خطاب ما بعد ثورة ديسمبر وسياسات الإنتقال السلمي في السودان
محي الدين جمعة
الخطاب: الخطاب هو قطعة أكبر من الكلمة والجملة، سواء كانت كلمة منطوقة أو مكتوبة. ولكن في كتابات أخرى يُعرف الخطاب بشئ ما، إي شيئ يكون له معنى فهو خطاب. وتعرفنا في سياقنا السوداني (مفهوم الخطاب) خلال دراسات نقد الخطاب الديني التي ذاع صيتها. ولكن نحن هنا بصدد الحديث عن الخطاب السياسي، الخطاب المعني بالتغيير السياسي والفكري لدي التنظيمات السياسية للمجتمعات في حالة الإنتقال السلمي. وهذا النوع من الخطابات يتقيد بالتغيير المنهجي والمنظم والمرحلي والذي يتحرك وفق الاولويات الضرورية. والتغيير الثوري يعتمد على امتلاك خطاب جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة. دعونا نرى إلى اي مدى يتشكل خطاب ثورة ديسمبر المجيدة؟.
جماعة الخطاب: لرصد حال الخطاب السياسي المعني بالتغيير من قبل ومابعد سقوط النظام في ثورة ديسمبر المجيدة في 2018م. لابد من رصد جماعة الخطاب. ونقصد بجماعة الخطاب هنا، المعنيين بعملية التغيير سواء أن كانوا من الشق العسكري أو المدني. وأن عملية التغيير مرتبطة بإمتلاك خطاب يعبر عن محتويات ومضامين التغيير. ويتضح وفق معطيات الواقع، وفاعلية ذلك الخطاب لدي المستهلكين للخطاب وهم المواطنين السودانيين. لديهم عدة إشكالات في صياغة محتوى خطاب ثورة ديسمبر المجيدة. وتمثل هذه الاشكالات في بروز نقاط الضعف في الخطاب وإنعكساها سلباً على الثورة وإتجاهاتها. وبالتأكيد بدأ الخطاب يتشكل بإبعاد متفاوتة من تيار إلى آخر، من مدني إلى عسكري، ومن حركات الكفاح المسلح إلى التنظيمات المدنية، ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى. ويتفاوت الخطاب بسبب بعد آخر مهم، ويتمثل في البعد الفكري كمرجعية للصياغة الخطاب، من الفكري الديني اليميني إلى الفكري اليساري الماركيسي أو الاشتراكي. وهكذا دواليك من الاختلافات الفكرية في بنية الخطاب. وإجتمعت كل هذه التيارات المتناقضة فكرياً وكونت حكومة الثورة الحالية في فترة مابعد ثورة ديسمبر. فمنذ قيام الثورة جاءت هذه التيارات السياسية من جهات متباينة فكرياً وسياسياً وإجتماعياً. فجاء جزء منها غير مهياً ومعد نفسه إعداداً كافياً ومبكراً ويتهيأ لادراة الفترة مابعد سقوط النظام. وخاصة الشق العسكري الذي جاء من صلب النظام الساقط. والذي ليس له بديل خطابي غير اسهلاك الخطاب القديم في سياق جديد متناقض مع ذاته.
وقد أنعكست الاشكالات الفكرية في خطابات مكونات الثورة بشكل كبير، والفشل في إيجاد على الحد الأدنى صيغة خطابية متناسقة ومتماسكة لتشكيل الخطاب العام public discourse.
وهي إشكالات خطابية أحتوت على لغة مشيدة بالأخطاء والمغالطات بين تحقيق أهداف الثوره وعدم الروجوع إلى مربع النظام البائد. وفك الإرتباط الجذري من الماضي البغيض. فلم تَعِد هذه التيارات والتحالفات أعداداً جيداً يصل مستواه مستوى التغيير الذي تم. ولو تم ذلك لانعكس إيجاباً على الأوضاع العامة.
بينت الاخطاء والمغالطات ضعف جماعة الخطاب وذلك يعود إلى تكونهم اللغوي والفكري السطحي. وخاصة لدي العسكريين، ومنذ خطاب رئيس مجلس السيادة ونائبه. اللذان يكاد يكون رصيدهما اللغوي من اللغة العسكرية السطحية والتي عادة ما يُستعل فيها جمل وعبارات بسيطة نسبة لقيامها على توجيه الجنود البسطاء المهمشين. كذلك عمل النسق العسكري على الجمل والعبارات الواضحة لايصال التعليمات والتوجيهات دون أن يدفع الجنود إلى التأويل الإفتراض أو الدخول في اشكالية الفهم.
فالخطاب العسكري لغته مباشرة، وبسيطة، وهادفة، وغير مؤولة. ولكن نحن أمام خطابات عسكرية عدة بعد سقوط النظام. هناك خطاب عكسري مرجعيته اللغوية والفكرية، الكلية الحربية السودانية وخطاب مرجعيته الدعم السريع (مليشيات قبائلة متحولة إلى النظام) وخاطب مرجعيته حركات الكفاح المسلح.
أم من جانب خطاب التنظيمات السياسية المدنية ومنظمات المجتمع المدني، ظهر كخطاب إداري وظيفي خاص مبني على الادارة غير سياسي، وللخطاب الوظيفي الاداري نسقه الذي يميزه عن بفية خطابات الاجناس الأخرى مثل الخطاب الطبي أو الهندسي أو… .
