
“د. عبد الله علي إبراهيم: آخر حراس المعبد القديم يبيعنا الوهم بفاتورة التاريخ 1-2
خالد كودي، بوسطن، 17 /3 /2025
تفكيك الفرضية المضللة: تشابه الرؤية لا يعني تطابق المصير يادوك!
في مقاله “السودان الجديد وصورة دوران قري”، المنشور في سودانيز أونلاين، بنى د. عبد الله علي إبراهيم طرحه على فرضية تبسيطية مضللة مفادها أن فشل الحركة الشعبية في جنوب السودان في بعض الجوانب يعني بالضرورة أن مصير الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال سيكون الفشل نفسه، لمجرد أنهما تنتميان إلى نفس الجذور الفكرية، وتتبنيان مشروع السودان الجديد الذي أسسه الدكتور جون قرنق دي مبيور.
هذه الحجة تعاني من مغالطة التعميم المفرط، إذ تفترض أن تشابه الأيديولوجيات/الرؤية يعني حتمية المصائر، دون الأخذ في الاعتبار العوامل الموضوعية والظروف التاريخية التي تميز تجربة كل حركة عن الأخرى. مثل هذا الافتراض يتجاهل المتغيرات السياسية، السياقات الاجتماعية، وتباينات مسارات النضال، مما يجعله طرحًا قاصرًا يفتقد للذكاء التحليلي اللازم لفهم تعقيدات الواقع السوداني.
لو كان التشابه الأيديولوجي يقود حتمًا إلى نفس النتيجة، لوجب علينا أن نحكم على جميع الدول الإسلامية بأنها ستؤول إلى مصير واحد، سواء كانت السعودية او إيران، أو ماليزيا، أو تركيا، او أفغانستان او باكستان! ولكن الواقع يعلمنا أن التجارب السياسية للدول التي تعتبر اسلامية مختلفة جذريًا رغم تبنيها للدين الاسلامي كمرجعية ثيولوجية او ثقافية.
وبالمثل، لو طبّقنا منطق الدكتور عبد الله علي ابراهيم، لقلنا إن كل الدول التي استلهمت الماركسية يجب أن تتحول إلى نموذج واحد من كوريا الشمالية الي السويد! ولكن، كما نعلم جميعًا، فإن الماركسية ألهمت تجارب مختلفة، من الصين الشيوعية إلى فيتنام إلى كوبا إلى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية، والي أمريكا اللاتينية وكلها نماذج متباينة في السياسة والاقتصاد.
وبطريقة مماثلة، نجد أن الدول الليبرالية لا تتطابق في مآلاتها، فبينما الولايات المتحدة مثالٌ على الديمقراطية الليبرالية، نجد أن سنغافورة قد تصنف استبدادية تحت نفس الغطاء الليبرالي الاقتصادي.
وبالتالي، فإن تبني الحركة الشعبية شمال لنفس الرؤي التي تبنتها الحركة الشعبية جنوب لا يعني حتمًا أن مصيرها سيكون نفسه، لأن المصير تحدده العوامل السياسية، والاجتماعية، والجغرافية، والتاريخية، وليس مجرد التشابه الأيديولوجي، ولكن
لماذا يسوّق الدكتور عبد الله علي ابراهيم هذه المغالطة؟ هل لايعرف الدكتور كل هذا؟
الدكتور ببساطة يريد التهرب من مواجهة الحقائق الجديدة التي يفرضها ميثاق التأسيس، فهو يدرك جيدًا أن الحركة الشعبية شمال ليست امتدادًا بسيطًا للحركة في الجنوب، بل كيانٌ متمايزٌ سياسيًا وتنظيميًا ومؤسسيًا، لكنه يسعى إلى استصغار مشروع السودان الجديد عبر ربطه (ب فشل ما) أصاب تجربة جنوب السودان، دون أن يعترف بأن أسباب فشل جنوب السودان معقدة ولا علاقة لها بجوهر الفكرة الأصلية.
ما يفعله الدكتور عبد الله أشبه بشخص يحكم على كل مشروعات الحداثة بالفشل فقط لأن بعض الدول التي تبنتها عانت من مشكلات، متجاهلًا أن النجاح والفشل يُحسمان بالقدرة على التكيف، لا بمجرد الانتماء لأيديولوجيا معينة. وهذا بالضبط جوهر الاحتيال الفكري الذي يمارسه حرس السودان القديم، الذين يخشون التغيير لأنهم يعلمون أنه يقوض امتيازاتهم التاريخية ويهدم السرديات القديمة التي حكموا بها السودان لعقود.
