دمج قوات الدعم السريع: المعايير والتحديات
الدكتور قندول إبراهيم قندول
[email protected]
لا زلنا مع الرأي العام الذي ينادي بالإصلاح الجذري للمنظومة الأمنيَّة في سودان ما بعد ما يُسمى بالثورة والحرب، لإعادة هيكلة الجيش السُّوداني ليكون جيشاً مهنيَّاً، بعقيدة قتاليَّة للدفاع عن الوطن من أي عدوان خارجي، وعدم الخوض في معارك خارجيَّة بغرض الارتزاق المادي الفردي أو الحكومي، بأية حجة من الحجج الواهية. وفي حال السلم، يجب ألا يقتصر دور الجيش في التدريب والاستعداد لقتال حقيقي فقط، بل المشاركة في البناء والتنميَّة؛ ومساعدة المواطنين والضحايا في حالة وقوع الكوارث الطبيعيَّة بالبلاد بدلاً عن قتلهم وزعزعة أمنهم وسلامتهم. بيد أنَّه لم تكن مناداة الشارع السُّوداني، خاصة الشباب الثائر والشابات الثائرات، بضرورة حل قوات الدعم السريع وتجريمه، وليس دمجه في الجيش السُّوداني، من فراغ. فلهؤلاء ما يبرِّر مطالبتهم الموضوعيَّة والمشروعة، لما ذاقوه من هذه القوات بالتضامن والتنسيق التام مع المؤسسة العسكريَّة والأمنيَّة السُّودانيَّة قبل وبعد “ثورتهم” التي سُرِقت بواسطة النخب.
يلقي هذا المقال الضوء على التصريحات الناريَّة لجنرالات الجيش السُّوداني (البرهان والكباشي وياسر العطا) الأخيرة التي شغلوا بها الساحة السياسة “بأكذوبة وخدعة” دمج قوات الدعم السريع في الجيش. فقد علت نبرتهم وحماسهم حتى صدَّق العالم والشعب السُّوداني أنَّ خلافاً حاداً وقع بين الجيش والدعم السريع لدرجة أنَّ صداماً محتملاً سيقع بين القوتين. وحسب قراءتنا لمجمل الأوضاع والتاريخ الطويل لمثل هذه التصريحات والخدع، فالصدام غير واقع، والصراخ الداوي من الجنرالات عبارة عن فرقعات مرحليَّة لشغل الساحة السياسيَّة بخطر “متخيَّل” يحدق بالبلاد. فإذا كان ما يظهرونه صحيحاً (الدمج)، فلماذا انتظرت المؤسسة العسكريَّة طويلاً وقويت من شوكة الدعم السريع تسليحاً وتجنيداً للشباب وقدامى المحاربين في جميع ولايات السُّودان ومن قبيلة واحدة؟ لقد كانت قوات الدعم السريع محصورة فقط في دارفور بعد محاولتها البائسة لدخول جبال النُّوبة عندما كان سيء السمعة أحمد هارون محمد واليَّاً لولاية شمال كردفان، ولعلَّ المتابعين يعرفون بقية القصة. إذن، إذا كانت المؤسسة العسكريَّة جادة في وقادرة على حسم نشاط الدعم السريع لفعلت، ولكنها آثرت الصمت وتقنين لبقاء هذه القوات، بل وتصديرها للخارج لخوض حرباً ليس للسُّودان فيها منفعة غير التكسب الشخصي لأفرادها، وعداء من أحد الأطراف المتحاربة أصلاً.
