“دوائر القهر”: للدكتور إسحق: علم النَّفس السياسي التحرُّري في تفكيك القهر

قرأه الدكتور عمر مصطفى شركيان [email protected]

 

 

كم غمرتنا السعادة، وشملتنا البهجة حين اتَّصل بنا الدكتور مجدي إسحق من لندن عاصمة الضباب سائلاً عن عنواننا البريدي لأنَّه يعتزم إرسال كتاب كهديَّة لنا. إذ يعتبر الكتاب عندنا أثمن تحفة يمكن أن نتلقاها من صديق أو رفيق، وبخاصة من ذاك الذي لم تسمح الظروف لنتقابل وجهاً لوجه، ولكن ربما كان قد قرأ مقالاً كتبناه، أو تأليفاً نشرناه، أو كان حضوراً في محاضرة كنا فيها من المتحدِّثين. إزاء ذلك يظلُّ الكتاب أي كتاب أسطورة تبعث في أنفسنا السرور، لذلك وصف أحد الشعراء الكتاب بأنَّه صديق الطفل، ورفيق الكل. علاوة على ذلك، فقد قال إمام الأدباء في العصر العباسي الثاني أبو عثمان عمرو بن بحر، المعروف بالجاحظ (776-868م) – نسبة لجحوظ عينيه، والجِحاظُ هو خروج مُقلة العين وظهورها، والجحوظ خروج المُقلة ونتوؤها من الحجاج – قال في الكتاب فيما قال: “الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة، ونعم القرين ببلاد الغربة، وهو وعاء مليء علماً، وليس هناك قرين أحسن من الكتاب، ولا شجرة أطول عمراً، ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى من كتاب مفيد، والكتاب هو الجليس الذي لا يمدحك، والصَّديق الذي لا يذمُّك، والرَّفيق الذي لا يملُّك ولا يخدعك إذا نظرت فيه، وإذا استمعت إليه أمتعك وشحذ ذهنك، وبسط لسانك، وجوَّد بيانك، وغذَّى روحك، ونمى معلوماتك، وهو المعلِّم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة.”

مهما يكن من شأن، ففي إصداراتنا الكثيرة الكاثرة كتبنا بالتحليل والتدقيق في التاريخ السياسي في السُّودان، وسلَّطنا الأضواء الكاشفة على الحروب الأهليَّة، التي تفجَّرت منذ ١٨ آب (أغسطس) ١٩٥٥م لغاية الآن، وقد هزَّت هذه الحروب أركان الوطن طولاً وعرضاً، لكن هناك ثمة شيئاً ما لم نتطرَّق إليه، ألا وهو الآثار النفسيَّة التي تركتها هذه الحروب المستطيرة في نفوس الضحايا الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من الهلاك. إذ أنَّ كتاب الدكتور إسحق قد غاص في هذا الجانب الاجتماعي والسياسي والنفسي الهام، دراسة وتحليلاً، مستعيناً بمنهج علم النَّفس السياسي التحرُّري. وكطبيب الذي يدري كيف يشخِّص المرض، ويوصف الدواء لاستئصال الداء، فقد أسدى معروفاً للعلوم الإنسانيَّة بهذا الإنتاج. بيد أنَّ أكثر ما أبهرنا في الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه هو السَّرد القصصي الجزل الذي استخدمه الطبيب الألمعي.

