دولة النهر والبحر ومصير وطن كان إسمه السودان (١- ٢)

✍🏿: الجاك محمود أحمد الجاك

فى تطور غير مسبوق فى تاريخ الصراع فى السودان بدأ الإعلان عن تدشين جيش خاص بشمال السودان كجزء من مخطط إعلان دولة النهر والبحر بعد أن تعالت الأصوات المنادية بتقرير مصير الشمال وإعلان كيان سياسي خاص بهم تحت مسمى دولة النهر والبحر. وكبداية عملية لتفكيك الدولة المركزية وإعلان نهاية وطن كان إسمه السودان، بدأ دعاة مشروع دولة النهر والبحر فى تجييش القبائل العربية فى شمال السودان وتفريخ المليشيات على أساس عرقى وعنصرى توطئة لبناء جيش خاص لحماية ما يسمى بكيان الشمال والتمهيد لفصل الشمال.

لقد صدم الكثير من السودانيين وهم يسمعون ويشاهدون رئيس مجلس السيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان وهو يبث خطاب الكراهية وسط أهله فى الولاية الشمالية لدرجة قوله: (الناس ديل ما بشبهونا)، ليفاجأوا بعد ذلك بأسابيع قليلة بالإعلان عن جيش درع الشمال والذى تم بمباركة البرهان شخصيا ليسجل التاريخ أنه أول رئيس فى العالم، وأول قائد عام للقوات المسلحة يقوم بتكون حركة متمردة على الدولة التى يرأسها والجيش الذى يقوده. وفي تطور ذى صلة لم تمض بضعة أشهر حتى تفاجأ السودانيون مرة أخرى بالإعلان عن تدشين قوات كيان الوطن من داخل العاصمة الخرطوم وفى وضح النهار من خلال مؤتمر صحفى عقده عدد من الضباط المعاشيين بقيادة اللواء معاش الصوارمى خالد سعد قائد قوات كيان الوطن ونائبه العقيد محمد رحمة الله وآخرون فى الطابق الرابع من عمارة تبيدى بتاريخ ١٢ ديسمبر ٢٠٢٢. والمفارقة أنهم ذات ضباط القوات المسلحة الذين حاربوا جنوب السودان وتسببوا فى إنفصاله، وهم ذات الضباط الذين أحرقوا دارفور وأبادوا شعبه ومارسوا التطهير العرقى ضد النوبة والفونج!! ونتيجة للضغط فى السوشيال ميديا بعد الصمت المريب من الإعلام الرسمى والمستقل والذى عرف بتواطئه مع جهاز الدولة، قامت السلطة الإنقلابية بتنفيذ مسرحية إعتقال الصوارمى والضباط المعاشيين الذين ظهروا معه فى المؤتمر الصحفى، لكن تم الإفراج عنهم بعد أقل من أسبوع ليعاودوا الظهور العلنى فى الجيلى وشندى ويتم الإحتفاء بهم وإستقبالهم إستقبال الأبطال وسط الأهازيج والزغاريد وضرب السلاح فتنكشف حقيقة المسرحية السمجة. وفى منتصف ديسمبر ٢٠٢٢ شاهد السودانيون عرضا عسكريا ضخما لتدشين مليشيا جديدة فى جبل الغرة شرق تمبول بمنطقة البطانة تحت مسمى قوات درع السودان بقيادة المدعو أبوعاقلة كيكل، وبحسب مصادر عليمة فقد تكونت قوات درع الوطن برعاية وإشرف مباشر من عضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطاء وبمعاونة ضباط معاشيين وضباط ما زالوا فى الخدمة بالقوات المسلحة. وقد واجه ناظر الشكرية السيد أحمد محمد حمد أبوسن ضغوط وتهديدات شديدة من قيادات نافذة داخل الجيش بسبب إعتراضه على قيام هذه المليشيات فى منطقة البطانة وإعلانه كناظر للشكرية النأى بقبيلته عما وصفه بالعمل الصبيانى. أما المليشيا التى تطلق على نفسها إسم قوات البجا بقيادة المدعو شيبة ضرار فواضح أنها من صناعة اللجنة الأمنية وجزء لا يتجزأ من مخطط دولة النهر والبحر، وإلا فكيف يعقل أن حركة متمردة على الدولة يمكن أن تتواجد وتطلق نشاطها علنا وبشكل يومى من داخل الأراضى التابعة للحكومة ومن مدينة مثل بورتسودان، وهى تظهر علنا بالملابس والرتب العسكرية وتهدد وتسيئ للبرهان وحميدتى وتسكت الحكومة على ذلك؟! معلوم أن اللجنة الأمنية والسلطة الإنقلابية درجت على إدارة ملف شرق السودان بتحريك عناصر من الفلول ومنسوبى المؤتمر الوطنى من أبناء البجا على طريقة إعتصام الموز، وهى تستغلهم فى الغالب وقت الحاجة لتأزيم الأوضاع الأمنية والإقتصادية بإغلاق الشرق وقفل الميناء، أو لضرب المعارضة وشق الشارع، أو بهدف إفشال المكون المدنى كما حدث قبل إنقلاب ٢٥ أكتوبر.

