به في هيئة القيادة في المجالين الفكري والدبلوماسي، بل هدَّد بأنه سيتخلَّى لمنصور راضياً عن موقعه، على أن يشارك في اجتماعات القيادة متى ما دعا الحال، بوصفه قائداً للجبهة الشرقيَّة. ما كان للمعارضين إلا أن يقبلوا ترشيح الحركة لـ“شمالي” كممثل لها في هيئة القيادة. خلص منصور من تلك الواقعة، على حدِّ قوله، إلى أنَّ: «ثمَّة شيئان يقرأهما المرء في ذلك الموقف، الأول: “الخيلاء السياسية”، التي أشرنا لها في مواقع سابقة من هذه الشذرات، والتي تُكسبُ صاحبها قدراً كبيراً منة “استحسان الذات”. ودون شكٍ، للحزب الشيوعي الكثير الذي يُستحسن، مثل غرسه لمفاهيم الجديدة في عقول أبناء وبنات السُّودان، وتطوير وسائل النضال، وإشاعة الوعي السياسي والاجتماعي، بصرف النظر عن المصادر التي استمدَّ منها الحزب وسائل العمل، ولكن ذلك الحزب، لأسبابٍ داخليَّة وخارجيَّة، لم يعُد هو حزبُ الأمس، ومن ثَمَّ كان عليه أن يكون أكثر تواضُعاً بشأن الوضع، الذي يجب أن يحتلَّ في الساحة الوطنيَّة السِّياسيَّة. الشيء الثاني هو: ما ينبئ عنه ذلك التصرُّف من أنَّ الحزب الشيوعي لم يتجاوز رُؤى غيره عن الحركة الشعبيَّة باعتبارها حركة جنوبيَّة، فلو كان مُرشَّح الحركة الذي قدَّمه قرنق هو دينق ألور، لما اعترض الحزب الشيوعي عليه“» (شذرات 2018، نفس المصدر، الجزء الثالث، ص 261).

هكذا، بعد وضع الهياكل التنظيمَّية للتجمُّع في مُؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة في يونيو 1995، تمَّ تكوين هيئة القيادة التي أصبح منصور عُضواً فيها، وفي المكتب التنفيذي، كأمين للشئون الخارجيَّة. وفي الموقعين، عُرِفَ منصور بمُداومته للاجتماعات وعدم تغيبه، رغماً عن مشاغله الكثيرة، وسفره المتواتر، وكان دائماً ما يكون أوَّل الحاضرين، وآخر المُغادرين. الكُل كان يراقب كيف كان منصور يعمل في كُل الاتجاهات، ويُشارك بفاعليَّة في الحوار، ويرفد الاجتماع بالأفكار والمُقترحات التوفيقيَّة والعمليَّة. بجانب ذلك، كان منصور هو مسئول العلاقات الخارجيَّة والشُئون الإنسانيَّة حتى أواخر 1998، عندما تمَّ توسيع المكتب القيادي بإدخال مُؤتمر البجا، فشغل أمين شنقراي موقع الشُئون الإنسانيَّة، إضافة إلى الحزب القومي السُّوداني وقوَّات التحالُف السُّودانيَّة. ضمَّت تشكيلة المكتب التنفيذي المُوسَّع حينئذٍ، حزب الأمَّة: مبارك الفاضل أميناً عاماً، الحزب الشيوعي: الشفيع خضر لأمانة التنظيم، الاتحادي الدِّيمُقراطي: فاروق أحمد آدم لأمانة الإعلام، الحركة الشعبيَّة: منصور خالد للعلاقات الخارجيَّة، التجمُّع النقابي: هاشم محمَّد أحمد كأمين للمال، الشخصيَّات الوطنيَّة: فاروق أبوعيسى للشئون القانونيَّة. وفي عام 2000، انعقد المُؤتمر العام الثاني للتجمُّع حيث أعيد تشكيل المكتب التنفيذي، ليُصبح فاقان أموم أميناً عاماً، شريف حرير للتنظيم، برنابا بنجامين مريال للعلاقات الخارجيَّة، فكي علي للشُئون الإنسانيَّة، وكمال إسماعيل وإسماعيل سليمان كلجنة للاتصال بالداخل، وعضوية مُعتز الفحل عن قُوَّات الفتح، وأحمد صلاح مُمثلاً للأسود الحُرَّة. والجدير بالذكر، أنه بالرغم من أيلولة ملف العلاقات الخارجيَّة لبرنابا بنجامين، إلَّا أنَّ منصور ظلَّ هو الفاعل الرئيس في هذا المجال إذ لم يكن برنابا حريصاً على الموقع، خاصة وأنه كان الساعد الأيمن لزعيم الحركة في جنوب القارَّة. فمنصور كان كـ“الجوكر”، تجده في المستويين القياديين من هيئة القيادة للمكتب التنفيذي، ولم يتفرَّغ للمستوى الأعلى في هيئة القيادة إلا بعد مُؤتمر مُصوَّع في عام 2000.