وكذلك لعلَّ أكثر ما لفت انتباهنا، وأثار فضولنا هذا المنهج الموسوم بمنهج علم النَّفس السياسي التحرُّري، الذي استخدمه الكاتب في هذه الإصدارة. ونحن إذ نعترف بأنَّنا لم نسمع بهذا المنهج من قبل، وبالكاد يبدو أنَّ أحداً من البحاثة السُّودانيين لم يستعن به، ولم يهتد إليه بعد. لقد استخدم الدكتور المؤلف هذا المنهج لأنَّه شعر بأنَّ “مدرسة علم النَّفس السياسي التحرُّري هي المدخل الذي سيقدِّم إجابات لبعض الأسئلة التي تؤرِّق مضجعه، والتي لا يزعم بأنَّها ستكون هي المدرسة الوحيدة التي تستطيع تفكيك واقع مجتمعات القهر وأزماتها ومستقبلها، ولكن يمكن أن نقول بأنَّها هي المدخل العلمي الذي يستطيع أن يسلِّط الأضواء على جانب مهم يعكس بدرجة كبيرة تأثير الواقع الاجتماعي في وعي الفرد وطموحاته وأحلامه ورؤيته، وإلى أي مدى يمكن أن يكون لهذه المشاعر دور في تشكيل وعي هذه الشريحة الاجتماعيَّة التي ينتمي إليها.” انطلاقاً من هذه المدرسة، فإنَّ أي مشكل يبدأ من المجتمع نفسه، ولا يبدأ من التعميم المجرَّد عن الظاهرة قيد البحث. ومن هنا ندرك أن جميع مشكلات السُّودان السياسيَّة في الأساس ناشئة من واقع المجتمع السُّوداني نفسه، ولا ينبغي أن ننظر إليها وإلى تجلِّياتها وآثارها وأبعادها التاريخيَّة والمعاصرة بأنَّها من صنائع الاستعمار، ومن ثمَّ نجعل من هذا الأخير قميص عثمان، حيث أنَّ الاستعمار قد رحل عن البلاد منذ زمنٍ ليس بقصير. تلكم هي الشمَّاعة التي ظل قادة السُّودان يعلقون عليها مثالبهم وإخفاقاتهم في إدارة حكم البلاد، وبخاصة الفشل الذريع في تحقيق المجتمع المتوازن، أو ما يُسمَّى بالعقد الاجتماعي.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا، يعتبر من الحجم المتوسِّط، الذي يبلغ تعداد صفحاته ٥٠٤ صفحة، ثمَّ إنَّه يتألَّف من ثمانية أبواب. إذ يغطي الكتاب كل ما له علاقة وثقى بالقهر، فقد استهل الكاتب الكتاب بالتمهيد، ومقدمة عن القهر، ثم مضى في أبوابه المختلفة متحدِّثاً ومحلِّلاً مفهوم القهر، مستعيناً بمنهج علم النَّفس السياسي التحرُّري – كما أبنا سلفاً، ومضى معرفاً مفهوم القهر، وبنيته واستمراريَّة بنيته، والقهر من الواقع وإليه، وتاريخ التنازع والقهر، وسيكولوجيَّة القهر وتأثيره ونتائجه، ثم دلف في نهاية الأمر إلى تفكيك بنية القهر. كذلك اشتمل الكتاب على مراجع أجنبيَّة وعربيَّة ليست بقليلة. لم يكتف الكاتب باستخدام مفردة القهر مجرَّداً، أي كحال من المعاناة التي يتعرض لها الإنسان في الجسم والروح، بل ذهب أكثر من ذلك في تعريف مفهوم القهر ودواعيه وأثره في حيوات المقهورين، وكيفيَّة القضاء عليه وعلى رواسبه الاجتماعية والثقافية والسياسيَّة.

لقد مارست الدولة السُّودانيَّة الوطنيَّة منذ نشأتها صنوفاً من القهر على القوميَّات السُّودانيَّة المختلفة، حتى وصل القهر قمَّته في عهد الإنقاذ، واستمرَّ إلى ما بعد الإنقاذ، وبخاصة ضد تلكم القوميَّات التي رفعت السِّلاح لتبديد مظاهر الظلم، وسعت سعياً حثيثاً في المطالبة بالعدالة والمساواة في الحقوق الدستوريَّة الجوهريَّة. إذ كانت الدولة الإنقاذيَّة في مسعاها ذاك تمثِّل تجسيداً لفكر الفيلسوف الإنجليزي-الهولندي بيرنارد مانديفيل التي أباح بها في كتابه الشعري الساخر “أسطورة النَّحل: أو الرذائل الفوائد” (The Fable of the Bees: Or, Private Vices, Public Benefits) الذي نُشِر العام 1714م. إذ كتب مانديفيل في ذلكم الكتاب – فيما كتب – يقول إنَّ الإنسان لكائن أناني وشرس، ومع ذلك فإنَّ اختلاط هذه الرذائل مع بعضها بعضاً ينتج الفوائد العامة، وفوق ذلك كله كان بحثه ذا أثرٍ بليغ في القرن الثامن عشر من الميلاد.