على أية حال، المتتبِّع الحصيف للتصريحات المتناقضة لقادة الجيش والدعم السريع يدرك تماماً أنَّهم على قلب رجلٍ واحد. وحتى إذا سلمنا جدلاً بصحة جديتهم في دمج قوات الجنجويد، وأنَّ هناك خلافاً بينهم في هذا الصدد، هناك سلسلة من الأسئلة التي يمكن طرحها، ونحسبها تحديات لإنفاذ هذا الدمج. منها كيف ومتى سيتم هذا؟ وما هي المعايير التي ينبغي استخدامها للدمج؟ مَن ينبغي دمجه أو تسريحه أو إحالته للتقاعد؟ ما هو العدد الذي يجب استيعابه وعلى حساب مَن؟ بمعنى هل سيتم إحالة بعض الأفراد من القوات المسلحة إلى المعاش أو تسريحهم؟ ما هي الميزانيَّة (المال) المرصودة لهذه العمليَّة ومن أين؟ هل سيقبل قادة الدعم السريع بالتخلي عن جنودهم الشباب والمنتمين قبليَّاً وجهويَّاً لجهات معينة؟ بالطبع هذا بعض من الأسئلة التي ينبغي أن تكون المؤسسة العسكريَّة قد وجدت له الإجابات، وإلا فهي غير جادة في أن تنشره بين الناس.
سوف لن نحاول الإجابة عن كل هذه التحديات، ولكن الأمر البديهي هو الموافقة الأمنيَّة (Security Clearance) لبعض قيادات الدعم السريع التي ستواجه عمليَّة الدمج. فمن المعلوم عالميَّاً أو دوليَّاً أنَّه ينبغي البحث الدقيق عن الخلفيَّة الأمنيَّة، والأخلاقيَّة، وخلو ملفات المرشحين للمواقع والوظائف الحساسة من الجرائم بمختلف أنواعها. وهذا النوع من البحث قد يأخذ وقتاً طويلاً ويحتاج إلى حياديَّة تامة من الباحث عن الحقيقة والصدق التام من الطرف الآخر. ثم مَن الذي سيبحث عن مَن؟ هذا الشرط مهم جداً لأنَّ هناك أحاديث كثيرة وطويلة قد يكون بعضها صحيحاً والآخر غير ذلك، عن أنَّ قادة كباراً، وفي المراتب القياديَّة الوسطى والدنيا في قوات الدعم السريع بأنَّهم ليسوا بسودانيين. هل سيتم إقصاء هؤلاء إذا تم بالفعل عدم استيفاء شرط المواطنة السُّودانيَّة أو الانتماء إليه؟ وماذا سيكون رد فعل قادة قوات الدعم السريع لذلك؟ ثاني التحديات هو الأهليَّة المهنيَّة، مثل المؤهلات العلميَّة العسكريَّة والحربيَّة في مؤسسة معترف بها، إذ لا يتساوى خريج الكلية الحربيَّة من حيث الشهادة وليس الرجالة. حالة حميدتي وأخيه عبد الرحيم استثنائيَّة لأنَّهما “جابوها رجالة وحمرة عين”. عمر البشير والبرهان نفسه، حاولا التشاطر على حميدتي عندما قاما بتربيته وبناء ترسانته، ولكن شربوا المقلب. ولعل البشير اليوم من النادمين وقد يردِّد في مكانه الآمن ما قاله، حسب الرواية غير المتفق عليها، مالك بن فهم الأزدي أو أوس بن معن المزني من بيتين بليغين:
فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ألقِّمه بالبنان
أعلِّمه كل يومٍ فلما اشتد ساعدُه رماني.