ثانيًا: الفرق بين السياقين – الحركة الشعبية شمال ليست جنوب السودان:
يكشف طرح د. عبد الله علي إبراهيم عن ولعٍ قديم بالترصّد الانتقائي للحركة الشعبية – شمال، وكأنه يحمل عدسة مكبّرة لا ترى إلا ما يؤكد هواجسه المسبقة. فبدلًا من تحليل الفروق الجوهرية بين تجربتي الشمال والجنوب، يفضّل إعادة تدوير أسطوانة “الفشل الحتمي” وكأنها نبوءة مقدسة. هذا الإصرار على رسم مستقبل الحركة الشعبية بمنطق النسخ واللصق ليس تحليلًا، بل هو امتداد لنهج الحرس القديم، الذين لا يرون في المشهد سوى انعكاسٍ لما يريدون تصديقه، وكأنهم أوصياء على التاريخ والمستقبل معًا، ولنذكر بعض هذ الاختلافات علها تعين الدكتور في مغامراته القادمة:
١/ الاختلاف الجغرافي والديمغرافي:
الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لا تناضل قتالا في جنوب السودان، بل في النيل الأزرق وجبال النوبة ودارفور وغيرها، والسودان ذات تركيبة إثنية وثقافية مختلفة تمامًا عن جنوب السودان. معركة هذه الحركة ليست مع دولة مستقلة حديثة التأسيس، بل مع مركز سلطوي مهيمن في (الخرطوم)، ظل يقصي هذه المناطق سياسيًا واقتصاديًا لعقود.
الدكتور عبد الله يتجاهل هذا الفرق الجوهري، لأنه لو اعترف به، فسيضطر إلى الاعتراف بأن مشروع السودان الجديد المعبر عنه في ادبيات الحركة الشعبية شمال، والذي ظهر مؤخر في تحالف التأسيس لا يتعلق بجنوب السودان، بل هو طرح سياسي ثوري يهدف إلى تفكيك هيمنة النخب التقليدية في الخرطوم لافي جوبا، في السودان لا في جنوب السودان. وهذا أمر لا يمكن أن يقبله الدكتور بسهولة، لأنه يعني الاعتراف بمظالم الهامش، وهو ما يقوض الرواية التي دافع عنها طويلًا.
٢/ البنية التنظيمية – النجاح في مقابل الفوضى:
على عكس جنوب السودان، الذي يعاني من تعقيدات ما بعد الاستقلال بما في ذلك الصراعات الداخلية بسبب حداثة الهياكل المؤسسية وغيرها، فإن الحركة الشعبية شمال نجحت في إقامة مؤسسات حكم ذاتي في المناطق التي تسيطر عليها. هذه المناطق، التي تعادل في مساحتها رواندا وبوروندي مجتمعتين، وهي- المناطق المحررة ليست مجرد معسكرات تمرد، بل مدن وقري تديرها سلطات مدنية، ولديها جيش نظامي، وهيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية، ما يثبت أن مشروع السودان الجديد يمكن أن يكون نموذجًا للاستقرار والتنمية متى توفرت له القوة و البيئة السياسية المناسبة.
لكن الدكتور عبد الله، بدلاً من الاعتراف بهذا النجاح، يصر على تعميم الفشل، لأنه يريد أن يجعل من صعوبات دولة جنوب السودان شماعةً لتشويه أي محاولة لتغيير السودان القديم في وطنه السودان. فالمشكلة ليست في “السودان الجديد”، بل في الحرس القديم الذين لا يستطيعون تخيل مستقبل لا يكونون هم صانعيه الوحيدين- فقد مات غنايكم!
. ٣/ فك الارتباط السياسي والإداري – الاستقلال عن الجنوب
في 2011، أعلنت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال انفصالها الكامل عن الحركة الأم في الجنوب، هذا بعد ان (تخارج) الجنوب من السودان الكبير الظالم والفاشل. ومع ذلك، يحاول الدكتور عبد الله تصوير الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال على أنها مجرد امتداد لتجربة الجنوب المتعثرة، كأنه يريد أن يقول: “لا يمكن لأي فكرة أن تنجح إذا وُلِدَت في نفس المكان الذي وُلِدَت فيه فكرة فشلت سابقًا”!