لعل تورط البرهان وياسر العطاء وعدد من الضباط المعاشيين، وغيرهم من الضباط الذين ما زالوا فى الخدمة بالقوات المسلحة يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الجيش هو أخطر أمراض السودان القديم. فهذا الجيش هو من قام بتسليح قوات المراحيل وصناعة الجنجويد وتفريخ مليشيات الدفاع الشعبى (قوات الإحتياط حاليا) وكتائب الظل سيئة السمعة. ونفس الجيش هو من قام بقتل إثنين مليون جنوبى وتسبب فى فصل جنوب السودان ويعمل لفصل الجنوب الجديد. ويعتبر سكوت القوى السياسية مقروءا مع الصمت المريب للإعلام تجاه تأسيس هذه المليشيات العنصرية نوع من التواطؤ والإصطفاف الآيديولوجى المكشوف. هكذا إبتلى الله السودان بنخب وساسة هم أقل بكثير من قامة هذا الوطن العملاق. ولا يمكن تفسير السكوت المطبق على ظاهرة تجييش القبائل وإغراقها بالسلاح وتفريخ المليشيات على أساس عرقى وعنصرى إلا بالتماهى مع المخطط وبلوغ هذه النخب العسكرية والسياسية مرحلة الإفلاس السياسى الكامل Complete political bankruptcy ولذلك أصبحت تجر البلاد بأسرها إلى حالة اللادولة والفوضى العارمة State of anarchy and devastation. يشكل هذا التطور الجديد فى تاريخ الصراع فى السودان بداية عملية لتفكيك الدولة المركزية، إنها سياسة الهروب إلى الأمام وعقلية الإسلاميين والعروبيين التى تؤمن بضرورة التخلص من التنوع الموجود فى السودان والذى يعتبرونه نغمة ببتر بعض أجزاءه كما فعلوا من قبل عندما قاموا بفصل الجنوب للإنفراد بحكم ما تبقى من السودان بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية وفرض ثوابت العروبة (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)، وهم بذات العقلية العنصرية والمواقف اللاوطنية وإصرارهم على تطبيق مشاريع غير سودانية، مشارع مستوردة ومستلفة من أبى الأعلى المودودى وحسن البنا وميشيل عفلق وكارل ماركس وجمال عبدالناصر والمشروع الوهابى والداعشى فى السودان، إنما يدفعون بهذا الإصرار الجنوب الجديد دفعا نحو خيار الإنفصال. ويؤكد طرح مشروع دولة النهر والبحر أن هذه النخب الفاشلة قد توصلت لقناعة تامة بفشل مشروع السودان القديم وهو إقرار ضمنى بفشلهم كنخب فى إدارة الدولة السودانية على الطريقة القديمة، لكن عز عليهم بسبب الإستعلاء والمكابرة طي صفحات الماضى والتصالح مع الشعوب السودانية الأخرى، مع عجزهم عن خلق مشروع وطنى واقعى قابل للحياة، مشروع وطنى يجمع كل السودانيين فى عقد إجتماعى جديد، وذلك على غرار فشل الآباء المؤسسين فى إنجاز مهام البناء الوطنى. هكذا تيقنوا من إستحالة الإستمرار فى فرض هويتهم الزائفة وثوابتهم الوطنية على كل الشعوب السودانية فى ظل التنامى المطرد للوعى السياسى وتزايد المد الثورى وسط الأغلبية المتضررة من الأوضاع القائمة فى البلاد. لا شك أنهم قد أدركوا إستحالة الإستمرار فى فرض ثوابتهم الوطنية المرتكزة على العروبة والإسلام بعد إنتهاء دورة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية وإنكشاف عورتها، وإحساسهم بأن هيمنتهم وإمتيازاتهم صارت مهددة بالزوال، فما ما بنى على خطأ لا يمكن أن يقود إلى نتائج صحيحة ونهاية منطقية، ولذلك قرروا اللعب بالنار.