بجانب د. جون، ضمَّ وفد الحركة الشعبية د. منصور وستيفن وندو، ودينق أليجا مالوك. ما كان لأحدٍ من الحاضرين أن لا يلاحظ نشاط منصور وتحرُّكه في كُلِّ الاتجاهات، وحاضر في الحوار والنقاش، والصياغات، وفي تقريب وجهات النظر. فقد كان شُعلة من النشاط في كل الاجتماعات وصاحب رأيٍ سديد، وموضوعي، وغير منحاز،ويتسم أدائه بالتميُّز والتجرُّد. جمعتني معه لجنة صياغة البيان الختامي ومُقرَّرات المُؤتمر والترجمة، التي كان يترأسها، مع آخرين، من ضمنهم: نجيب الخير وياسر عرمان وأبدون أقاو ومحمد المعتصم حاكم وهاشم محمَّد أحمد وفتح الرحمن حمودة. ومن أولى النقاط التي تداول حولها المُجتمعون، هي تسمية المؤتمر نفسه بما يُعبِّر عن أهدافه وطبيعته. كان هناك رأيٌ لحزب الأمَّة بأنَّ المؤتمر سيناقش المواضيع والمسائل الجوهريَّة أو الأساسيَّة، بينما رأي منصور أنَّ عبارة “القضايا المصيريَّة” هي الأسلم، لأنَّ قضايا تقرير المصير وعلاقة الدِّين بالسياسة ولا مركزيَّة الحُكم هي بالفعل قضايا ترسم مستقبل البلاد وتحدِّد مصيرها، وهذا ما تمَّ تبنيه في نهاية الأمر. بالطبع، كان منصور كعادته مُغرماً بالتدقيق والتمحيص، لا يترك شاردة أو واردة إن لم تُرق له الصِّياغة وفق معايير نوعيَّة عالية، لغةً ومضموناً، مما جعل وثيقة مُقرَّرات أسمرا الأكثر اتقاناً وجودة في تاريخ الوثائق السِّياسيَّة السُّودانيَّة. وحتى من ناحية الترجمة من اللغة العربيَّة للإنجليزيَّة، كان منصور يقف عند كلمات معيَّنة، لا يَكِلُّ ولا يَمِلُّ من النقاش حولها، بل ويستعين بالقاموس والمعجم. فعلى سبيل المثال، استغرقت اللجنة في جدالٍ مُطوَّل حول أنسب صيغة لترجمة تعبير “تشويه” الإنقاذ لسُمعة البلاد وعلاقاتها الخارجيَّة، هل هي disrepute أم smear، أم tarnish التي اقترحها منصور، وتمَّ اعتمادها؟!

ومن طرائف منصور في لجنة الصياغة، أنه كل ما توصَّلنا إلى مسودَّة وسلَّمناها لم تكن تُطاوعه نفسه لقُبُولها إن لم يُحسَّ بضبطها وإحكامها، فيُعيدها لنا المرَّة تلو المرَّة حتى يطغى تصحيحه بالقلم الأحمر على سواد حُرُوف المُسودَّة. وبعد أكثر من محاولة، قدَّمنا له مُسودَّة، خِلنا أنها النهائيَّة، للبيان الختامي للمُؤتمر، إن كانت له إضافات أو ملاحظات قبل وضعه أمام المُؤتمرين، فإذا بمنصور يُعمِل فيها قلمه تلويناً ويُوسعها تشطيباً. فقال له ياسر متعجِّباً، «يا دكتور، طيب بعد تعبنا دا كلو، كان أحسن تكتب البيان، وتريِّحنا! » فضحك منصور لفترة طويلة ليرُدَّ على ياسر بقوله: «والله لو ما الأفكار الجيِّدة التي أوردتموها في البيان، لما أسعفتني نفسي بإجراء هذه التغييرات». كان هذا هو منصور.. لا يُدانيه أحدٌ في اللباقة والرِّقة والتواضُع، وفي الخُروج من المطبَّات وتفادي المزالق دون أن يجرح شعور الآخرين، وإن اختلف أو اشتجر معهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.