بمنطق الدكتور، علينا إذن أن نحكم على كل الثورات بالفشل لمجرد أن بعضها لم ينجح! بل وأن نرفض أي حركة سياسية جديدة لمجرد تشابهها الفكري مع تجربة أخرى لم تحقق أهدافها!
ما يتجاهله الدكتور عمدًا هو أن فك الارتباط السياسي والتنظيمي بين الحركتين قد أنهى أي علاقة مصيرية بينهما، وجعل من الحركة الشعبية – شمال كيانًا مستقلًا بذاته، له سياقه الخاص وأهدافه المختلفة عن جنوب السودان. لكنه يصر على إنكار هذه الحقيقة، لأن الاعتراف بها يعني التخلي عن أسهل أدواته في مهاجمة ميثاق التأسيس: التعميم المضلل والتشويه المقصود.
النتيجة: انتقائية مكشوفة.
ليس من المنطقي افتراض أن الدكتور عبد الله علي إبراهيم يجهل هذه الحقائق، لكنه يختار تجاهلها، لأنه يعلم جيدًا أن أي تحليل موضوعي سيقوده للاعتراف بأن مشروع السودان الجديد ليس مجرد امتداد لتجربة الجنوب، بل رؤية سياسية متكاملة لمستقبل السودان كله—مستقبل لا يملك الدكتور ولا حراس السودان القديم القدرة على التعايش معه.
لذلك، المسألة الحقيقية ليست ما إذا كانت الحركة الشعبية – شمال قادرة على النجاح، بل ما إذا كان الحرس القديم مستعدًا لقبول نجاحها؟
ثالثًا: لماذا يخشى الدكتور عبد الله علي إبراهيم ميثاق التأسيس؟
إذا كان هناك شيء واحد يُجيد الحرس القديم فعله، فهو إخفاء خوفهم من التغيير خلف ستار النقد العقلاني. لكنّ الخوف، مهما تم تمويهه بالمصطلحات الأكاديمية، يظلّ خوفًا. فالدكتور عبد الله علي إبراهيم، بصفته واحدًا من قادة الراي في الدولة المركزية التي ظلت تُقصي الهامش منذ الاستقلال، يدرك تمامًا أن ميثاق التأسيس ليس مجرد وثيقة، بل زلزال يهز أسس الامتيازات التاريخية التي راكمتها هذه النخب.
ميثاق التأسيس: لماذا يمثل تهديدًا مباشرًا للحرس القديم؟
لأن ميثاق التأسيس جاء ليقلب موازين السلطة التقليدية، وينهي احتكار النخب المركزية القديمة لصناعة القرار، وهي النخب التي اعتادت أن تتحدث باسم الجميع، وتقرر عن الجميع، وتوزع الرؤي والحقوق كما تشاء. هذه الوثيقة لا تمنح الشرعية السياسية إلا لمن يستحقها شعبيًا، وليس لمن توارثوها تاريخيًا. من هنا، تكمن خطورته على نموذج الدولة الذي دافع عنه الدكتور عبد الله ومايمثل لعقود.
ولنفهم ردة فعل النخب التقليدية، لا بد من إلقاء نظرة على بعض البنود الجوهرية في الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي 2025، والتي تشكّل قطيعة نهائية مع مشروع السودان القديم، وتضع أسسًا جديدة لدولة قائمة على العدالة، المواطنة المتساوية، والحكم الرشيد. فالدكتور يناقش أي شيء الا محتويات الوثيقتين!
هذه البنود لا تعيد ترتيب الأوراق القديمة، بل تهدم أسس النظام التقليدي القائم على الإقصاء والهيمنة، وهو ما يفسر حالة الذعر السياسي التي أصابت قوى السودان القديم.
١/ العلمانية- فصل الدين عن الدولة:
إنهاء استغلال الدين في الدولة، وإقامة دولة علمانية تكفل حرية العقيدة، وتمنع أي شكل من أشكال التمييز أو فرض المعتقدات الدينية عبر مؤسسات الدولة.