نسبة لنشأة الكاتب الدكتور إسحق في جبال النُّوبة، وترحاله في قرأها وأريافها، وعبوره لوديانها، نمت عنده بذرة الوعي الموضوعي، حيث اكتسب منذ نعومة أظفاره وعياً سياسيَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً بالمشكلات التي ظلَّ يعاني منها إنسان هذا الإقليم، وبات يكدُّ كدَّاً غير ملاقيه في سبيل إجلائها.

مهما يكن من شيء، فإنَّ ما نشهده ونشاهده لغاية الآن من مظاهر القهر المتمثِّلة في القتل والتمثيل بالجثامين يتنافى مع الأخلاق السويَّة، والأعراف القانونيَّة، حيث أنَّ الخيل تشمئز في أن تطأ بحوافرها الأجسام الميِّتة، والحيوان لا يمكن أن يمر على الجسم الميِّت لحيوان آخر من نوعه دون أن يثير هرجاً ومرجاً من الذُّعر؛ كما أنَّ بعض الحيوانات تعطي موتاها نوعاً من مظهر الدَّفن الكريم (Dignity in funeral)، ولنا عبرة في قصَّة الغراب الأسطوريَّة الذي دفن قتيله، واقتدى به قابيل حين قتل أخاه هابيل. ألم تروا كيف تبكي الأبقار بكاءً شكيَّاً حداداً حين يتمُّ استياقها إلى المسلخ (المجزر)، وهي تستظهر ما تشعر به من مظاهر الرُّعب التي تنتظرها!

على أيٍّ، إنَّ هناك بعض الهنَّات الفنيَّة الطفيفة التي كان ينبغي على الكاتب النَّظر إليها، والتدقيق فيها، والسَّعي إلى تلافيها، لكن تلك الهنَّات لا تنتقص من أمر هذا الكتاب الأهم شيئاً. إذا كان هناك ثمة وصيَّة يمكننا إسداءها إلى الكاتب الأريب في حال اعتزم نشر الطبعة الثانية من هذا التأليف الهام، فينبغي التدقيق في هذه الجوانب الفنيَّة، حتى تخرج الطبعة الجديدة في ثوب قشيب يسرُّ القرَّاء. الكتاب كتاب الدكتور إسحق يمثَّل إضافة معرفيَّة لمراكز الدِّراسات الثقافيَّة، ومبتغى طلاب المعارف في العلوم السياسيَّة، والفلسفة، وعلم النَّفس والاجتماع، وبخاصة لأنَّه اشتمل على التحليل النفسي التحرُّري للظاهرات الاجتماعيَّة، والصراعات الثقافيَّة، والنزاعات السياسيَّة، التي يشكل القهر والاضطهاد والتمييز والاستعلاء والاستبعاد والاستعباد والتنميط (Stereotyping) سبباً رئيساً في تفجيرها واستفحالها. في سبيل تغيير الواقع الذي يسود فيه القهر لا يتأتى هذا الأمر بتغيير القيادة فحسب، بل ينبغي إعمال تغييرات راديكاليَّة في المجتمع ذاته من أجل تحقيق المجتمع المتوازن، وإنزال العقد الاجتماعي إلى أرض الواقع.

لعلَّ في نافلة الحديث نستطيع أن نقول إنَّ كتاب “دوائر القهر: قراءة في واقع التباين والتنازع والصراع”، الصادر من دار المصوَّرات للنَّشر والطباعة والتوزيع في الخرطوم العام ٢٠٢٤م لم يكن هو التأليف الوحيد للدكتور إسحق، ولم يصبح الأخير مطلقاً، بل عرفت الساحة المعرفيَّة له كتباً أخرى. فقد صُدِر له من قبل كتاب “واقع المرأة السُّودانيَّة: قضايا الحب والزواج” (٢٠٢٠م)، و”الثورة من منظور علم النَّفس السياسي” (٢٠٢١م)، و”كلمات في محراب الوطن والثورة” (٢٠٢٢م)، و”هرمنا حين فارقنا الوطن” (٢٠٢٢م)، و”حروف ضد الحرب وللسَّلام والمحبَّة والأمل” (٢٠٢٣م).

بريطانيا، الأربعاء الموافق ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٢٤م

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.