دولة الجلَّابة المُتحيَّزة والتهرب من مواجهة سؤال الهوية (2)
✍🏻 أنس آدم
مواصلة لرحلة الحرث التي بدأناها بالمقال السابق في حقل أزمة الهوية الوطنية، نقدم في هذه السطور قراءة سريعة فى بنية الحروب التى شهدتها البلاد والصراعات الدامية التي تحمل فى طياتها أبعاد عرقية وعنصرية Racial dimension وتقف من وراءها دولة الطيب المصطفى العنصرية لا سيما صراعات ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة لإرتباطها العضوي وصلتها بموضوعنا (سؤال الهوية) محل التنقيب.
بلا شك كل متتبع حاذق وقارئ بعقل متقد وفاحص لـ”خلفية وطبيعة الصراعات والحروب الطاحنة” التي إندلعت في البلاد يدرك تماما أنها قامت على أساس الإنتماءات البسيطة – العرق بالرغم من إصرار قوى السودان القديم والنخب المستعربة على نفي هذا الواقع وإنكاره. فسعت تلك القوى فى محاولة يائسه منها للتهرب من مواجهة سؤال الهوية إلى تعريف وتصوير الصراع على أساس أنه طبقي – إقتصادي تارة وديني تارة أخرى كما ورد في القاموس السياسي للجبهة الإسلامية القومية (الفتاوي الجهادية ضد شعب النوبة والفونج في العام 1992).
بالطبع، تجاوزت قضية الهوية الرواق الأدبي، المثقفاتي، المنصات التنظيرية وسجالات علي عبد اللطيف وسليمان كشة حول (شعب السودان) هل شعب عربي كريم أم شعب سوداني كريم؟ لتدخل بقوة إلى دائرة الصراع الوجودي – المصيري وحلبة المواجهات الدامية والمميته بين الشعوب السودانية الزنجية التى تقاوم لحماية نفسها والحافظ على هوياتها الذاتية والمستعمر الداخلى ممثلا في دولة الجلابة التي تسعى لإعادة إنتاج المكونات الزنجية داخل حقل الثقافة العربية – الإسلامية.
هولوكوست دارفونج: ما وراء التعتيم الإعلامى وعودة سؤال الهوية إلى الواجهة:
إن الإنتهاكات والفظائع المؤسفة التي شهدتها مُدن وضواحي إقليم الفونج فى الفترة من يوليو – أكتوبر 2022 مقروءة مع التعتيم الإعلامي بل صمت وتواطؤ الأجهزة الإعلامية الرسمية للدولة، تأتي فى سياق إستمرار ومواصلة دولة ما يُسمى بالثوابت الوطنية (العروبة والإسلام) لمخططات وإستراتيجيات إزاحة المكونات الزنجية بالإقليم وإستهدافها في الهوية – الأرض – الموارد. وبهذا المنحى الخطير من نوعه في الصراع أقدمت كارتيلات مؤسسة الجلابة بمكر وخبث سياسي إلى هندسة الأزمة ونسج خيوط اللعبة القذرة The dirty game ضد السكان الأصليين في جنوب السُّودان (النيل الأزرق) مستخدمة مليشيات الهوسا المسلحة والمسنودة من الدعم السريع وعضو مجلس السيادة الإنقلابي – مالك عقار الذي زج الإقليم فى دوامة صراعات عنصرية دامية بلغت أقصى درجاتها بمجزرة ودالماحي التي أشرف على تنفيذها المباشر الحاكم الكرتوني – أحمد العمدة وذلك بشهادة محافظ ودالماحي – العمدة عبد العزيز الأمين الذى كشف فى مقابلة تلفزيونية (تلفزيون السودان) عبر الهاتف عن إصدار الحاكم أوامر بسحب القوة النظامية المتمركزة في رئاسة المحافظة دون مشاورتهم كـ(لجنة أمن المحافظة) فإنسحبت القوة بصورة مفاجئة من رئاسة المحافظة بتوجيه من أحمد العمدة، وبعد ذلك وقعت الكارثة “حسب تعبيره”. فقد أكد المحافظ بحديثه تورط وضلوع الحاكم في مجزرة 19 أكتوبر الماضي بـ”السريفة والطارايات” فى محافظة ودالماحي. تلك المجزرة التى أسفرت عن سقوط “200” شهيد، قتلوا بالرصاص الحي وحرق بعضهم داخل منازلهم وسط صرخات الأطفال وعويل النساء والنيران تلتحم أجسادهم وهم أحياء. فيما كانت الأعيرة النارية مصير كل من حاول الهروب فضلا عن إصابة المئات وتشريد ونزوح أكثر من “28” ألف مواطن من مناطقهم وقراهم الأصلية.
وبمجزرة ودالماحي إنكشف زيف إدعاءات الضمير والوجدان السوداني واحد وتأكد مرة أخرى أن الدولة السودانية تعاني أزمة هوية ماحقة. هولوكست – مجزرة بشعة فاقت فظائع رواندا وليبيريا والكنغو تعاملت معها النخبة المستعربة والدولة المتحيزة عرقيا كحدث عابر لا يستحق الوقوف عنده، وذهبت الدولة بأجهزتها القمعية فى الإقليم إلى أبعد من ذلك، بفرضها قانون الطوارئ لتكميم الأفواه ومصادرة حريات التعبير والتجمعات بحجة فرض هيبة الدولة وحفظ الأمن وما يزال الأبرياء يسقطون واحدا تلو الآخر. بينما تقاعست ما يُسمى بالمنظمات الوطنية (واجهات أمنية للنظام) عن تقديم أي مساعدات إنسانية للنازحين في الوقت الذي تتسابق فيه الأجسام والقوى المدنية والسياسية في تنظيم الوقفات الإجتجاجية والتظاهرات رفضا لزيادة أسعار الخبز والوقود.