٢/ حق تقرير المصير والوحدة الطوعية:
الاعتراف بحق الشعوب السودانية في تقرير مصيرها، مع وضع الوحدة الطوعية ك أساس للحفاظ على السودان موحدًا، لكن على أسس جديدة عادلة، وليس عبر الإكراه أو القمع.
٣/ نظام حكم لامركزي ديمقراطي:
الانتقال من المركزية القابضة إلى نظام لامركزي حقيقي، يمنح الأقاليم سلطات علي ثرواتها، ويؤسس لحكم ذاتي يضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة.
٤/ إعادة هيكلة الدولة وبناء قوات مسلحة :
تفكيك هيمنة النخب التقليدية والعسكرية على مؤسسات الدولة، وتاسيس جيش وفق عقيدة وطنية غير مسيّسة، مع تفكيك المليشيات الاجهزة الأمنية وبناء بدائل وطنية واحترافية.
٥/ ملكية الأرض وحقوق السكان الأصليين
الاعتراف بالحقوق التاريخية لسكان الأقاليم المهمشة، وإلغاء السياسات المركزية التي سلبت الأراضي لصالح النخب، وضمان حقوق المجتمعات المحلية في ملكية أراضيها.
٦/ المواطنة المتساوية كأساس للحقوق والواجبات:
تجاوز الانقسامات العرقية والجهوية، واعتماد المواطنة كمعيار وحيد لنيل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دون تمييز قائم على العرق أو الدين أو الجهة
٧/ اقتصاد يخدم الشعب لا الأوليغارشية
تفكيك اقتصاد النخب الطفيلية، والريع العشائري واعتماد سياسات تنموية عادلة تستهدف رفع التهميش، وتحقيق التنمية المستدامة، وضمان توزيع الموارد بشكل منصف.
٨/ إقرار مبادئ فوق دستورية
وضع ضمانات دستورية غير قابلة للتعديل تحظر عودة الشمولية، واستغلال الدين في السياسة، وقمع الحريات، لضمان عدم إعادة إنتاج السودان القديم تحت أي غطاء.
الفرق الجوهري عن السودان القديم:
على عكس السودان القديم، الذي بُني على المركزية المطلقة، والتوظيف السياسي للدين، وقمع الهامش، والتمييز العرقي، والاستئثار بالسلطة والثروة، فإن الميثاق والدستور الجديدين يطرحان نموذجًا مختلفًا قائمًا على المواطنة المتساوية، والحكم الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية، والوحدة الطوعية القائمة على الاختيار الحر، لا الإكراه.
والسؤال الآن: لماذا يعارض عبد الله علي إبراهيم ميثاق ودستور التأسيس؟ ليس لأنها تفتقر إلى الحجج القوية، بل لأنها حججٌ شديدة الإقناع، لدرجة تهدد السردية التي يدافع عنها! فهو لا يواجه الميثاق بنقد موضوعي، بل يحاول تفادي جوهره، لأن الاعتراف بمنطقيته يعني انهيار الأسس التي يستند إليها في رفض التغيير.
الحقيقة أن الدكتور عبد الله لا يعارض الميثاق لأنه لا يصلح، بل لأنه يصلح أكثر مما ينبغي. فهو يدرك تمامًا أن هذه المبادئ لو تم تطبيقها، فلن يكون للنخب التقليدية أي دور يذكر في السودان الجديد. ولذلك، بدلًا من مناقشة هذه الأفكار بجدية، والدفع بسودان منصف يجاوب على اسئلة جذور المشكلة السودانية التي أدت الي ما فيه السودان اليوم، يلجأ إلى الحيلة القديمة: تخويف الناس من المجهول، وإيهامهم بأن أي تغيير من غيرهم يعني الفوضى والانهيار وما اليه.
الخلاصة: ميثاق التأسيس هو لحظة الحقيقة للسودان القديم!
لم يعد بإمكان النخب التقليدية إخفاء فشلها في إدارة البلاد خلف شعارات جوفاء، ولم يعد بإمكانها الاستمرار في حكم السودان بمنطق الوصاية. فإما أن تقبل هذه النخب بحتمية التغيير، أو أن تواجه مصير كل النخب التي تجاهلت الواقع. أما الدكتور عبد الله، فلديه خياران: إما أن يواجه الميثاق بالحجج، أو أن يواصل محاولاته الفاشلة لتشويهه، بينما يستعد السودان الجديد للظهور عبر حكومة جديدة ورقه!
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.