فالبرهان اليوم يخاف على نفسه من حميدتي متيقِّناً أنَّ حميدتي يمكن أن يفعل به ما فعل هو وأخيه عبد الرحيم بابن عمهم موسى هلال من أجل السلطة والجاه والمال مطبقاً المقولة: “أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”. فالخطاب الذي ألقاه حميدتي بالخرطوم يوم الصلح بينه وموسى هلال، ذكر حميدتي بالحرف الواحد: “البلد دي حقت أبو منو”؟
ننتقل إلى الجانب المتعلَّق بالعدد الكلي لقوات الدعم السريع المراد دمجه؟ كم العدد المستهدف للدمج وما هي الفئة العمريَّة والتمثيل القبلي فيه؟ بمعنى أدق ما هي النسبة التي ستتفق عليها الأطراف؟ وهل سيتم إحالة بعض الرتب العليا والوسطى والدنيا من الجيش السُّوداني إلى المعاش من أجل استيعاب الرقم المدمج من قوات الدعم السريع؟ هنا يجب وضع في الاعتبار قوات ما يسمى ب “حركات الكفاح المسلَّح”، التي تتطلع أيضاً لدمج قواتها، إن كان لها قوات فعلاً على الأرض، لحماية مواطنيهم الخياليين. خياليون، لأنَّ وجود قواتهم المزعوم لم يمنع جيش الحكومة أو قوات الدعم السريع من قتل المواطنين الحقيقيين في الخرطوم والمدن الأخرى ومناطق الحرب، وكأنَّ هؤلاء ليسوا من ادعوا برفع “السلاح في وجه الحكومة الجنجويد من أجلهم”. الغريب في الأمر أنَّ قادة في مواقع رفيعة يتبجحون ويملأ بعضهم وسائل الإعلام ضجيجاً بأنَّه لم يتم إطلاق رصاصة واحدة منذ التوقيع على “اتفاق سلام جوبا” المعيب. هذا موضوع آخر، سنتطرَّق له في مناسبة أخرى. ما يهمنا هنا، ما هو العدد الكلي لقوات “حركات الكفاح المسلَّح” التي سيتم دمجها؟ نطرح هذا السؤال متوقعين المعالجة الكليَّة لمسألة الجيوش المتعدِّدة لدولة واحدة. وقد جانب ياسر العطا بعض الحقيقة عندما ذكر “لا يمكن أن يكون لدولة “ديمقراطيَّة جيشان”. ما عاب تصريحه في خطابه الارتجالي أمام مؤيديه المنتشين بسكرة الفرح الزائف أنَّه ذكر، ربما سهواً، “ديمقراطيَّة” و”جيشان”. فالسُّودان ليس بدولة ديمقراطيَّة وليس به “جيشان” وإنَّما جيوش، جيش حميدتي، و”جيش” عقار، وجبريل، ومناوي، والطاهر حجر، والهادي إدريس، وجلاب وقيل أردول وعرمان، وجميعهم كانوا “حركات كفاح مسلح”.
التحدي الآخر، هو سكوت الجنرالات عن العدد الذي سيتم تسريحه، إما للتقاعد أو الانخراط في الخدمة المدنيَّة. فما هي التكلفة الماليَّة لهؤلاء المسرحين؟ وما هي نسبة الصرف على هؤلاء مقارنة بما سيتم انفاقه في أو تجنيبه للتعليم والصحة والخدمات الأخرى؟ ولنكون واقعين، لم ننس الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال بقيادة عبد العزيز آدم الحلو، ولا جيش تحرير السُّودان بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور، في حال إحلال السلام ربوع السُّودان. السلام الذي لم يكن أو يذكر حتى الآن في أدبيات النخب منذ انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م المزعوم. .
مهما يكن، للقائد الحلو والأستاذ عبد الواحد نور الجدية لحل الأزمة السياسيَّة من جذورها أولاً قبل الترتيبات الأمنيَّة ولا غرابة في أنَّه الحركة الشعبيَّة ترجمت نظريتها بالبيان بالعمل، فمهنيَّاً، قلما تجد جنديَّاً في جيشها متفلتاً وغير منضبط. بيد أنَّهم يؤدون واجبهم بكل إخلاص وتفاني مدفوعين بإرادة قوية لحماية وطنهم وأرضهم متحدين الموت عند محنتهم، ومدافعين عن مواطنهم لا كما تقوم المؤسسة العسكريَّة والشرطة بقتل المتظاهرين السلميين العُزَّل مثلما فعل أحد ضباط الشرطة بقتل متظاهر يوم الثلاثاء ٢٨/٢/٢٠٢٣م.