هنالك تقارير موثوقة كشفت عن تهريب كميات مقدرة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة إلى مليشيات الهوسا في مناطق كرمة، ملوة، بيشان، السريفة الطارايات وأم درفا بمحافظة ودالماحى بالإضافة إلى مدينة الدمازين التي أغرقت أحياء كثيرة منها بالأسلحلة وأصبحت بذلك قنبلة موقوته يمكن أن تنفجر تحت أي لحظة. وسبق أن تم ضبط سيارة دبل كابين بيضاء بلوحة (SSD 743) تابعة لـ(أحمد العمدة – ذيل السلطة الإنقلابية بالإقليم) تم ضبطها في قنيص شرق – الروصيرص على متنها أسلحة كلاشنوف ورشاشات مهربة إلى مليشيا الهوسا التي يشرف عليها أحمد العمدة. ليس هذا فحسب، تجرى هذه الأيام حملة تعبئة وتجنيد سرية عوضا عن تدريب هذه المليشيات فى منطقة “كالنق” بمحافظة باو توطئة لإستئناف هجماتها مرة إخرى على المواطنين. وبهذه الوتيرة المتسارعة التى تنذر بقوع كارثة إنسانية فى المدى القريب تمضي الإستهدافات الممنهجة ضد الشعوب الأصلية – أصحاب الأرض والتاريخ.
دعونا نتناول حقائق واقعنا اليوم بشجاعة دون مواربة أو تدليس كما ينبهنا الكاتب – فرانسيس دينق ولسان حاله يحدثنا: “ان مشكلة السودان الحقيقية ليست فيما يقال وإنما في المسكوت عنه”. وكذلك يتساءل القائد عبد العزيز آدم الحلو “هل أنتم قدر التحدي أم قبيلة من قبائل العاجزين؟” انه إشارة غاية في الأهمية إلى أن القوى السياسية والمدنية ليست لديها الشجاعة والرغبة السياسية The Political will لطي صفحة الحروب وإبراء الجراحات ولا يتأتى ذلك إلا بالتصدي للجذور التاريخية للمشكلة السودانية The historical roots causes of the problem of sudan ومن بينها أزمة الهوية التي أضحت تمظهراتها وإنعكاساتها شاخصة للعيان فى كافة مناحى الحياة السياسية، الإجتماعية والثقافية نورد منها على سبيل المثال وليس الحصر: معسكرات اللاجئين اليوم في دول (تشاد – جنوب السودان – كينيا – يوغندا – إثيوبيا) تعكس طبيعة الصراع في السودان لجهة أنها مكتظة بالمكونات الزنجية فقط، هربت من مناطقها الأصلية إلى تلك المخيمات طلبا للحماية كما الغالبية العظمى من سيدات الشاي، الفول المدمس والتسالي، ماسحى الأحزية (الورنيش) غسالى السيارات، وأبطال (أطفال) الشوارع – الجنقو – عمال/ات النظافة جميعهم خارج حقل الثقافة العربية – الإسلامية (ما بيشبهونا). تشلكت هذه الوضعية التاريخية المختلة نتاج سياسيات الدولة ممثلة فى موانع هيكلية Strucural barriers أبعدت وحرمت الشعوب الزنجية من حيازة السلطة والثروة وكرست هيمنة الجلابة وسيطرتها على السلطة.
خلاصة الحديث، إن الصراع في السودان قائم على أساس العرق (فرض الهوية الآحادية الإقصائية) وإلا لماذا شنت الجبهة الإسلامية القومية حربا شعواء وعنصرية على المكونات الزنجية في دارفور؟ مع أنها مسلمة ومشهود لها بكسوة الكعبة الشريفة سنويا، وهي كذلك حافظة للقرآن الكريم عن ظهر قلب فأكاد أجزم لك عزيزي القارئ، إذا كنت تريد أن تؤدي القسم (اليمين) ولم تجد مصحفا (قرآن كريم) ما عليك إلا أن تضع يدك على رأس دارفوري زنجي، وتؤدي القسم لأنه حافظ للقرآن لكن لم يشفع لهم ذلك فإستباحت الدولة أعراضهم ودمائهم حتى النساء والأطفال لم يسلموا من تلك الفظائع وسط صمت رسمى وشعبى ومن يدعون أنَّهم مناصري ومدافعى حقوق الإنسان فلم يجرأوا أي منهم على إستنكار وإدانة الإنتهاكات والجرائم التي ترتكبها الدولة بحق الآلاف من أطفال دارفور بينما يخرج الآلاف في شوارع الزبير باشا والمك نمر بالخرطوم وتسلط الدولة أجهزتها الإعلامية الرسمية تضامنا مع مقتل طفل واحد (محمد الدرة مثلا) في فلسطين، مما يعكس حالة الإنقسام الواجداني التي تعيشها الشعوب السوادنية وأزمة الهوية التى تمر بها الدولة السودانية.
ونواصل،،،