مشروع دولة النهر والبحر هو توسيع لفكرة مثلث حمدى التى طرحها الخبير والمنظر الإقتصادى لحكومة الإنقاذ ونظام المؤتمر الوطنى البائد الدكتور عبدالرحيم حمدى الذى رأى ضرورة أن تركز الحكومة وتقتصر توزيع المشاريع التنموية ومشاريع البنى التحتية فى مثلث دنقلا والتى تشمل أضلاعه الثلاثة كلا من دنقلا وسنار والأبيض، حيث قام عبدالرحيم حمدى، ولإعتبارات عنصرية بإقتراح ضم شمال كردفان لشريط الشمال والوسط النيلى المعروف تاريخيا بالتواطؤ مع الأيديولوجيا الإسلاموعروبية والمركزية القابضة. لم يأتى توسيع الشماليين لمثلث حمدى بضم شرق السودان لدولة النهر والبحر حبا فى شعب البجا، أو لمجرد إعتبارات تتعلق بعقدة اللون والشعر المعروفة لدى الشماليين، وإنما يعود السبب إلى وعيهم بالأهمية الإستراتيجية والجيوساسية لشرق السودان الذى يشاطئ البحر الأحمر بمسافة يبلغ طولها سبعمائة كيلومترا. إذن يكمن الدافع الأساسى وراء السعى لضم الشرق إلى دولة النهر والبحر فى جشع وطمع الجلابة فى جعل الشرق منفذا بحريا لدولتهم المزعومة بهدف الإستفادة من الموانئ والملاحة البحرية، كما يطمعون فى إستغلال الموارد والثروات البحرية الثمينة التى يذخر بها البحر الأحمر والتى تشمل إلى جانب الثروات السمكية النفط والغاز وغيرهما من المعادن النفيسة والتى أثبتت الأبحاث توفرها بكميات هائلة. كما أن الشماليين على وعى كبير بالأهمية الإقتصادية لمنطقة البحر الأحمر التى يمر عبرها ما لا يقل عن ١٣% من حركة التجارة العالمية، فضلا عن إدراكهم للأهمية العسكرية للمنطقة والتى يتطلعون لإمتلاك مياه إقليمية وموانئ فيها تمكنهم من إنشاء قواعد عسكرية للدولة الوليدة وحلفاءها فى المنطقة. إنها عقلية الشنقيطى التى تريد إستحمار أهلنا وشعبنا فى شرق السودان كما فعلوا مع الجنوبيين فى مؤتمر جوبا ١٩٤٧ طمعا فى إستغلال الموارد والثروات والإستفادة من الأهمية الجيوسياسية للمنطقة، لكن فات عليهم وجود تعقيدات وتقاطع مصالح دولية وإقليمية، خاصة وأن هناك دول تعتبر المساس بإقليم الشرق يشكل تهديدا وجوديا Existential threat بالنسبة لها وهى مخاوف أمنية مشروعة، الأمر الذى سيفتح الباب على مصراعيه لظهور صراعات إقليمية ودلية خطيرة وغير مأمونة العواقب، بالرغم من الإستهانة بالبعد الإفريقى والدولى للصراع الحاصل فى السودان. ومن المؤكد ستعمل هذه الإعتبارات غير المحسوبة على الحيلولة دون إبتلاع شرق السودان بالسهولة التى يتخيلونها، أو كما تتخيل الدول التى تدعم مشروع دولة النهر والبحر، أو حتى الدول التى تتطلع للتواجد العسكرى بالقرب من دول المنبع.

ونلتقى فى الجزء الثانى والأخير،،،

تعليق 1
  1. Aziz Dirrow يقول

    لقدام

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.