تناقضات محتوى الخطاب: تفتقد هذه التيارات إلى نقاط فكرية مشتركة غير ما أحتواه اعلان الحرية والتغيير من خطوط عريضة هشة بالاضافة الى الاتفاق الاقوى وهو ضرورة اسقاط النظام. التناقض الذي يؤدي أهدار جهد الجميع، والتي تدفهم الى عدم الجدية أو التقوقع في الخطاب وإحتكار السلطة مرة أخرى. فلو أندمجت هذه القوى في نظام منسجم ومتناسق للحكم، يمكن ضمان تحول سلمي. ومن ثم يتفاعلوا بدافع ثوري، مثلما تم في الثورة، بروح التضحية. وهي من السمات الايجابية التي تضمن نجاح العملية الإنتقالية. دون المحاولة بالانفراد بالسلطة والدخول في المغامرة.
ضعف المرجعية الفكرية: يظهر ضعف خطاب مكونات ثورة ديسمبر في افتقاره لمرجعيات فكرية واضحة المعالم والإتجاهات. فالتأويلات السياسية التي تتم على خطاب الحكومة، تشير إلى أن توجه الحكومة محدد وفق سياسات صندوق النقد الدولي. وهو بذلك يحدد التوجه الفكري للحكومة وهو مرتبط بالنظام الرأسمالي اقتصادياً وفلسفسياً مرتبط باللبرالية الجديدة new liberalism . فهذا التأويل الافتراضي مبني على معطيات غير دقيقة. وأن كانت في لحظتها الاولى أعتمدت االحكومة على توجهات الصندوق. لا أعتقد أن هذه الحكومة لديها إي تصور فكري في التعامل مع صندوق النقد الدولي أو الدول الغربية ذات التوجه الرأسمالي. غير إنها تريد أن تخرج من ورطة الدولة القديمة من مستنقع الديون المقيدة للحركة والتقدم إلى الامام. وهي حالة ادخلت فيها حكومة الانقاذ الدولة في السنوات الماضية. فاي تطرف أو رفض في التعامل مع المجتمع الدولي وخاصة صندوق النقد أو اي جهة دولية أخرى فهو محاولة إنتحارية Committing Suicide. لأن سياسات الانغلاق للدولة لا تتم الا في حالة الاستقرار والتماسك الداخلي للمكونات السياسية مثل حالة دولة أرتريا. اعتقد يمكن أن يحدد ان خطاب رئيس الوزراء هو خطاب برغماتي والمعروف أن الخطاب البرجماتي يتحرك وفق مصالح الدولة ولا يتقيد بايديولوجية معينة.
فيعود ضعف الخطاب ايضاً كونه يفتقد إلى التنسيق والتماسك بين المكونات السياسية المدنيين والعسكرين من جهة وبينهما مع أطراف السلام في الاهداف والملائمة بين حتمية التغيير أو الرجوع إلى المربع ألاول وهو مربع الفوضى.
فالتيارات التي تفتقد إلى الرؤية، ستفتقد الالتزام ايضاً والانضباط بعملية التغيير، فسيكون لديها شبح النظام القديم Ghost of previous regime ، ولا تلتزم بالتغيير الثوري والذي يحتاج إلى خطاب صارم، لتحقيق طاقة إيجابية قصوى وتوجه الجهود نحو الاهداف. فضعف المرجعية الفكرية لهذه المكونات يسبب فقدام النظام وضبط السلوك الفردي والجماعي بالنسبة لمكونات الثورة كلها، ويعيقها للوصول إلى ألاهداف الاعلى للمواطنيين السودانين وهي الاسس الجديدة التي جسدها المواطنون الثوار في الشعار الرمزي حرية وسلام وعدالة.
تعتبرالمرحلة الانتقالية Transitional Period، أصعب مرحلة من مراحل بناء الدولة State Building لأنها مرحلة تطبيق إهداف الثورة. وعادة تنقسم المرحلة الانتقالية إلى ثلاث مراحل أساسية وهي: المرحلة الاولى التطبيقية، ثم المرحلة الثانية الممارسة ثم المرحلة الثلاثة هي مرحلة الانتقال الى النظام الإنتخابي الذي يأتي عبر الشرعية الإنتخابية. ويمسى ذلك وفقاً للفهم الخاطئ ب-(الديمقراطية). فالديمقراطية ليست شيئ ما يوجد هناك نريد الوصول إليه وإنما هي عملية ممارسة واسعة ذات إبعاد إجتماعية وسياسية وثقافية.
الضعف ايضاً في المحدودية الفكرية والمعرفية بالنسبة للعسكريين، معرفتهم بالخطاب السياسي وإستراتيجاته وعمله في الفضاء العام. فمحدوديتهم الفكرية تجعل خطابهم السياسي المخلوط باللغة العسكرية البسيطة بعيداً عن الواقع المعقد وتشكلاته.
في أول كلمة لرئيس مجلس السيدة بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية. جاءت الكلمة جافة، غير متفاعل مع الموضوعات التي تطرحها إشبه بتلاوة التعليمات الى الجيوش لخوض حرب ما ضد الاعداء. عادة الكلمات الثورة التي تؤسس لمرحلة جديدة تمتلئي بالالهام والشعور بالعظمى والكبرياء نحو المستقبل والجمال والتعاطف (الرومانسية) مع الشعب الذي دفع فاتورة التغيير.
فمن الصعب أن تؤثر هذا الخطابات في التغيير والانتقال إلى وضع أفضل، وهذا ما يفتح الطريق أمام الانقلابات العسكرية وظهور حركات جديدة اي أن كانت اشكالها للبحث عن الخيارات والبحث عن من لهم القدرة الخطابية لاختراق الواقع وتشكله الجديد. فهناك من يبحث عن ثغرات الخطاب وسط الجيش، في أفتقاد القادة العسكريون لغة الخطاب السياسي، ويجهلون مصطلحاته وفنونه ووظائفه الاستراتيجية وهو ما يعقد المشهد السياسي اكثر.